نقترح أن تضع المؤسسة المعنية برسم السياسة الاجتماعية في عُمان إطارًا وطنيًا لتعزيز المرونة المجتمعية مع الأخذ في الاعتبار ضرورة استدماج كافة الأطراف والفواعل المؤثرة في بناء هذه المرونة

بتعقد الأزمات وتضافر المخاطر خلال العقود الماضية صعد الحديث عن مفاهيم المرونة (Resilience) بشكل موسع في أدبيات الاقتصاد وإدارة المخاطر، وطورت كلية لندن للاقتصاد بالتعاون مع معهد Swiss Re أحد أهم المؤشرات الشمولية لقياس مرونة الدولIndexing resilience، والذي يتناول قدرة الدول على الصمود أمام المتغيرات والأزمات الاقتصادية والصحية والبيئية ويقيس ذلك وفقًا لعدة محكات (الحيز المالي، وحيز السياسة النقدية، والصناعة المصرفية، وكفاءة أسواق العمل، وتطوير الأسواق المالية، والتعقيد الاقتصادي، نسبة انتشار التأمين، ورأس المال البشري، والاقتصاد منخفض الكربون).

عالميًا ظلت دول سويسرا وكندا والولايات المتحدة تراوح في مقدمة المؤشر، ورغم استناد المؤشر في غالبه على مقاربة اقتصادية -نظير سهولة تجميع مكوناته وقياسه من خلالها- إلا أنه يؤسس على الجانب الآخر لمداخل تمكن الدول من تقييم منظوماتها الأساسية في مدى قدرتها على الصمود، بالتركيز على أكثر القطاعات تأثرًا، وأكثر القطاعات التي يمكن المراهنة عليها في صمود الاقتصادات وبالتالي ضمان تقليل تعرض المجتمعات لانعكاسات الصدمات المختلفة.

مع تصاعد أزمات المناخ، وبروز الأزمة المالية العالمية في العقد الأول من هذا القرن تصاعد الحديث بشكل مواز عن مفهوم المرونة المجتمعية، والتي يعرفهاSocial Science in Humanitarian Action Platform كونها "تكييف القدرات المجتمعية وتعزيزها وكذلك الموارد بحيث يتم اتخاذ تدابير استباقية للتخفيف من حدة الآثار الناتجة عن الأزمة والتعافي منها". إذن هي مجمل الأدوات والعمليات والتدابير التي يستفيد فيها المجتمع مع بنائه الثقافي والمعرفي وتجربته التاريخية وموارده وشبكات اتصاله وتضامنه الاجتماعي ورغبته في البقاء لأجل الصمود في مواجهة أزمة معينة وتقليل حدتها، أو التخفيف من آثارها، أو إيقاف قدرتها على إحداث تآكل في الهياكل والبنى والسياقات الاجتماعية سواء كانت تلك الأزمة متصلة بتغيرات المناخ أو حالة الاقتصاد المضطرب أو سوء الأوضاع المالية أو أزمة صحية أو سياسية أو مجتمعية.

ويرى عالم الاجتماع البرتغالي بيدرو إستيفاو أن "المرونة الاجتماعية تدفع المجتمع نحو إعادة تشكيل الهياكل الاجتماعية، وتحديداً في ثلاثة مجالات: في تخصيص الموارد الموجودة، وفي توزيع المخاطر، وفي هياكل سلطتها". وأن عملياتها بحسب رؤيته تشمل "بعدين رئيسيين: تعبئة الموارد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والطبيعية، وتحويل المخاطر في الزمان والمكان". وفي تقديرنا فإن أهم ما يجب التنبه إليه في هذه المسألة أن المجتمعات لا تبني مرونتها الاجتماعية من تلقاء ذاتها. وإنما من محصلة تجاربها المعيشية واستدماج خبراتها السابقة ومن محصلة وجود تضافر ضمانات المرونة الأخرى على الجانب الاقتصادي والسياسي تحديدًا وهو الذي تعنى به المؤسسات وهياكل الدولة على وجه العموم.

