يأتي الإيمان بأهمية بناء الأوطان، وتعزيز دورها ومكانتها في المجتمعين الداخلي "المحلي"، والخارجي "الدولي" مرتهنًا على عدة معطيات مهمة، يظل في مقدمتها هذا الإنسان "المواطن" الموكول إليه المهمات والمسؤوليات في الشدة والرخاء، وفي الحرب والسلام، وفي العسر واليسر، والأوطان لا تراهن على عزتها، واستقلالها، وحياديتها في مختلف المواقف، إلا من خلال هذا المواطن المعفّرْ جبينه بتراب وطنه، ولذلك يظل هو المحور المرتكز عليه كل تفاعلات الوطن، ولأنه كذلك فهو جبهته الصلدة، وعزته الماكنة.

جاء في قاموس المعاني أن كلمة جبهة تعني: "خط مواجهة حربي، خط النار" أو "تكتل سياسي أو عسكري" أو "الشؤون الداخلية للبلد"، وهي معاني تذهب إلى توحد القوة الميكانيكية والمعنوية على حد سواء، لتصل إلى تحقيق الأهداف الوطنية بشكل خاص، ليعود ذلك كله إلى حاضنة المجتمع لكل أفراده، من الأمن والاستقرار، ومن التنمية والرفاه الاجتماعي، فهذه النتائج مرهون تحققها كلما اكتسب الوطن بعدًا تنمويًا في مجالاته المختلفة، ولمس الجميع نتائج ذلك عبر كثير من مناخات العدالة الاجتماعية، والعدالة التشريعية والقضائية، ولذلك يرى أن سلامة المجتمع تأتي كأحد الأولويات المطلقة في أجندة الجبهات الداخلية، فهي منه وإليه، وهي العلاقة العضوية الشديدة الالتصاق والتمكين، وهذا ما يعطي الجبهات الداخلية المفهوم الواسع والشامل لتنمية المجتمعات في أزمنة الحرب والسلم، حتى لا تكون أحادية التأثير، وكما هو معلوم فإن الأوطان لا ترتهن على فترات زمنية متقطعة في إنجاز مشروعاتها الوطنية، وإنما هي موصولة الحديث بالقديم، وبتتالي الأجيال.

هناك من يثمن دور الجبهة الداخلية في أوقات الحروب بشكل خاص؛ وفي تصوري أن الدور الأصيل للجبهة الداخلية في كل معارك الوطن الحاضرة واللاحقة، ولا تقتصر المسألة على أوقات الأزمات فقط، وإن كان الناس يتكتلون بصورة غير موجهة، في كثير من الأزمات التي تمر على الأوطان، انطلاقا من فطرتهم الإنسانية البحتة، مستشعرين الواجب الإنساني والوطني على حد سواء، دون إملاء، ولكن من المنظور العملي فالمسألة تحتاج إلى كثير من الجهد والعمل حتى تكون ثيمة "الجبهة الداخلية" حاضرة في كل مشاريع الوطن، في الشدة والرخاء على حد سواء، وأتصور أن إلصاق الجبهة الداخلية وتجسيدها في حالات الأزمات والحروب، هو مفهوم مفرغ من محتواه، لأن الجبهة الداخلية معناها قوة المجتمع المدني، والمجتمع المدني هو حاضر في كل الأوقات، وتبقى المهمة الصعبة في تطوير المجتمع المدني، والقدرة على جعله يتبنى مشروعات الوطن الكبرى، ومعنى ذلك فأدوار مؤسسات المجتمع المدني، يجب أن تتسامى، وأن تتحرر من متعلقات الذات والعمل على تكريس المكتسب الشخصي للعضو، إلى السمو في تكريس المكتسب الوطني، ولو جاء ذلك على حساب المصلحة الفردية، ومعنى ذلك أيضا أنه كلما وجد أن مؤسسة ما من مؤسسات المجتمع المدني لا تنتصر إلى المكتسب الوطني في كل أبعاده، لا تستحق أن تكون، فضلا أن تواصل استمرارها بترهل.

يستلزم الأمر عند النظر إلى معززات الـ"جبهة الداخلية" تفعيل المفهوم التشاوري "الديمقراطية"وذلك بهدف تعزيز الثقة بين طرفي النظام السياسي والشعب، فالشعب وهو القاعدة العريضة والحاضنة لمكون الـ "جبهة الداخلية"، ويظل النظام السياسي وهو قمة الهرم، وهو واضع الاستراتيجيات لمسارات التنمية المختلفة، وبالتالي فكلما كان هناك الكثير من التوافق من خلال هذا التشاور، كلما كان لذلك أثره الكبير على رصانة الـ "جبهة الداخلية" فهذه الأخيرة تذهب أكثر إلى الارتهان على قدرات الشعوب، ومدى ولائها وإخلاصها للوطن وبكل مكوناتها المادية والمعنوية، فعندما تكون قرارات السياسة مؤسسة على إظهار السيادة العامة للأمة أو للوطن أو للشعب فيها يكون نيل الاعتراف والتقدير والاحترام من العموم، وعندما يكون بغيرها تكون المواجهة مع العموم ذاته، ويصبح الأمر في مواجهة بين فرض يواجه رفضًا في نفوس المواطنين الذين جميعهم سيواجهون السياسة بفروقهم الفردية إما بالتطبيل والنفاق المتطرفين، وإما بالإفساد والتخريب المتطرفين، وإما بالتآمر والمقاتلة المتطرفين، ما يدل على أن الشكر المقدم ليس بشكر، وأن الحب الظاهر ليس بحب باطن، وأن التأييد ليس بتأييد، فقط سيظل التصفيق هو التصفيق" كما يقول الأستاذ الدكتور عقيل حسين عقيل في كتابه التطرف من الإرادة إلى الفعل.

