ترجمة أحمد شافعي -

في خضم الرعب الماثل لغزو روسيا لأوكرانيا، يبدو أن منطة الحرب المتوسعة في أوربا قد أصبحت منطقة أمان للمؤسسة السياسية الأمريكية. ففي خطاب حالة الاتحاد، أعلن الرئيس بايدن قوله "إننا نرى أوروبا أكثر توحدا، وغربا أكثر توحدا" في مواجهة عدوان فلاديمير بوتين. وهو على حق. فالقوميون البولنديون وموظفو الاتحاد الأوروبي باتوا على حين غرة إخوة يرتمون في أحضان بعضهم بعضا. والجمهوريون والديمقراطيون، هنا في الوطن، نحَّوا اختلافاتهم حول تغير المناخ وحقوق التصويت، أمام عدو يبدو أنه خرج لهم من قلب الحرب الباردة في هيئة امبراطورية شر تتقدم مرة أخرى في أوربا.

كما أن غزو روسيا يوفر للناتو المكافئ الجيوسياسي للإنعاش القلبي. وقد قوبلت مطالبات واشنطن السنوية للأوروبيين بدفع حصصهم في المنظمة الأمنية التي تدافع عنهم بتصويت غير مسبوق في ألمانيا لزيادة ميزانية البلد العسكرية وإسهامها في الحلف. وتركيا ـ وهي منذ سنين عضو مارق في الناتو تتشري الأسلحة منه وتقيم التحالفات التكتيكية مع الرئيس بوتين ـ رجعت إلى الجماعة عضوا ذا موقف محمود وقدمت طائرات بايراكتر المسيرة التي يتردد أنها أحبطت القوات الروسية وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية.

من المؤكد أن التوحيد الأوروبي الذي يتكلم عنه الرئيس بايدن حقيقي، لكن المفارقة القاسية هي أن التماسك الأوربي يبدو غير قابل للتحقق إلا من خلال مزيد من الارتباط بصارية القوة والمزايا الأمريكية. فكرة أوروبا المستقلة جيوسياسيا التي تتصرف مستقلة عن الولايات المتحدة ـ وهي فكرة عزيزة تاريخيا على الفرنسيين ـ تتحول سريعا إلى فكرة بعيدة المنال. والحقيقة أن الأوربيين يعيشون في أوروبا ويقيّمون التهديدات التي يتعرضون لها تقييما مختلفا عن تقييم موفري الأمن الأمريكيين الذين يعيشون على بعد خمسة آلاف ميل من موسكو، ولو أن هذه الحقيقة لا تبدو في بعض الأحيان ماثلة لدى واشنطن. وكلما خلطت أوروبا وأمريكا مصالحهما الأمنية، قلت قدرة أوربا على احتلال مكانها الخاص في العالم ولعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة والقوى المنافسة لها.

لكن المشكلة الأكبر هي أن "الغرب" ـ الموحد الملتزم حسب زعمه بمحاربة الاستبدادية ـ يظهر هو نفسه دلائل تبني منطق الرئيس بوتين المركَّب القائم على الهوية والصراع الحضاريين. وقد تكون النتيجة منافسة تصعيدية يتحدى كل طرف فيها الآخر لاعتقاد بأن هويته الحضارية المتضخمة عرضة لخطر وجودي.

ذلك لأن عدوان الرئيس بوتين قد أحيا أيضا فكرة كانت تكافح في الآونة الأخيرة، وهي فكرة الحضارة الغربية نفسها. في خطاب لافت في بولندا سنة 2017، حاول دونالد ترامب جاهدا أن يحيي فكرة الدفاع عن الحضارة الغربية، فلم يكن ذلك بالنسبة لليبراليين الغربيين غير كلمات جوفاء من رجل أثار أسئلة حول وجود الناتو نفسه. والآن رجع الكلام عن الغرب، بما تصاحبه من مصطلحات أعيدت إلى الخدمة الفعلية من قبيل "العالم الحر" و"الحضارة الغربية" .

من الأمور اللافتة في الحضارة الغربية أن الفكرة غير قديمة أصلا. فقد تصدرت خلال الحرب العالمية الأولى، حينما اعتبر الليبراليون الأنجلوفون أن الصراع ضد ألمانيا وحلفائها ـ أي الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية المجرية ـ حرب بين الحضارة الغربية والطغيان الشرقي. فكان الليبرالي الكوزموبوليتاني جون مينارد كينز على قناعة بوجود فجوة حضارية بين الألمان والأنجلو سكسونيين، بينما الروس ـ وإن كانوا متحالفين مع الغرب ـ بعيدون تماما عن الحداثة الغربية. في غداة الحرب العالمية الأولى، بدأ تدريس مناهج الحضارة الغربية في جامعات النخبة الأمريكية.