ويمكننا القول من مجمل الأدبيات التي ناقشت موضوع المرونة الاجتماعية إن لها أربعة ركائز أساسية تستند إليها وأهمها قوة التضامن الاجتماعي ومتانة الشبكة الاجتماعية وهذا يتصل بوجود أساس قائم للاجتماع الإنساني في المجتمع وقيم ضامنة لعضد ذلك الاجتماع ومنظومة أعراف تحكم الشبكات الاجتماعية وتضمن استدامتها ومتانتها، والأمر الآخر يتصل بمدى قدرة المجتمع على استحضار وتوظيف المعرفة الاجتماعية (الشعبية) بالطريقة السليمة وبالاستفادة من خبرات التجارب السابقة، أما المرتكز الثالث فيتصل باستدماج المعرفة العلمية وإيمان المجتمع بصوت العلم كأساس لتدبير أزماته وحلحلة مشكلاته وتخفيف وطأة الوقائع التي تضرب هياكله، أما المرتكز الرابع فهو يتصل بفاعلية المؤسسات الداعمة سواء كانت هذه المؤسسات مؤسسات عمومية أو خاصة أو مؤسسات مجتمع مدني قادرة على الإسهام في دعم قدرات التكيف وإعادة البناء والتخفيف من وطأة الأزمات.

محليًا، المجتمع في عُمان ليس في معزل عن المتغيرات والمخاطر التي تحيط بالعالم، وفي تقديرنا فإن ثمة أداتين حاسمتين للشروع في بناء منظومة المرونة المجتمعية. الأولى تقع على عاتق "الاستراتيجية العمرانية". فتصميم الفضاءات الحضرية وهياكل العمران القائمة على استدماج تجربة المخاطر وتهيئة التجمعات السكنية التي تمكن الساكنين من بناء شبكات اجتماعية فاعلة في وجه المخاطر كلها عناصر أساسية لبناء القدرة على الصمود، أما الأداة الثانية فهي "مؤسسات المجتمع المدني"، فالرسالة الأساسية التي يجب أن تنطلق منها أية مراجعات تشريعية ومؤسسية لهذه المؤسسات يجب أن تتمحور في تعزيز دورها في بناء المرونة المجتمعية عبر بناء قدرات المنتسبين وتنوع مجالات النشاط الذي تنشط فيه وقدرة عملياتها وأنشطتها على استدماج أفضل المقاربات والممارسات في مجال إدارة المخاطر وبناء التكيف الاجتماعي عوضًا عن دورها في تقوية الشبكات الاجتماعية وتعزيز التضامن الاجتماعي، كل تلك الممكنات ستجعل من المرونة المجتمعية سمة سائدة ومساندة للجهود المؤسسية الرسمية في مواجهة أي مخاطر أو تحولات تفرض الحاجة إلى التكيف، وعليه نقترح أن تضع المؤسسة المعنية برسم السياسة الاجتماعية في عُمان إطارًا وطنيًا لتعزيز المرونة المجتمعية مع الأخذ في الاعتبار ضرورة استدماج كافة الأطراف والفواعل المؤثرة في بناء هذه المرونة، فعلى سبيل المثال طورت مؤسسة روكفلر مؤشرًا لمرونة المدن. يرتكز على أربعة أبعاد أساسية وهي:

• الناس: صحة ورفاهية كل من يعيش ويعمل في المدينة.

• المنظمة: الأنظمة داخل الاقتصاد والمجتمع التي تمكن سكان الحضر من العيش بسلام والعمل الجماعي.

• المكان: جودة البنية الأساسية والنظم البيئية التي تحمينا وتوفر لنا وتربطنا.

• المعرفة: القيادة والاستراتيجية المناسبة لتمكين المدينة من التعلم من الماضي واتخاذ الإجراءات في الوقت المناسب.

وهذه الأبعاد الأربعة توفر مضمونًا متكاملًا لبناء هذا الإطار والمؤشرات المتصلة به، وهو ما يتسق كذلك مع ما جاء ضمن الأهداف الاستراتيجية لرؤية عُمان 2040 والتي من بين أهدافها: "مناطق حضرية وريفية وتراث طبيعي وثقافي تتميز بمرونة وقدرة عالية على التعامل مع التغيرات المناخية".