يفترض أن يسعى المشروع التنموي إلى ترسيخ القناعات بأهمية المكتسبات الوطنية، وجعل هذه المكتسبات تحظى بالعناية والرعاية لدى كل أفراد المجتمع، ولو بنسب مختلفة وفق الوعي العام بأهمية المكتسب، والمسألة هنا لا تخرج عن مفهوم التثقيف، وهذا التثقيف يرتبط بالنشأة ارتباطا موازيا، حيث تعمل الأسرة، ويعاضدها في ذلك المدرسة من خلال المنهج، وتصويب سلوكيات الطلاب إلى المكتسب الوطني على أنها مكتسب الجميع، وأي إضافة نوعية فيه محسوب للجميع، وليس لشخص أو جهة معينة، وبالتالي ومن خلال هذا الحقن غير المباشر، تتكون لدى الناشئة قناعات بأهمية الوطن، والمحافظة على منجزاته المختلفة، وهذا ما يذهب إليه معنى الوعي الاستراتيجي المتعدد المفاهيم والمناخات، صحيح أن ذلك يتطلب جهودا كبيرة من خلال برامج متعددة الوسائل والأهداف، وبذا يحضر تأصيل التماسك الاجتماعي، وتغذية الناشئة من خلال برامج العمل التطوعي، كأحد الوسائل المهمة لإعلاء شأن الجبهات الداخلية، وجعلها أحد الأولويات في مراحل أجندات التنمية، ولا يمكن إطلاقا فصل هذه الأجندات دون النظر إلى الداعم الأساسي لها، وهي الجبهة الداخلية لأنها تمثل "الشؤون الداخلية للبلد" كما جاء في التعريف أعلاه.

يقول الدكتور حيدر مثنى -من جمهورية العراق الشقيقة- في مداخلة له على موضوع "الوعي الأمني الاستراتيجي.. في بعده الاجتماعي" المنشور في هذه الصفحة يوم الاثنين الماضي 7/3/2022م، ما نصه: "أستحضر مفاهيم التنشئة من كتاب علم الاجتماع للمؤلفين (اوجبرن) و(نيمكوف) واللذين يؤكدان أن التنشئة هي: تلقين الفرد قيم ومقاييس ومفاهيم مجتمعه الذي يعيش فيه، ليصبح متدربا على إشغال مجموعة أدوار تحدد نمط سلوكه اليومي، ويشير المفهوم كذلك إلى إعداد الفرد منذ ولادته ليكون كائنا اجتماعيا وعضوا في مجتمع معين، الأمر الذي يتطلب تكاتف جهود العائلة وصولا للارتباط بدور مؤسسات الحكومة النابعة من طبيعة المجتمع ذاته، وبهذا تتكامل عملية إنشاء جيل يسير بخطى قائمة على التقاليد والأعراف المغروسة في الفرد، ليكونوا فاعلين ومؤثرين إيجابيين داخل منظومة قيمية اجتماعية داخل الدولة ككل".

تبقى مهمة تقليص الفوارق الطبقية والفئوية بما في ذلك المذاهب والأديان في أي مجتمع من التحديات الكبيرة التي يواجهها صانع القرار، مما يؤجل أو يعرقل صناعة جبهة داخلية في أي بلد يسعى نظامه السياسي إلى ضرورة العمل على تشكيل جبهة داخلية محمية من كل القوى المشكلة للنسيج المجتمعي، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويندرج تحت هذه الصناعة أيضا تأصيل الهويات الوطنية من القيم والعادات المتجذرة، والتي لا تتعارض مع المشروعات التنموية، ويأتي في مقدمتها الهويات الثقافية، وتقليل مشروعات التجنيس، والحد من البرامج التي تهدف إلى تنظيم سياسة النسل.

تتسامى الجبهة الداخلية عن المكتسب المادي الآني، وتسجل خطوات وثابة في ذخيرة الوطن، لتصل في النهاية إلى مكتسب وطني، أكثر منه مادي مؤقت، ومن أجل ذلك يتحتم الأمر أن تُولى لهذه المسألة الكثير من الاهتمام والعناية، وتصان بكل الوسائل، ولا تترك عرضة لأي مغرض، صحيح أن المحافظة عليها مسألة ليست هينة، فالإنسان مخلوق ضعيف، تتنازعه قوى ذاتية كثيرة، قد توجد فيه الكثير من التشققات الداخلية، خاصة عندما يصطدم بواقع لا يتوقعه كما يريد، أو كما يتوقع، فتكون لديه ردات فعل سلبية تجاه منجزه الوطني، ولأن المسألة فيها شمولية الـ"الجمع" فيبقى من المعاناة الوصول إلى ترسيخ القناعات الإيجابية للكل، ولكن -ووفق المثل-: "ما لا يدرك جله، لا يترك كله".

• أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي، ورئيس القسم الثقافي في جريدة عمان حتى عام 2009.