تتفق سرديات عديدة مهما اختلفت، على تصوّر وحيد للعالم اليوم، لذلك يصبح الإيمان بأننا نعيش نهاية التاريخ بديهيًّا، لعل هذا التعبير "نهاية التاريخ" يحيلنا على الفور لفرانسيس فوكوياما، الذي يرى في الرأسمالية الصيغة الوحيدة التي استطاع الإنسان تقديمها والعيش في أتون معاركها مهما كانت حدتها. فعلًا مَن منا يستطيع تصوّر عالم أكثر عدالة؟ ربما يُعدُّ هذا بحد ذاته، عملًا جبّارًا وفائقًا لصالح أي سردية، دفعنا لتصديق أنه من المستحيل بما كان وجود صيغة أخرى نتفاوض بها مع حياتنا على هذا الكوكب. كان الحل إذن بالنسبة لمَن هم ضد الرأسمالية مثلًا، أن يكافحوا لا ضد ارتكاساتها فحسب، بل الإشارة قبل هذا كله للإمكانية والاحتمالية لوجود سرديات لم نعشها بعد.
ماكس فيشر في محاضراته الأخيرة "رغبة ما بعد الرأسمالية" التي تُرجمت حديثًا للعربية، يضع يده على هذا الجرح المفتوح، لذلك يتحدّث عن أهمية "الخيال" في صراعنا مع النظام القائم على الرأسمالية اليوم، ويهمني من هذا كله، تصوّر حاجتنا لـ"الخيال" داخل أي تجربة أخرى، وإن كنتُ متيقظة بصورة كبيرة لأهمية ذلك أو ملاحظة طرح هذه المسألة كمعالجة لأي مشكلة نعيشها اليوم إلا أنه كثيرًا ما يفوتني فعل ذلك إذ إنني أتماهى مع النظام القائم على فكرة وحيدة صادقة ووجه وحيد متاح عن كل ما هو حولي، يصادق "بيونغ شول هان" الفيلسوف الكوري الجنوبي الذي تصاعد نجمه مؤخرًا مع ربطه الفلسفة بالتكنولوجيا وأثرها علينا على هذا في كتابه "معاناة ايروس" الذي يتحدّث فيه عن الحب، إذ يعتقد أن العلاقات العاطفية اليوم تنتهي أو تصبح مأزومة اليوم لنقص في الخيال، وفي إمكانية تصوّر واقع آخر تعيش وتزدهر فيه هذه العلاقات.
محمود درويش يقول بدوره: "سألته: لماذا لا أتذكر، هل تظن أني مريض؟ قال: يحدث ذلك مع مرضى من نوع آخر، مرض الحنين إلى النسيان". كما يتفق العديد من فلاسفة الأخلاق ممن لا أتذكرهم وقد قرأت لهم في صور منفصلة أهمية الخيال في اتخاذ المواقف الأخلاقية، إذ إنه يغذي ويشحن حدسنا وحساسيتنا تجاه أنفسنا والآخرين، فنصبح أكثر "يقظة" مع ترققنا الذي يشحذه الخيال. وعند البحث عن هذه العلاقة وكيف يُفكر فيها يطالعنا اتجاه فلسفي يدعى "الخيال الأخلاقي" والذي يؤمن بأن المخيلة هي منبع التعاطف الأول كما تعمل هذه الأطروحات على النظر في بناء الشخصيات التي عادة ما تتمتع بهذه الخصال واستعدادها للبذل الأخلاقي.
من المهم في زمن الحروب هذا، وفي ظل دعواتها أن نستعيد التفكير في الخيال وأهميته. يكتب الروائي اللبناني هلال شومان كيف يكون مقلقًا بلا حد التبنّي المطلق لقاموس الغزو والاحتلالات والحروب الاستباقية دون أي مسافة نقدية، بمسوغات وطنية كما يُشرح لنا باستمرار. إن هذا الخطاب السياسي ليس تحرريًّا ولا مقاومًا، بل هو خطاب معدوم الخيال، يتعامل مع الموجود فحسب، أي هذا القائم لا يمكن التعامل معه إلا بصورة وحيدة قاتمة.
