تمثل الحرب التي تدور حاليا في أوكرانيا أول حرب حقيقية تقع في أوروبا في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، العصر الذي أصبحت فيه شاشات أجهزة الهواتف الذكية، وما يومض عليها كل دقيقة من معلومات وصور وتحديثات فورية لمجريات الحرب، هي أداة الاتصال المهيمنة، ووسيلة سهلة يمكن لجميع الأطراف المشاركة في الحرب توظيفها لنشر المعلومات المضللة التي من شأنها أن تطيل أمد الحرب وتضاعف ضحاياها.

تقدم لنا شبكات التواصل الاجتماعي في هذه الحرب مفهوما جديدا للدعاية مختلفا إلى حد كبير عن مفهوم الدعاية القديم الذي كان سائدا في عصر ما قبل الإنترنت وما قبل هذه الشبكات، والذي كان ينحصر في إنتاج الأطراف المتحاربة عددا محدودا من الرسائل القائمة على الأكاذيب، والتي تستهدف تبرير الحرب ورفع الروح المعنوية للشعب وجنود الجيش، وإضعاف الروح المعنوية للعدو، ومن ثم نشرها عبر وسائل الإعلام التقليدية أو إسقاطها بالطائرات في المدن ومناطق القتال.

نحن الآن أمام شكل جديد من الدعاية يفوق فيه عدد الرسائل ومقاطع الفيديو الدعائية، التي يتم نشرها وتداولها على نطاق جماهيري واسع عبر فيسبوك وتويتر وتليجرام وغيرها من الشبكات، عدد الغارات الجوية التي تنفذها المقاتلات الروسية داخل أراضي أوكرانيا، وربما عدد الجنود المشاركين في الحرب.

وبصرف النظر عن التأثيرات السلبية التي تتركها الدعاية بسبب ارتباطها تاريخيا بدلالات سلبية عن الكذب، ومع اتفاقنا على حق كل طرف من أطراف أي صراع سواء كان مسلحا أو غير مسلح في استخدام الدعاية - رغم سوء سمعتها- وتوظيف كل وسائط الاتصال المتاحة لتحقيق أهداف عسكرية وغير عسكرية، باعتبارها - أي الدعاية - تعني التحكم في الرأي العام الوطني أو الإقليمي أو العالمي من خلال إشارات وكلمات ذات مغزى، والقصص الخيالية، والإشاعات، والتقارير المضللة، والصور المزيفة. بصرف النظر عن كل ذلك فإن ما نعيشه حاليا في عصر شبكات التواصل الاجتماعي جعل سلاح الدعاية ربما أقوى من الأسلحة التقليدية، وجعل حرب الدعاية ربما أكثر شراسة من الحرب الفعلية، وهو ما يؤثر على فهمنا لحقيقة الصراع، وما يجري على أرض المعركة، خاصة في ظل تدفق ملايين التغريدات المضللة، ومقاطع الفيديو التي تم تعديلها بشكل مخادع والصور المأخوذة من ألعاب فيديو أو حروب سابقة، والتي ظهرت مع اندلاع الحرب.

يبدو الأمر على شبكات التواصل الاجتماعي أشبه بمباراة في الكذب والتضليل بين روسيا من جانب وبين حكومة أوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي من جانب آخر، الغلبة فيها لمن يكذب أكثر. ولا نعرف بسبب ذلك هل كان الهجوم الروسي على أوكرانيا ضروريا ومبررا كما تقول الدعاية الروسية، أم كان غير مبرر وغير إنساني كما تقول الدعاية الغربية على نفس الشبكة الاجتماعية؟

والجديد أن رؤساء الدول والحكومات أصبحوا يقودون بأنفسهم الحرب الدعائية، التي يتم فيها تبادل المزاعم والادعاءات وربما الأكاذيب أيضا. فعندما نشر الرئيس الأمريكي جو بايدن على حسابه على تويتر الذي يتابعه 40 مليونا، إن شعب أوكرانيا يواجه هجوما روسيا غير مبرر وغير عادل، ردت عليها وسائل الإعلام الحكومية الروسية عبر منصاتها على نفس الشبكة والشبكات الأخرى بتعليقات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تؤكد أن هذا الإجراء كان «ضروريًا» و«مبررا».

ولعل من أبرز الأكاذيب التي تناقلتها الأطراف المتصارعة وحلفاؤها، تلك الاتهامات التي لم يقم عليها دليل مادي، والتي ركزت عليها منصات الإعلام الروسي أن الأوكرانيين يرتكبون جرائم إبادة جماعية في المناطق التي تريد الانفصال عن أوكرانيا، ووصفها- دون دليل أيضا- غالبية سكان أوكرانيا بالنازيين، والزعم أنهم قد يبدأون في قتل شعبهم في أفران الغاز.

وعلى هذا الأساس، فإن روسيا تجد نفسها مضطرة إلى التدخل العسكري لحماية الأبرياء من العصابة النازية التي تحكم أوكرانيا. واقع الأمر أن التحضير للحرب الدعائية بدأ في روسيا قبل بدء الحرب ربما بشهور، وتضمن سيناريوهات لكيفية التعامل مع مختلف الاحتمالات والمواقف، ومنها بالطبع الموقف الأمريكي والأوروبي والعالمي.