مع نشوب الحرب الباردة، حل مصطلح "العالم الحر" محل مصطلح "الغرب" لأن القوة الأمريكية طالبت بلافتة أكثر شمولا عالميا فيتسنى حشد أبناء الجنوب في فييتنام وإندونسيا وغيرهما في الحرب على "مجتمعات العبيد" الشيوعية. غير أن بعض المفكرين الأمريكيين المحافظين مثل صمويل هنتنتن جاءوا بعد الحرب الباردة فأحيوا فكرة الحضارة الغربية بوصفها سبيلا لإحياء الطابع الدرامي لوقوع مجموعة قيم تحت حصار أخطار جديدة من قبيل المهاجرين والإرهابيين والقائلين بالنسبية في الأخلاق.

كان يفترض بنهاية الحرب الباردة أن تزيل الانقسام بين الشرق والغرب. لم يفترض أحد ذلك أكثر من الرئيس بوتين نفسه، الذي كان في يوم من الأيام متلهفا على الانضمام إلى نادي الغرب. فحينما تولى السلطة للمرة الأولى عند انعطاف القرن، داعبته فكرة انضمام روسيا إلى الناتو، وإنها لمعجة أن الناتو نفسه لم يعتبر فكرة عفا عليها الزمن بمجرد اختفاء السبب في وجوده أي الاتحاد السوفييتي. يروى أن بوتين سأل السكرتير العالم للحلف جورج روبرتسن سنة 2000 "متى ستوجهون إلينا الدعوة للانضمام إلى الناتو؟" وحينما أوضح له السكرتير العام أن للنادي إجراءات التحاق صدَّه بوتين قائلا "حسن، لن نقف في الصف مع كثير من البلاد التي لا قيمة لها".

في تلك الفترة كان لم يزل من الممكن تخيل أن الاتحاد الأوربي أيضا قد يضم روسيا يوما ما. بل إن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران أطلق في نهاية الحرب الباردة فكرة إنشاء منظمة جديدة ـ كونفيدرالية أوروبية ـ تضم روسيا السوفييتية دون الولايات المتحدة. وخلال سنواته الأولى في الحكومة كان الساسة والصحفيون الغربيون ينظرون نظرة إيجابية إلى بوتين. فقد نصح توماس فريدمان قراءه في نيويورك تايمز بـ"مواصلة دعم بوتين" سنة 2001، ووصفته مادلين أولبرايت بـ"الرجل القادر" واعتبره بيل كلينتون شخصا "يمكن أن تعمل مع الولايات المتحدة".

ولعل الرئيس كلينتون كان أقرب إلى الصواب مما كان يعلم. إذ بدا أن موقف "العمل" الذي حدده كلينتون هو المفتاح لفهم رئيس روسيا. لقد ورث الرئيس بوتين رؤية شديدة الخصوصية لحقيقة الغرب الفعلية. فالغرب بالنسبة إليه ـ بحسب ما قال مساعده القريب السابق جليب بافلوفكسي ـ مرادف للنظام الرأسمالي الليبرالي الذي يفهمه في ضوء التصوير السوفييتي الكاريكاتيري: فيعني التسامح مع الطغمات الحاكمة، وخصخصة الصناعات التابعة للدولة، وتقديم الرشاوى وتلقيها، وتفريغ الدولة من قدراتها، والقبول بما يشبه تقاسم السلطة. وظن الرئيس بوتين أن سلفيه ميخائيل جورباتشف وبوريس يلتسين قد فشلا بسبب فشلهما في فهم هذا.

بل إن الرئيس بوتين كان يفعل أفعال المتودد بذكاء للغرب من أوجه كثيرة. فانضم بشجاعة إلى "الحرب على الإرهاب" وسمح لاحقا للولايات المتحدة باستعمال قواعده للحرب في أفغانستان، وقضى على "تمرد" إرهابي في الداخل. ومنذ توليه السلطة وهو يجعل من موسكو نموذجا للاستقامة المالية ووفقا لما قال مساعده سابق الذكر فقد فكر في إقامة نظام الحزبين الأمريكي في روسيا.

