مما لا شك فيه أن الجزائر، بلد المليون شهيد، هي من الدول العربية ذات الثقل والمكانة على المستويين الرسمي والشعبي العربي، ليس فقط الآن ولكن منذ حرب التحرير الطويلة ونيل الجزائر لاستقلالها عام 1962، ومرورا بالعقود الماضية، ولعله من حسن طالع القمة العربية التي تأجلت عامي 2020 و2021، أن تكون الجزائر هي التي ستستضيف القمة العربية التي كان من المقرر عقدها في شهر مارس الجاري، والتي أعلن الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربي السفير حسام زكي الشهر الماضي تأجيلها إلى ما بعد شهر رمضان القادم، فالجزائر بثقلها ومكانتها وبعد نظرها يمكنها، وبتعاون الدول العربية الأخرى، تأمين مختلف عناصر ومعطيات إنجاح القمة القادمة، والتي باتت ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ودون أي مبالغة، خاصة في ظل معطيات الواقع العربي الراهن، وحالة التدهور غير المسبوقة في العلاقات العربية-العربية، وفي ظل تشرذم وتفكك أكثر من دولة عربية ووقوعها في بئر الدول الفاشلة بشكل أو بآخر.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: لعله من المفيد عربيًا أن نتوقف، ولو قليلا، عن ندب الحظ وعن لعن الزمن العربي الرديء، وعن البكاء على أطلال لن تعود، وبدلا من ذلك نسعى وبأكبر قدر من الإخلاص والمصداقية من أجل البحث عن كيفية الخروج من هذه الوهدة التي وقع فيها العالم العربي، والتي جعلته أقرب إلى الجثة المثخنة بالجراح، والتي يتسابق عليها الذئاب من حولها لنهشها وللتوسع على حسابها بكل السبل الممكنة.

وإذا كان توغل الدول الإقليمية الواقعة على محيط العالم العربي، بالإضافة إلى إسرائيل، قد بلغ حدًا غير مسبوق لصالح تلك الدول، وضد المصالح والأمن القومي العربي كذلك في الحاضر والمستقبل، فإن الاشتباك العربي-العربي الساخن في شكل حروب ومواجهات مسلحة، وغير الساخن في شكل حروب إعلامية وسياسية مباشرة وغير مباشرة، امتدت للأسف إلى بعض فئات الشعوب العربية، بشكل أو بآخر من خلال الردح المتبادل على وسائل التواصل الاجتماعي، باتت تهدد الصلات والوشائج والقيم والمشتركات العربية بشكل حاد وحقيقي، خاصة إذا استمرت على ما هي عليه.

وليس من المصادفة على أي نحو أن تطل علينا أصوات وتوجهات تشكك بشكل واضح وصريح في الرابطة العربية، بل وتدعو إلى تجاوزها وإنكارها تمشيا مع التطورات التي تعم المنطقة والعالم. ولأنه من المتوقع أن تزداد هذه النغمة والدعوة وضوحا في الفترة القادمة، فإن ذلك في حد ذاته يدعو إلى ضرورة عقد القمة العربية القادمة، والتهيئة الجيدة لها من أجل أن تكون قمة فارقة في مسار العمل العربي المشترك.

وقد يقول قائل إن الخلافات والاشتباكات العربية المعلنة وتحت السطح أكثر عددا، وأكثر تعقيدا من كثير من الخلافات العربية-العربية السابقة، وأنها ستحتاج بالضرورة إلى جهد وعمل دؤوب ومتواصل من أجل محاولة تطويقها على الأقل، أو في الحد الأدنى تمهيد المناخ العربي وتهيئة الدول العربية للسير نحو إيجاد قدر من التوافق لا غنى عنه كأساس لأي خطوات عملية مجدية على هذا الطريق.

ومع التأكيد على صحة ذلك، فإن الأمل يحدونا في تحقيق هذا الحد الأدنلا الضروري، إذا استطعنا الاستفادة من الخبرة العربية السابقة في هذا المجال. خاصة أن العلاقات العربية-العربية لم تخل أبدا من خلافات صغيرة أو كبيرة بين الأشقاء، ولكن الرهان كان بالأمس، وهو اليوم أيضا، على قدرة القيادات العربية على تفهم الأخطار المحدقة بالمنطقة ودولها، على المستويين الفردي والجماعي، وعملها - أي القيادات العربية، بوعي وإخلاص، من أجل التهيئة للسير على طريق التقارب بين الأشقاء مرة أخرى.

مع إدراك حقيقة أن هناك مسافة وفترة زمنية لا بد من عبورها بين وقف التدهور، وبين السير العملي نحو التقارب والتوافق بين الأشقاء، فهل ستكفي المسافة والفترة الزمنية من الآن حتى انعقاد القمة بعد شهر رمضان لتحقيق هذه التهيئة؟ وإذا كانت المسافة والفترة الزمنية لا تزيد كثيرا على الأشهر الأربعة القادمة، فإن ذلك يلقي في الواقع عبئا مضاعفا على القيادات العربية وعلى الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ومساعديه في الأمانة العامة للجامعة أيضا.

ثانيا: إنه إذا كانت قمة العلا الخليجية في يناير من العام الماضي قد تجاوزت إحدى المشكلات الكبيرة في العلاقات العربية-العربية، وأنهت القطيعة بين دولة قطر وبين السعودية والإمارات ومصر والبحرين، فإن المشكلات العربية الراهنة تحتاج إلى قرارات على غرار قوة وحسم قرار قمة العلا، وعلى النطاق العربي الأوسع.