وتقوم الاستراتيجية الروسية على توظيف شبكات التواصل الاجتماعي بشكل أساسي لتكون المنصة الدعائية الرئيسية خلال الحرب، لتبرير غزو أوكرانيا، ومواجهة الضغوط الدولية، وكذلك وأد أي معارضة للحرب داخل روسيا.

في المقابل يشن الأوكرانيون وحلفاؤهم حربا دعائية على شبكات التواصل الاجتماعي، قائمة أيضا على الأكاذيب، وتستهدف كسب تعاطف العالم من جانب وإظهار وحشية الروس من جانب آخر، بالإضافة إلى بث الأمل لدى الشعب الأوكراني. وقد حصد مقطع فيديو تم التلاعب فيه، ومأخوذ من لعبة فيديو، ملايين المشاهدات. وادعى من وضع الفيديو على كل الشبكات أنه لهجمات روسية شرسة وحقيقية في أوكرانيا. وأعاد البعض الآخر الحياة إلى مقاطع فيديو قديمة من حروب سابقة، مثل الفيديو الذي يظهر طائرة مقاتلة روسية أثناء سقوطها بصاروخ أوكراني. وقالت وكالة أنباء أسوشيتيد برس أن الفيديو التقطه مراسلها في ليبيا منذ أكثر من عقد من الزمن.

وحصد فيديو آخر 22 مليون مشاهدة على شبكة تيك توك يصور هبوط مظليين روس في أوكرانيا، رغم أنه في الحقيقة يشير إلى التدخل الروسي السابق في أوكرانيا منذ سنوات.

وبالإضافة إلى اللاعبين الرئيسيين في الحرب الدعائية، فقد منحت شبكات التواصل الاجتماعي الفرصة لمستخدميها الذين يتجاوز عددهم 3 مليارات في العالم، للمشاركة في الحرب الدعائية، كل حسب موقفه من الحرب الحقيقية، خاصة وأنه لا أحد قد يعاقب على نشر معلومات كاذبة عن حرب لا يعرف أحد على وجه التحديد ما يجري فيها.

والى جانب هؤلاء المتطوعين بالدعاية، هناك المئات من حكومات العالم التي أخذت موقفا واضحا من الحرب مع هذا الطرف أو ذاك، وتريد أن تدعم هذا الموقف أمام شعوبها، وهناك أيضا المستخدمون الذين أخذوا موقفا من الحرب ويريدون دعمه بشائعات وأكاذيب يقومون بنشرها وتبادلها على حساباتهم الشخصية، ومنهم بالطبع من يرغب في خداع المستخدمين الآخرين. كل هؤلاء المشاركين في الحرب الدعائية يعلمون أن الناس سوف يستهلكون ما ينشرونه من معلومات مضللة لأنهم ببساطة في حاجة إلى معلومات عن الحرب.

والمؤكد أن هناك زيادة كبيرة في الطلب على معلومات الحرب الأوكرانية، تقابلها ندرة في المعلومات الموثوقة، وبالتالي فإن هذه الفجوة بين العرض والطلب والمعلوماتي يتم ملؤها بالشائعات والأكاذيب والمعلومات الزائفة.

علينا أن نعترف أن الدعاية حتى وإن كانت تقوم على الأكاذيب، هي جزء رئيس في كل حرب، وسلاح من أمضى الأسلحة النفسية. وعلى هذا الأساس علينا أن نعلم أن ما نتلقاه على شبكات التواصل الاجتماعي من معلومات وصور ومقاطع فيديو عن الحرب الأوكرانية قد تكون مختلقة ومضللة، وأن استهلاكنا لها لا يجب أن يكون مقترنا بالتسليم بما ورد بها من أكاذيب. هنا تظهر قيمة وسائل الإعلام التقليدية الراسخة، التي تتحقق من كل صورة وكل معلومة وكل فيديو قبل نشرها أو بثها.

صحيح أن التوازن الإعلامي بين روسيا وحلفائها وبين أوكرانيا وحلفائها الغربيين غير قائم، وأن الكفة الإعلامية العالمية تميل بشدة إلى الجانب الأوكراني والغربي، إلا أن الثقة في قدرة وسائل الإعلام التقليدية على التمييز بين المعلومات، التي يجب أن تكون صحيحة وبين الآراء، وتقاليدها المهنية الراسخة يمكن أن تكون علاجا للشك الذي قد يساور البعض فيما يتعلق بنشر الأكاذيب.

علينا في ظل هذه الحرب تحديدا ألا نعتمد في أحكامنا عليها على ما ينشر في شبكات التواصل الاجتماعي وحدها، وأن نوسع اختياراتنا الإعلامية لتشمل الصحف الكبرى ومحطات التلفزيون العالمية الرئيسة.

أ.د. حسني نصر كاتب مصري رئيس قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس