في جلسة عشاء مع الجيران دار حديثٌ عن معرض مسقط للكتاب، وطرح أحد الأصدقاء سؤالا يتكرّر كثيرًا: هل مازال للكتاب جمهور مع التقدّم التكنولوجي الرقمي، الذي جعل العالم أشبه بالغرفة الصغيرة حقيقةً لا مجازًا، وأصبحت وسائل الاتصالات الحديثة هي المسيطرة على الناس، خاصةً جيل الشباب؟
كان رأي صديقي أنّ التكنولوجيا الحديثة - خاصةً الهواتف الذكية - أدّت إلى الاستغناء عن متابعة القنوات الفضائية والإذاعات والصحف الورقية، وإلى الابتعاد عن الكتب الورقية، لأنّ كلّ ما يحتاجه المرء يجده في متناول يده عبر شاشة الهاتف الصغيرة، الذي أصبح وسيلة من الصعب الاستغناء عنها، بعد أن ضمّ الإذاعة والتلفزيون والصحف والكتب والأخبار الشاملة، ممّا اختصر للناس التكاليف المادية والوقتية، وأصبح البعض يميل إلى الكتاب الإلكتروني، الذي أصبح في متناول الجميع مجانًا، لا يكلف القارئ جهد الذهاب إلى المكتبات.
قرأتُ تحقيقًا نشرتْه جريدة عُمان يوم 19 فبراير 2022، عن أسباب إغلاق بعض المكتبات السورية أبوابها، ولماذا يعزف الناس عن القراءة، ربما فيه بعض الإجابات عن السؤال المتكرر دائمًا: هل القراءة في خطر؟ صحيح أنّ سوريا تمرّ حاليًا بظروف صعبة، جعلت أولويات الناس تتجه إلى أمور أخرى، إلا أنّ التحقيق لا يخلو من بعض الأسباب التي جعلت الناس يوجِّهون اهتماماتهم بعيدًا عن شراء الكتب، خاصةً الأوضاع الاقتصادية للناس، التي ساءت كثيرًا عن قبل. ويذكر بسام جميدة الذي استطلع آراء المثقفين والكتّاب السوريين عن أسباب هذا الإغلاق، أنّ جدلًا كثيرًا دار في الأوساط السورية، ليس فقط بين شريحة الذين يتعاطون الثقافة، بل وحتى بين من يقرأ ولا يقرأ، بعد أن تخلت كثيرٌ من المكتبات عن عملها الأساسي في مختلف المدن السورية. ويرصد المكتبات المهمة التي أغلقت أبوابها في دمشق، والتي كان لها دورٌ مميزٌ في الحركة الثقافية والتنويرية ليس في سوريا وحدها، بل في الوطن العربي كله، مثل مكتبة اليقظة التي كانت من أهم دور النشر في المنطقة العربية، وغيرها الكثير. وفي إشارة لافتة يذكر بسام أنّ مكتبة ميسلون تحولت إلى مقهى، وتحولت مكتبة اليقظة لمحل لبيع الأدوات الكهربائية، فيما تحولت مكتبة أطلس إلى متجر للملابس، ومكتبة العائلة إلى صيدلية وهكذا. ولم يقتصر الأمر على مكتبات دمشق، فمدينة حلب أيضًا أغلقت مكتباتها، وهي التي شهدت ولادة رواية عربية مبكرة هي "غابة الحق" لفرنسيس المراش عام 1865م، وتراجع سوق الكتب والقراءة لصالح التجارة وغيرها، فتحولت بعض المكتبات إلى مطاعم ومحال حلويات، فيما تحولت أخرى لمحل بيع الحقائب والأحذية، وكأنّ الحذاء أهم من الكتاب.