وفي هذا الإطار فإنه مما يحسب للجزائر أنها أعلنت وبوضوح أنها تريد أن تكون القمة القادمة على أرضها بمثابة قمة جمع الشمل العربي، وقمة تجاوز الحالة العربية المتهالكة الراهنة، وقمة استعادة التضامن والتماسك العربي مرة أخرى.

ومصداقًا لذلك قام وزير الخارجية الجزائرية رمطان لعمامرة بزيارة لكل من القاهرة والرياض وأبوظبي والدوحة أوائل هذا العام، كما قام الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بزيارة إلى القاهرة لمدة يومين في 24 يناير الماضي والالتقاء مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وليس مصادفة أن يتزامن مع ذلك إعلان حسام زكي الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية تأجيل القمة العربية في الجزائر إلى ما بعد شهر رمضان على أن يقوم وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم المقرر في إطار مجلس الجامعة في التاسع من مارس الجاري بتحديد الموعد المناسب لعقد القمة، إذا التقت الدول الشقيقة على موعد معين يحقق ما تتطلع إليه الجزائر وما تنتظره الدول والشعوب العربية من القمة القادمة.

ومرة أخرى فإن الأشهر الأربعة القادمة بوجه عام تظل حاسمة في إمكانية التوصل إلى موعد متفق عليه لقمة الجزائر.

صحيح أنه لن يمكن خلال المدة المشار إليها وفي الحروب والاشتباكات العربية ولا إقناع الدول الإقليمية بوقف تغولها على حساب الأرض والمصالح العربية، لأنها ببساطة تعززها باستمرار على الأرض بكل السبل المتاحة، كما أنه لن يمكن الانتقال بعصا سحرية من الحالة الراهنة إلى ما هو مأمول، وما تتمناه الشعوب العربية، ولكن الصحيح أيضا هو أن هذه المدة يمكن ان تكون كافية لإيجاد قناعات قوية وعميقة لدى القيادات العربية، بأنه بات من الضروري وقف السير على المنحدر، وضرورة القيام بكل ما هو ممكن للتهيئة من أجل السير نحو التقارب والتوافق العربي، وهو ما يتطلب الاستعداد للتوصل إلى حلول سلمية وإلى حل الخلافات بتقديم التنازلات المتبادلة وإعلاء المصالح الجماعية، والترفع عن استغلال مشكلات بعض الأشقاء أو ظروفهم الصعبة للعمل ضد مصالحهم أو للتحالف ضدهم بشكل علني أو سري من جانب شقيق أو أكثر، مع المبادرة بوقف التصعيد في الخلافات وإتاحة الفرصة للم الشمل العربي مرة أخرى.

وإذا كانت المشكلات الراهنة في اليمن وليبيا وسوريا لن تحل عسكريًا لأسباب كثيرة ومعروفة على نطاق واسع بين المتخصصين والمتابعين، فمن المأمول أن تلتقي الأطراف العربية المعنية باليمن وليبيا وسوريا للاتفاق فيما بينها على السير نحو حلول سلمية، وأن تلتقي جميعها مع الأطراف الإقليمية لحثها على وقف تدخلاتها في الشؤون العربية ووقف نهشها للجسد العربي والتوسع على حساب المصالح العربية.

وإذا رفضت بعض القوى الإقليمية هذا الجهد والمسعى العربي، فإنه من المأمول أن تكون القمة العربية القادمة في الجزائر بمثابة وقفة قوية وحاسمة في هذا المجال وبتأييد ودعم كل الأشقاء كذلك.

وفي ظل إعلان الجزائر عن رغبتها في أن تكون القمة القادمة على أراضيها قمة جمع الشمل واستعادة التضامن العربي وإعادة الاعتبار لمؤسسة القمة العربية، فإن عليها كدولة مضيفة للقمة مسؤولية مضاعفة في التهيئة لإنجاح القمة العربية وإعطاء المثل في الترفع عن الخلافات ووقف التصعيد والتهيئة الصحيحة لإنجاح القمة القادمة، بغض النظر عن أي منطلقات أيديولوجية، أو مواقف سابقة في هذا المجال، إذ أن الحاضر والمستقبل العربي باتا مرهونين، إلى حد كبير، بنجاح القمة القادمة وضروراتها في الحاضر والمستقبل.

فهل يتحقق ذلك؟ نعم... الأمل كبير ولم يعد هناك ما يمكن إخفاؤه عن الشعوب العربية التي تتوق إلى السلام والاستقرار وتحقيق حياة أفضل لأبنائها والكرة في ملعب القيادات العربية ومع الوضع في الاعتبار أهمية وخطورة ما يجري في أوكرانيا والاحتمالات الخطرة لميل الغرب وحلف الإطلنطي إلى التصعيد واحتمالات توسيع رقعة الحرب إلى دول مجاورة لأوكرانيا، فإن ذلك في حد ذاته يظل دافعًا قويًا للدول العربية لأن تعمل لاستجماع قواها واستعادة تضامنها وتأمين حاضرها ومستقبلها ومستقبل شعوبها.

___________

د. عبدالحميد الموافي - كاتب وصحفي مصري