أفكر في ذلك بصوت عال، تأمل صديقي القارئ كيف تصبح الأشياء "الحتمية" حدودًا لكل شيء في تاريخنا البشري، فأنت مثلًا رهين البيولوجيا في كل شيء ولا تستطيع أن تكون أكثر من ذلك، هذا هو الواقع الذي ينبغي أن تتعامل معه، مثلما يكون الشكل الأمثل للتعامل مع القضية الفلسطينية، هو أن نكون واقعيين وأن نقبل بشروط المحتل اليوم وطبيعته. إن كل هزيمة كما يبدو لي يقف خلفها إيمان بواقعية مصممة سلفًا، وكل ثورة كانت على هذا التصميم قبل كل شيء والتاريخ يقول لنا الكثير عن ذلك، وإلا ما الذي يعنيه أن تستعمر بلادًا لما يزيد على قرن كامل ومع ذلك ينتصر فيها من استعمرتهم ويحطمون قيد أغلالك. لقد تمكنا من تصوّر أنفسنا ونحن نطير في السماء لكي نصبح في غضون ساعة أو ساعتين في مكان آخر، تصوّرنا أن نصل للفضاء، لكننا لا نتصوّر عالمًا لا يوجد فيه فقراء، إلا وتسمع في ذلك طنين أوركسترا المؤامرة؟ ليست مؤامرة تدفعها سلطة واحدة، فعلى حد إيمان ميشيل فوكو، السُلطة ليست موقعًا مركزيًّا يعمل فيه أحد بدوام كامل، إنها سلسلة ممتدة من المساهمات الصغيرة التي تشكّلُ سُلطة واحدة عتيدة ولا يمكن مواجهتها بسهولة لأنها كذلك.
ميشيل دي مونتي وفي مقالاته التي كتبها في القرن السادس العشر -كم يهم ذكر التوقيت هنا- كتب فصلًا كاملًا عن أهمية الخيال في الجزء الأول من مقالاته تحديدًا الفصل العشرين، وقد تُرجمت حديثًا للعربية عن دار نشر معنى، كتب مونتيني "وإليكم آخر جعلته قوة الخيال يتصوّر أنه شفي من البثور التي كان رفيقه يرحل بها إلى إسبانيا، ولهذا ترى ممارسي مثل هذه الأمور يطلبون أن يكون الذهن مستعدًا، وإلا فلماذا يجتهد الأطباء في كسب ثقة المريض مسبقًا بالكثير من الوعود الكاذبة. إن لم يكن ذلك طمعًا في أن يتدخل مفعول الخيال فيستر عورة دوائهم الخادع وهم يعلمون حق العلم أن أحد كبار معلميهم قد ترك لهم وصية مكتوبة مفادها أن من الناس مَن يكفيهم أن يروا الدواء كي يدركوا الشفاء".
ماكس فيشر في محاضراته الأخيرة "رغبة ما بعد الرأسمالية" التي تُرجمت حديثًا للعربية، يضع يده على هذا الجرح المفتوح، لذلك يتحدّث عن أهمية "الخيال" في صراعنا مع النظام القائم على الرأسمالية اليوم، ويهمني من هذا كله، تصوّر حاجتنا لـ"الخيال" داخل أي تجربة أخرى، وإن كنتُ متيقظة بصورة كبيرة لأهمية ذلك أو ملاحظة طرح هذه المسألة كمعالجة لأي مشكلة نعيشها اليوم إلا أنه كثيرًا ما يفوتني فعل ذلك إذ إنني أتماهى مع النظام القائم على فكرة وحيدة صادقة ووجه وحيد متاح عن كل ما هو حولي، يصادق "بيونغ شول هان" الفيلسوف الكوري الجنوبي الذي تصاعد نجمه مؤخرًا مع ربطه الفلسفة بالتكنولوجيا وأثرها علينا على هذا في كتابه "معاناة ايروس" الذي يتحدّث فيه عن الحب، إذ يعتقد أن العلاقات العاطفية اليوم تنتهي أو تصبح مأزومة اليوم لنقص في الخيال، وفي إمكانية تصوّر واقع آخر تعيش وتزدهر فيه هذه العلاقات.
محمود درويش يقول بدوره: "سألته: لماذا لا أتذكر، هل تظن أني مريض؟ قال: يحدث ذلك مع مرضى من نوع آخر، مرض الحنين إلى النسيان". كما يتفق العديد من فلاسفة الأخلاق ممن لا أتذكرهم وقد قرأت لهم في صور منفصلة أهمية الخيال في اتخاذ المواقف الأخلاقية، إذ إنه يغذي ويشحن حدسنا وحساسيتنا تجاه أنفسنا والآخرين، فنصبح أكثر "يقظة" مع ترققنا الذي يشحذه الخيال. وعند البحث عن هذه العلاقة وكيف يُفكر فيها يطالعنا اتجاه فلسفي يدعى "الخيال الأخلاقي" والذي يؤمن بأن المخيلة هي منبع التعاطف الأول كما تعمل هذه الأطروحات على النظر في بناء الشخصيات التي عادة ما تتمتع بهذه الخصال واستعدادها للبذل الأخلاقي.
من المهم في زمن الحروب هذا، وفي ظل دعواتها أن نستعيد التفكير في الخيال وأهميته. يكتب الروائي اللبناني هلال شومان كيف يكون مقلقًا بلا حد التبنّي المطلق لقاموس الغزو والاحتلالات والحروب الاستباقية دون أي مسافة نقدية، بمسوغات وطنية كما يُشرح لنا باستمرار. إن هذا الخطاب السياسي ليس تحرريًّا ولا مقاومًا، بل هو خطاب معدوم الخيال، يتعامل مع الموجود فحسب، أي هذا القائم لا يمكن التعامل معه إلا بصورة وحيدة قاتمة.
أفكر في ذلك بصوت عال، تأمل صديقي القارئ كيف تصبح الأشياء "الحتمية" حدودًا لكل شيء في تاريخنا البشري، فأنت مثلًا رهين البيولوجيا في كل شيء ولا تستطيع أن تكون أكثر من ذلك، هذا هو الواقع الذي ينبغي أن تتعامل معه، مثلما يكون الشكل الأمثل للتعامل مع القضية الفلسطينية، هو أن نكون واقعيين وأن نقبل بشروط المحتل اليوم وطبيعته. إن كل هزيمة كما يبدو لي يقف خلفها إيمان بواقعية مصممة سلفًا، وكل ثورة كانت على هذا التصميم قبل كل شيء والتاريخ يقول لنا الكثير عن ذلك، وإلا ما الذي يعنيه أن تستعمر بلادًا لما يزيد على قرن كامل ومع ذلك ينتصر فيها من استعمرتهم ويحطمون قيد أغلالك. لقد تمكنا من تصوّر أنفسنا ونحن نطير في السماء لكي نصبح في غضون ساعة أو ساعتين في مكان آخر، تصوّرنا أن نصل للفضاء، لكننا لا نتصوّر عالمًا لا يوجد فيه فقراء، إلا وتسمع في ذلك طنين أوركسترا المؤامرة؟ ليست مؤامرة تدفعها سلطة واحدة، فعلى حد إيمان ميشيل فوكو، السُلطة ليست موقعًا مركزيًّا يعمل فيه أحد بدوام كامل، إنها سلسلة ممتدة من المساهمات الصغيرة التي تشكّلُ سُلطة واحدة عتيدة ولا يمكن مواجهتها بسهولة لأنها كذلك.
ميشيل دي مونتي وفي مقالاته التي كتبها في القرن السادس العشر -كم يهم ذكر التوقيت هنا- كتب فصلًا كاملًا عن أهمية الخيال في الجزء الأول من مقالاته تحديدًا الفصل العشرين، وقد تُرجمت حديثًا للعربية عن دار نشر معنى، كتب مونتيني "وإليكم آخر جعلته قوة الخيال يتصوّر أنه شفي من البثور التي كان رفيقه يرحل بها إلى إسبانيا، ولهذا ترى ممارسي مثل هذه الأمور يطلبون أن يكون الذهن مستعدًا، وإلا فلماذا يجتهد الأطباء في كسب ثقة المريض مسبقًا بالكثير من الوعود الكاذبة. إن لم يكن ذلك طمعًا في أن يتدخل مفعول الخيال فيستر عورة دوائهم الخادع وهم يعلمون حق العلم أن أحد كبار معلميهم قد ترك لهم وصية مكتوبة مفادها أن من الناس مَن يكفيهم أن يروا الدواء كي يدركوا الشفاء".