"ليس هيِّنًا أن نُدين الجاحظ بالانتحال والتزوير"، هكذا يمكن أن نردد مع الكاتب المغربي محمد الساهل في كتابه "حُلم كونديرا: بين القراءة والكتابة"، هذا الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار نثر العُمانية، متضمنًا تأملات عميقة من الساهل عن مواضيع تخصّ القراءة والكتابة والنشر والترجمة والجوائز، وبعض أعلام الثقافة العربية والعالمية، ومنهم موضوع هذا المقال، الجاحظ، الكاتب العربي الأبرز، الذي حضر في كتاب الساهل غير مرة، منها مقال خاص به عنوانه "الجاحظ منتحِلًا".

ليس هيِّنًا أن نتهم الجاحظ بالانتحال إذن، ومكمن الصعوبة في كون اسم الجاحظ "ينكتب في الوجدان الجمعي كراوٍ ثقة"، عدا أنه كان يدين في كتبه النحل والانتحال، كما نعرف. غير أن ما جعل الساهل يُقلِّب هذه الفكرة في رأسه هي إحدى رسائل الجاحظ التي اشتكى فيها من حسد أهل زمانه من المؤلفين: "إني ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين، والفقه، والرسائل، والسيرة، والخطب، والخراج، والأحكام، وسائر فنون الحكمة، وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم"، ويُضيف: " وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل: ابن المقفع والخليل .. ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم.. لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيرونه إماماً يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم.. "

وإذا كان الجاحظ يرى مؤلفي عصره على أنهم حسّاد له وأعداء، فإن الناقد المغربي عبدالفتاح كيليطو يُلفِتنا في كتابه "الأدب والارتياب" إلى أن علاقة "العداء" هذه تنسحب على نظرة الجاحظ لقرائه الآخرين، يقول كيليطو: "ولا أعرف مؤلفًا اهتم بالقارئ العدو كما فعل الجاحظ"!، ولعل أبا عثمان عُدَّ لهذا السبب "من الذين كانوا يكدون في سبيل الاختباء وراء أسماء غيره" على حد تعبير الكاتب المغربي محمد آيت حنّا في كتابه الجميل "مكتباتهم"، ولكن ما يميزه أساسا - يضيف آيت حنا - هو "أنه تجاوز مرحلة اختراع الكلام إلى اختراع المتكلمين، لم يعد يلعب في المتن فقط، وإنما امتد عبثه إلى السند. كان الرجل على يقين تام بأن عصره عصر يعلي من قيمة المنقول على قيمة المؤلف والمخترع، لهذا يخترع الأسانيد، وينسب كلامه إلى غيره".

لكن الساهل، تمامًا كالجاحظ الذي دأب في كتبه على تقليب الفكرة ونقيضها، لا يكتفي بقراءة هذا الاعتراف من صاحب "الحيوان" على أنه محاولة تكفير عن ذنوب الانتحال والتزوير، والزيف والكذب فقط، وإنما يقرأ فيه أيضًا تمويها واحتيالًا من الجاحظ، إذ يتساءل: "فمن يدري أن الجاحظ كان يبغي أن يستولي على تواليف قديمة، وأن يسطو على حقوق الآخرين، بدعوى أن هذه التواليف أو الحقوق كان قد تخلى عنها يومًا تحت الإكراه". وفي الحقيقة فإن من يقرأ الآراء المتضادة حول نسبة كتاب واحد فقط لأبي عثمان هو "المحاسن والأضداد" فإنه يجد فرضية الساهل قابلة للتصديق، ففي حين تنسب مصادر قديمة ككتاب "خزانة الأدب" للبغدادي كتابَ "المحاسن والأضداد" للجاحظ فعلا، وكذلك تفعل مصادر حديثة ككتابَيْ " أدب الجاحظ" لحسن السندوبي" و"تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان، نجد في المقابل أن المستشرق الفرنسي شارل بيلّا يستبعده من قائمة كتب الجاحظ ويقول إنه "منحول"، ورغم أنه لم يذكر الأسباب التي استند إليها، إلا أن آخرين سبقوه إلى هذا الاستبعاد، قائلين أن "المحاسن والأضداد" لم يكن ضمن الكتب الستة والثلاثين للجاحظ التي ذكرها أبو عثمان في مقدمة كتابه "الحيوان"، وليس أيضًا من بين كتبه التي ذكر أسماءها في بعض رسائله، معتبرين ذلك سببًا كافيًا لاستبعاده من قائمة كتب الجاحظ.

وفي حين يهوّن محمد آيت حنا من أهمية نَسْب الجاحظ كتبَه لآخرين، معتبرًا أن "الدارج عندنا أن السرقة والانتحال يكمنان في نسب كلام الغير إلى الذات، لا في نسب كلام الذات إلى الغير"، فإن محمد الساهل على عكسه تمامًا يخلُص في نهاية تأمله لاعتراف صاحب "البخلاء"، إلى القول إنه اعتراف بالغ الخطورة، لأنه يدعو إلى الشك في جميع كتب الجاحظ، "فمن يدري أن كاتبًا آخر قد وقّع – طبعًا بعد أن يكون الجاحظ في عداد الموتى – هذه الكتب باسم الجاحظ لكي يتجنّب الحساد، ويضمن لقمة العيش، تمامًا كما كان الجاحظ يُملِّك الأموات كتبًا لكي يكسب قوت اليوم بعيدًا عن مضايقات الحساد"!.