يحلو لي في البداية تسجيل اعترافي بولعي المبكر بالسينما الناطقة بالفارسية التي تأتينا من إيران. كانت أعمال كل من عباس كيارستمي، مجيد مجيدي، وأصغر فرهادي شُرفة مبكرة تفتحها السينما الإيرانية على وعيي بالثقافة الفارسية المتخيلة، كما كانت مدخلي الأول لقراءة الشعر والأدب الفارسي المترجم إلى العربية بشح غريب مقارنة بما يأتينا من الآداب العالمية المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية وغيرها من لغات القوميات البعيدة، الأمر الذي يشي بتأثير المركزية الثقافية على عملية الترجمة إلى لغة الضاد، ويظهر هذا التأثير جليا في ما نقرأه من آداب البلدان الأقرب إلينا جغرافياً وثقافياً وتاريخياً، كالأدب الفارسي والهندي، منقولاً إلى لغتنا عبر لغات أجنبية وسيطة، لا تخرج عادة عن مائدة الإنجليزية والفرنسية. الأمر نفسه ينسحب على المتداول في الغرب من التراث العربي، الأدبي والديني، مرورا عبر لغة أو لغتين أجنبيتين كوسيط بين القارئ الغربي واللغة العربية النائية والمحاصرة بقراءات استشراقية حتى في عصر ما بعد العولمة وما بعد الحداثة.

مناسبة هذا الحديث تبدأ من الجمعية العمانية للسينما والمسرح، التي أطلقت الأسبوع الماضي دعوتها لجمهور السينما في عُمان لحضور «أيام الأفلام الإيرانية»، الفعالية التي نظمتها الجمعية خلال ثلاثة أيام متتالية (من ٧ إلى ٩ مارس) في مقرها بمسقط، بالتعاون مع سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد شهدت أيام الأفلام الإيرانية عرض ستة أفلام لستة مخرجين إيرانيين، وكان نصيبي منها مشاهدة فِلم «مهد الأم» للمخرج بناه بر خدا رضائي. غير أني لست هنا في معرض الحديث عن السينما، رغم كونها باعث هذه السطور، فالمفاجأة الثقافية السارة التي حدثت الأسبوع الماضي في الجمعية العمانية للسينما والمسرح عادت لتراودني بسؤال طويل حول ملابسات الغياب الغامض للثقافة الفارسية عن اللحظة الثقافية في العالم العربي بشكل عام، وفي عُمان بشكل خاص، حيث نقرأ ونسمع باستمرار على إعلامنا الرسمي عن ازدهار العلاقة بين مسقط وطهران، التي تكللت بنجاح الدور العماني في تأسيس قناة سرية للمفاوضات بين إيران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، والصين، إضافة إلى ألمانيا) وأسفرت في النهاية عن اتفاق لوزان النووي الشهير في ٢٠١٥. ومنذ أيام الشاه، حتى قيام الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، تخطت قيادتا البلدين، العمانية والإيرانية، أخطر التناقضات السياسية التي شهدتها المنطقة بتفاهم نادر في محيط خليجي قلق من الصعود الإسلامي في إيران وفكرة تصدير الثورة. وكانت السنوات الدامية لحرب الخليج الأولى الاختبار الأصعب في هذه العلاقة.

ولكن يبدو أن هذا الود السياسي بين مسقط وطهران لم يحظ بعد بما يستحق من استثمار ثقافي يسهم بدوره في تقريب وجهات النظر على المستوى الشعبي بشكل أكبر، ويخلق حالة من الحوار الثقافي تؤسس لمستقبل مشترك بين ضفتي مضيق هرمز. فالمشترك الثقافي الثري بتعدده وتنوعه في كلا البلدين هو نقطة الارتكاز الأهم في هذه العلاقة، وهو يسبق العملية السياسية ويتخطاها. ومسؤولية رجال السياسة في هذا السياق هي العمل على توفير مناخ مشترك وضروري لهذا الحلم الحضاري الذي ينبغي أن يبنى على أساس الحوار والتكامل وليس على وساوس الهيمنة وهواجسها.

من المؤسف أن الثقافة الفارسية ما زالت إلى اليوم تُقرأ في بعض العواصم العربية والخليجية انطلاقا من شاهنامة الفردوسي، والتنقيب في لغتها العنصرية ضد العرب عن قرائن تحفز الكراهية المكبوتة. هكذا يصبح النص مرتكزاً للقطيعة مع الآخر، بدلاً من أن يكون حديقة خلفية لتلاقي الثقافات، وتراثاً صالحا لنقد الماضي الأصولي وفهمه. وهذا يعكس في واقع الأمر عقدة قديمة وخللاً في أسلوب التلقي تطوره كل يوم منظومة التعليم الرجعية والتلقينية من خلال تكريس اعتقادات قطعية وصور نمطية عن الآخرين، ليس في العلاقة بالفارسي فحسب، بل مع سائر ألوان الثقافات الأخرى، الأسلوب ذاته الذي يتعامل به الآخرون مع صورتنا المطعونة. نحن إذاً أمام سوء فهم ثقافي يهيمن على علاقتنا بالفارسي الواقف على الضفة الأخرى من المضيق، سوء فهم يتصدره مع الأسف مثقفون عرب ينصاعون بلا وعي خلف بيرق «صدام الحضارات» الذي يرفعه برنارد لويس. في حين لا يتورع بعضهم عن حث حكومة بلاده بخُطب الانفتاح على الغرب وإبداء حسن النوايا، وبالطريقة والذرائع نفسها يذهب هؤلاء لخطاب التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل.

لنبدأ أولاً بالتوقف عن الادعاء بأننا كعرب على وعي وخبرة طويلة بالثقافة الفارسية، لأن الشواهد الصريحة على وسائل الإعلام العربية دليل جارح على بطلان هذا الادعاء، ونتذكر كيف أن كثيرا من هذه الفضائيات والصحف، بكتبها وكتبتها، تحولت بين عشية وضحاها إلى طبول حرب وأدوات شيطنة. آن الأوان إذن للذهاب خطوة جادة نحو «التطبيع» مع الثقافة الفارسية، والبحث في مراياها ليس عما يشبهنا فقط، بل عن اختلافنا مع الذات والآخرين، وأحب دائماً الاستشهاد بقول أدونيس بأن الثقافة هي «تأسيس الفروقات». ومن الضروري في سبيل هذه الخطوة تغذية الحركة الأكاديمية والطلابية بين الجامعات الإيرانية والجامعات في دول الخليج العربي، والتشجيع على دراسة اللغة الفارسية التي لا تحظى باهتمام يذكر في جامعاتنا التي يكاد بعضها يطرح مقررات خاصة بدراسة اللغات المسمارية بينما يتجاهل تدريس لغة حية ونشطة وذات إرث إنساني بعيد، كاللغة الفارسية.

السؤال الآن: هل بوسع الثقافة أن تحمينا من تصدعات السياسة؟ باعتقادي أن الثقافة بطابعها الإنساني الرحب، وليس الشوفيني المغلق على الذات، هي أسلوب أمن وقائي في اللحظة التي توضع فيها الأصابع على الزناد وترتفع فيها حرارة المياه الإقليمية. والثقافة بهذا المعنى هي من تتصدى اليوم للغة الحرب في أوروبا، أما نجاحها أو فشلها في هذه المهمة فيعتمد على القواعد العريضة التي يرتفع عليها صرح الاتحاد الأوروبي. ونحن في هذا الجزء من الشرق الأوسط بحاجة أكثر من أي وقت لتأسيس كتلة منيعة مشابهة. ولعل الطرف العماني هو الوسيط المؤهل في هذه اللحظة التاريخية لفتح صفحة بيضاء بين الخليج والجوار الفارسي. ومن هنا يمكن تعميم الحدث السينمائي الصغير، الذي شهدته الجمعية العمانية للسينما خلال الأسبوع الماضي، إلى حدث ثقافي ودبلوماسي أوسع يشمل سائر أركان الحياة الثقافية والأكاديمية في عُمان وإيران.

سالم الرحبي كاتب عماني