ولكن مع تعرض اقتصاد الرئيس بوتين للانهيار مع ثراء الدولة، حاول أن يدعم القطاع الحكومي، ونحا إلى اتخاذ إجراءات متزايدة الاستبدادية في الداخل. ومع ترحيب بلاد حلف وارسو السابق بتوسيع الناتو، تحول بوتين إلى الفهم الحضاري لمكان روسيا في العالم، وهو فهم قائم على قيم "شرقية" هي الشوفينية البطريركية للكنيسة الأورثوذكسية، والقوانين المناهضة للمثلية، وكذلك فكرة الهوية الروسية العرقية الكبرى وإن يكن منبعها القديم ـ والمزعج ـ هو كييف في أوكرانيا. وتعرض المعارضون لهذه الصورة الحضارية الجديدة من أمثال حركة بوسي رايت وغيرها للانتقام السريع.

كان اتجاه الرئيس بوتين ذلك انعكاسا لظاهرة أوسع هي إضفاء الطابع الليبرالي والاستبدادي على الاقتصاد في محاولة لملء فراغ أيديولوجي بدا أنه مهدد بالامتلاء ولعا بالغرب. وفي الصين أيضا في أواخر العقد الأول من القرن الحالي حدثت انعطافة في بكين إلى الفهم الحضاري، حيث نشر قراء هنتنتن المخلصون أفكار الحضارة الصينية من خلال معاهد كونفشيوس العالمية أو برنامج "الثقة في النفس ثقافيا" وهو ما يعبر عنه الرئيس شي جينبنج اليوم في "فكره" المبهم.

صدَّرت تركيا أيضا، في ظل حكم الرئيس رجب طيب إردوجان، رؤية مجال عثماني جديد يمتد من شمال أفريقيا إلى وسط آسيا في انفصام صارخ عن رؤية أتاتورك الأكثر تقيدا بالقومية. وفي الآونة الأخيرة أحيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أفكار التفوق الهندوسي معظما من ماضي الأمة العتيق ـ فالهندوستان هي روسيا الكييفية ـ مستعملا إياه هراوة في وجه خصومه. ويبدو الانعطاف إلى التخيل الحضاري أداة نافعة لدى النخب الحاكمة الراغبة في قمع أشكال التضامن ـ سواء الطبقية أو الإقليمية أو البيئية ـ وفي النيل من جاذبية الكوزموبوليتانية لدى نخبها الاقتصادية.

مع كل هذا الحديث عن فوز أوكرانيا ـ برغم كل ما على الأرض من خسائر ـ في حرب العلاقات العامة، ثمة إحساس بأن الرئيس بوتين فاز بالفعل على مستوى تأطير الصراع. فكلما سمعنا أكثر عن عزيمة الغرب، ازدادت قيم النظام الدولي الليبرالي شبها بمجموعة مبادئ إقليمية لبشر بعينهم في مكان بعينه.

فمن بين البلاد العشرة الأكثر سكانا في العالم، لا يؤيد غير الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية كبيرة على روسيا. فإندونسيا ونيجريا والهند والبرازيل أدانت جميعا الغزو الروسي، لكنها لا تبدو مستعدة لاتباع الغرب في ما يفضله من إجراءات مناهضة. ولا يبدو أن الدول غير الغربية ترحب بالاضطرابات الاقتصادية التي سوف تنتج عن "إحاطة عنق اقتصاد بوتين بأنشوطة" على حد تعبير السناتور روب بورتمان. فمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط تعتمد على روسيا في أساسيات من الأسمدة إلى القمح، وشعوب آسيا الوسطى تعمد على تحويلات روسيا المالية. ولا يبدو مرجحا أن تؤدي الاضطرابات الكبيرة في هذه الشبكات الاقتصادية إلى تخفيف معاناة الأوكرانيين.

وبرغم فعالية العقوبات اللافتة في تجويع الأطفال العراقيين والإيرانيين، والأفغان حاليا، مع إشباعها شهية الأمريكيين إلى التعظيم الأخلاقي، فنادرا ما نجحت العقوبات الاقتصادية الحديثة في كبح سلوك أي نظام. وغياب الحماس في العالم لتوجيه الغرب أسلحته الاقتصادية على روسيا يشير إلى أن العالم ليس مشغولا فقط بإلحاق الشقاء الاقتصادي ولكن أيضا بالتصعيد العالمي لصراع بين "حضارتين" تشتركان في السيطرة على أسلحة العالم النووية.

لقد جاء الرئيس بوتين نفسه إلى السلطة على أنقاض فوضى روسيا الاقتصادية في التسعينيات. ولسوف يكون من التسرع أن نفكر أن فوضى اقتصادية جديدة سوف تثمر عنقاء يطيب للغرب أن يراها تقوم من وسط الرماد.

• توماس مينييقوم مدرس في جامعة هبمولت في برلين ويكتب بانتظام عن سياسة أمريكا الخارجية والعلاقات الدولية والتاريخ.

** "خدمة نيويورك تايمز"