هل كان للحرب في سوريا دورٌ في إغلاق هذه المكتبات وتحويل بعضها إلى مطاعم ومحلات بيع الحقائب والأحذية؟ ربما أنّ الحرب فعلا لها الدور الأساسي في جعل القراءة عند الناس من الترف الذي لا فائدة منه، ولكن عندما تغلق المكتبات أبوابها، ويتحوّل مسارها لعمل آخر، فالأمرُ خطير، وهو مرشح أن يتكرر في أماكن أخرى. ويجد الكاتب سامي مروان مبيّض عذرًا لأصحاب المكتبات، لأنّ الناس - حسب رأيه - تفضّل اليوم القراءة السريعة على هاتفها الذكي، ولم تعد تهتم بقراءة الكتب، ناهيك عن سعر الكتب، وتكلفة إنارة وتشغيل وتدفئة المكتبات. "وكم من مرة رأيتُ فيها زبائن يفاوضون أصحاب المكتبة على سعر الكتب، وكأنها جرزة نعنع أو كيلو خيار"، ويشير إلى أنّ عدد المقاهي في دمشق اليوم يفوق عدد المكتبات بأضعاف مضاعفة. وما قاله سامي مروان مبيّض يقودنا إلى الحديث عن سبب رئيسي ربما لعب دورًا في ابتعاد الناس عن القراءة، وهو ظروف الناس المادية؛ فالمسألةُ ارتبطت عند البعض بتردي أوضاعهم الاقتصادية، ورأوا في شراء الكتب نوعًا من الرفاهية الزائدة، ولسان حالهم يقول: الأفضل لي أن أركّز على لقمة عيش أولادي، وأن أدفع فواتير الكهرباء والماء، فهذا من الأساسيات، بدلا من شراء الكتب. وأنا شخصيّا سمعتُ كلامًا كهذا كثيرًا، بل إني وقعتُ فيه عندما تردّدتُ كثيرًا في الذهاب إلى معرض مسقط للكتاب، وفاضلتُ بين شراء الكتب وشراء مكيّف هواء نحتاجه في البيت، وهي حالةٌ تحدُث معي لأول مرة، فما بالك بمن يفاضل بين الكتب ولقمة العيش. وما حدث في معرض مسقط للكتاب يؤكد تفضيل الناس شراء متطلباتهم اليومية على شراء الكتب، حيث شهد المعرض انخفاضًا كبيرًا في القوة الشرائية وفي عدد الزوار، عكس السنوات الماضية. والمؤسف أنّ البعض صار يبيع كتبه لكي يعيش، وحدث أن رأيتُ إعلانًا لأحدهم يبيع مخطوطات تاريخية بقيمة زهيدة، وعندما تواصلتُ معه لشرائها، قال لي إنه باعها "بسبب الفاقة"، ولم يستغرق الأمر سوى نصف ساعة فقط من لحظة الإعلان حتى لحظة البيع.
الحاصل الآن أنّ هناك تحديات تواجه القراءة على المستوى العالمي، وليس في وطننا العربي فقط؛ فالإحصائياتُ التي نشرها الكاتب علي القيّم في موقع "البلاغ" تؤكد ذلك، إذ ينقل دراسة رصينة صادرة عن "المكتب الأمريكي للإحصاءات" تحت عنوان "القراءة في خطر"، امتد العمل في إعدادها وجمع بياناتها فترة عشرين عامًا، وشملت مجموعات كبيرة ومتنوعة من فئات الأعمار المختلفة، ومن مختلف مستويات التحصيل العلمي، أظهرت أنّ جمهور القرّاء أدار ظهره تمامًا للقراءة بشكل عام، ولقراءة الأدب بشكل خاص. وترصد الدراسة التحولات التي طرأت على المدى الطويل على العادات الثقافية، وعلى أنواع القراءات ومواضيعها، ومن أهمّ النقاط في الدراسة عدم اهتمام الفتيان والشبان الصغار بالأدب بشكل يثير القلق على المستقبل، لأنّ هذه الأجيال تمضي المزيد من الوقت أمام الإنترنيت وشاشة الحاسوب، ممّا يؤكد أنّ البدائل من القوة بمكان، وصحيحٌ أنّ الكتاب أصبح متوفرًا إلكترونيًا إلا أنه لا يستهوي الكثيرين، وأنا منهم. لكن لكي نبقى متفائلين نقول إنّ وجود مكتبات حديثة في عُمان تتولى توريد الكتب الحديثة فور صدورها من دور النشر العربية المختلفة، مع التسويق الجيد لها وخدمة التوصيل إلى المنازل، يلعب دورًا كبيرًا في التشجيع على القراءة، وحقيقةً إنّ وجود مثل هذه المكتبات هو الذي كنا نفتقده في السنوات الماضية، حيث كنا ننتظر عامًا كاملًا لكي نقتني الكتب.
وعلى صلة بالموضوع يبقى أن نتساءل: هل أصحاب القرار في الوطن العربي يقرأون؟ وهل هناك مراكز تتابع كلّ جديد وتناقش توجهات الناس؟ ثم إذا كان الناس تقرأ، فما هو تأثير ذلك على سلوكياتهم وثقافاتهم؟ وما تأثير تلك القراءات على مستقبل الأمة العلمي والصناعي والتكنولوجي؟
كان رأي صديقي أنّ التكنولوجيا الحديثة - خاصةً الهواتف الذكية - أدّت إلى الاستغناء عن متابعة القنوات الفضائية والإذاعات والصحف الورقية، وإلى الابتعاد عن الكتب الورقية، لأنّ كلّ ما يحتاجه المرء يجده في متناول يده عبر شاشة الهاتف الصغيرة، الذي أصبح وسيلة من الصعب الاستغناء عنها، بعد أن ضمّ الإذاعة والتلفزيون والصحف والكتب والأخبار الشاملة، ممّا اختصر للناس التكاليف المادية والوقتية، وأصبح البعض يميل إلى الكتاب الإلكتروني، الذي أصبح في متناول الجميع مجانًا، لا يكلف القارئ جهد الذهاب إلى المكتبات.
قرأتُ تحقيقًا نشرتْه جريدة عُمان يوم 19 فبراير 2022، عن أسباب إغلاق بعض المكتبات السورية أبوابها، ولماذا يعزف الناس عن القراءة، ربما فيه بعض الإجابات عن السؤال المتكرر دائمًا: هل القراءة في خطر؟ صحيح أنّ سوريا تمرّ حاليًا بظروف صعبة، جعلت أولويات الناس تتجه إلى أمور أخرى، إلا أنّ التحقيق لا يخلو من بعض الأسباب التي جعلت الناس يوجِّهون اهتماماتهم بعيدًا عن شراء الكتب، خاصةً الأوضاع الاقتصادية للناس، التي ساءت كثيرًا عن قبل. ويذكر بسام جميدة الذي استطلع آراء المثقفين والكتّاب السوريين عن أسباب هذا الإغلاق، أنّ جدلًا كثيرًا دار في الأوساط السورية، ليس فقط بين شريحة الذين يتعاطون الثقافة، بل وحتى بين من يقرأ ولا يقرأ، بعد أن تخلت كثيرٌ من المكتبات عن عملها الأساسي في مختلف المدن السورية. ويرصد المكتبات المهمة التي أغلقت أبوابها في دمشق، والتي كان لها دورٌ مميزٌ في الحركة الثقافية والتنويرية ليس في سوريا وحدها، بل في الوطن العربي كله، مثل مكتبة اليقظة التي كانت من أهم دور النشر في المنطقة العربية، وغيرها الكثير. وفي إشارة لافتة يذكر بسام أنّ مكتبة ميسلون تحولت إلى مقهى، وتحولت مكتبة اليقظة لمحل لبيع الأدوات الكهربائية، فيما تحولت مكتبة أطلس إلى متجر للملابس، ومكتبة العائلة إلى صيدلية وهكذا. ولم يقتصر الأمر على مكتبات دمشق، فمدينة حلب أيضًا أغلقت مكتباتها، وهي التي شهدت ولادة رواية عربية مبكرة هي "غابة الحق" لفرنسيس المراش عام 1865م، وتراجع سوق الكتب والقراءة لصالح التجارة وغيرها، فتحولت بعض المكتبات إلى مطاعم ومحال حلويات، فيما تحولت أخرى لمحل بيع الحقائب والأحذية، وكأنّ الحذاء أهم من الكتاب.
هل كان للحرب في سوريا دورٌ في إغلاق هذه المكتبات وتحويل بعضها إلى مطاعم ومحلات بيع الحقائب والأحذية؟ ربما أنّ الحرب فعلا لها الدور الأساسي في جعل القراءة عند الناس من الترف الذي لا فائدة منه، ولكن عندما تغلق المكتبات أبوابها، ويتحوّل مسارها لعمل آخر، فالأمرُ خطير، وهو مرشح أن يتكرر في أماكن أخرى. ويجد الكاتب سامي مروان مبيّض عذرًا لأصحاب المكتبات، لأنّ الناس - حسب رأيه - تفضّل اليوم القراءة السريعة على هاتفها الذكي، ولم تعد تهتم بقراءة الكتب، ناهيك عن سعر الكتب، وتكلفة إنارة وتشغيل وتدفئة المكتبات. "وكم من مرة رأيتُ فيها زبائن يفاوضون أصحاب المكتبة على سعر الكتب، وكأنها جرزة نعنع أو كيلو خيار"، ويشير إلى أنّ عدد المقاهي في دمشق اليوم يفوق عدد المكتبات بأضعاف مضاعفة. وما قاله سامي مروان مبيّض يقودنا إلى الحديث عن سبب رئيسي ربما لعب دورًا في ابتعاد الناس عن القراءة، وهو ظروف الناس المادية؛ فالمسألةُ ارتبطت عند البعض بتردي أوضاعهم الاقتصادية، ورأوا في شراء الكتب نوعًا من الرفاهية الزائدة، ولسان حالهم يقول: الأفضل لي أن أركّز على لقمة عيش أولادي، وأن أدفع فواتير الكهرباء والماء، فهذا من الأساسيات، بدلا من شراء الكتب. وأنا شخصيّا سمعتُ كلامًا كهذا كثيرًا، بل إني وقعتُ فيه عندما تردّدتُ كثيرًا في الذهاب إلى معرض مسقط للكتاب، وفاضلتُ بين شراء الكتب وشراء مكيّف هواء نحتاجه في البيت، وهي حالةٌ تحدُث معي لأول مرة، فما بالك بمن يفاضل بين الكتب ولقمة العيش. وما حدث في معرض مسقط للكتاب يؤكد تفضيل الناس شراء متطلباتهم اليومية على شراء الكتب، حيث شهد المعرض انخفاضًا كبيرًا في القوة الشرائية وفي عدد الزوار، عكس السنوات الماضية. والمؤسف أنّ البعض صار يبيع كتبه لكي يعيش، وحدث أن رأيتُ إعلانًا لأحدهم يبيع مخطوطات تاريخية بقيمة زهيدة، وعندما تواصلتُ معه لشرائها، قال لي إنه باعها "بسبب الفاقة"، ولم يستغرق الأمر سوى نصف ساعة فقط من لحظة الإعلان حتى لحظة البيع.
الحاصل الآن أنّ هناك تحديات تواجه القراءة على المستوى العالمي، وليس في وطننا العربي فقط؛ فالإحصائياتُ التي نشرها الكاتب علي القيّم في موقع "البلاغ" تؤكد ذلك، إذ ينقل دراسة رصينة صادرة عن "المكتب الأمريكي للإحصاءات" تحت عنوان "القراءة في خطر"، امتد العمل في إعدادها وجمع بياناتها فترة عشرين عامًا، وشملت مجموعات كبيرة ومتنوعة من فئات الأعمار المختلفة، ومن مختلف مستويات التحصيل العلمي، أظهرت أنّ جمهور القرّاء أدار ظهره تمامًا للقراءة بشكل عام، ولقراءة الأدب بشكل خاص. وترصد الدراسة التحولات التي طرأت على المدى الطويل على العادات الثقافية، وعلى أنواع القراءات ومواضيعها، ومن أهمّ النقاط في الدراسة عدم اهتمام الفتيان والشبان الصغار بالأدب بشكل يثير القلق على المستقبل، لأنّ هذه الأجيال تمضي المزيد من الوقت أمام الإنترنيت وشاشة الحاسوب، ممّا يؤكد أنّ البدائل من القوة بمكان، وصحيحٌ أنّ الكتاب أصبح متوفرًا إلكترونيًا إلا أنه لا يستهوي الكثيرين، وأنا منهم. لكن لكي نبقى متفائلين نقول إنّ وجود مكتبات حديثة في عُمان تتولى توريد الكتب الحديثة فور صدورها من دور النشر العربية المختلفة، مع التسويق الجيد لها وخدمة التوصيل إلى المنازل، يلعب دورًا كبيرًا في التشجيع على القراءة، وحقيقةً إنّ وجود مثل هذه المكتبات هو الذي كنا نفتقده في السنوات الماضية، حيث كنا ننتظر عامًا كاملًا لكي نقتني الكتب.
وعلى صلة بالموضوع يبقى أن نتساءل: هل أصحاب القرار في الوطن العربي يقرأون؟ وهل هناك مراكز تتابع كلّ جديد وتناقش توجهات الناس؟ ثم إذا كان الناس تقرأ، فما هو تأثير ذلك على سلوكياتهم وثقافاتهم؟ وما تأثير تلك القراءات على مستقبل الأمة العلمي والصناعي والتكنولوجي؟