ترجمة - قاسم مكي
فيما كانت أزمة أوكرانيا تثير القلق من اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي، حدث شيء لافت، ففي الشهر الماضي، ولأول مرة على الإطلاق، تجاوزت الصادراتُ الأمريكية من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا الكميات التي تضخها روسيا عبر الأنابيب.
تراجعت الصادرات الروسية التي تشكل في العادة 30% من استخدامات الغاز في أوروبا كثيرا بسبب التسعيرة الروسية. ومع ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا إلى أربعة أضعاف مستواها المعتاد زادت الصادرات الأمريكية لسد الفجوة.
يشكل النمو غير العادي لإنتاج النفط والغاز «أصلا ثمينا» جيوسياسيا واقتصاديًا للولايات المتحدة ومسهما في تأمين موارد الطاقة للعالم.
مع استمرار تعافي الصناعة المحلية للنفط والغاز من انهيار الأسعار في ربيع عام 2020 الذي تسبب فيه اندلاع كوفيد، تتحول الولايات المتحدة مرة أخرى إلى أكبر منتج للنفط في العالم، فهي أغزر إنتاجا بنسبة 20% تقريبا من المنتجين الكبيرين الآخرين السعودية وروسيا.
تقلصت الفجوة بين العرض والطلب بشدة في سوق النفط العالمية التي كانت تغرق في فائض من الإمدادات قبل أقل من عامين مع خروج العالم من إغلاقات الجائحة.
هذا الوضع يجعل السوق عُرضة للتأثر بالأزمات، فمن الممكن أن يقود هجوم روسيا على أوكرانيا أو تعافي الاقتصاد العالمي أو أحداث كبرى تتعلق بالطقس أو وقوع حدث مفاجئ إلى ارتفاع الأسعار، وهذا ما يشير إليه ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 90 دولارًا للبرميل.
وإذا تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران تترتب عنه عودة نفطها للسوق يمكن أن يؤدي ذلك إلى اعتدال الأسعار نوعا ما، لكن ما لم تتسبب موجة جديدة للجائحة في المزيد من الإغلاقات (أو تبطئ سلالة أوميكرون اقتصاد الصين) ستظل الأسعار مرتفعة.
إن طاقة الإنتاج الاحتياطية هي وسيلة امتصاص الصدمات لتجنب وقوع الأزمة، وهي إجمالي الإنتاج الذي يمكن ضخه من الآبار غير المنتجة في الوقت الحالي لكنها جاهزة للتشغيل إذا اختلت إمدادات السوق.
وتقلصت هذه الطاقة الاحتياطية مع رفع تعافي اقتصاد العالم لحجم الطلب، وعدم قدرة بعض البلدان المصدرة للنفط على العودة إلى مستويات الإنتاج السابقة بسبب عدم كفاية الاستثمار.
وتركزت تقريبا كل الطاقة الاحتياطية الموجودة الآن (ما بين 3 ملايين و3.5 مليون برميل في اليوم) في بلدين هما السعودية ودولة الإمارات.
الارتفاع الحالي لإنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة أحد المصادر بالغة الأهمية للتعويض عن نقص الإمدادات في سوق النفط، فهو يمكنه إضافة أكثر من 900 ألف برميل في اليوم هذا العام، وبدون انتعاش الإمدادات الأمريكية فمن المرجح أن تشهد أسعار النفط المزيد من الارتفاع.
من جهة أخرى، ستصبح الولايات المتحدة بقدراتها التصديرية الجديدة هذا العام أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وستتفوق بذلك على أستراليا وقطر.
وفي سوق الغاز العالمية التي يتراجع فيها حجم العرض عن الطلب، ستكون صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية حيوية في أهميتها لتجنب نقص الإمدادات على نطاق العالم وللحفاظ على الإمداد الكهربائي في أوروبا، واتضح ذلك عمليا في أسطول ناقلات الغاز المتجه صوب أوروبا.
ففي الشهور القادمة، حتى إذا توقفت كل صادرات الغاز الروسية عبر أوكرانيا، يمكن أن تعوض الصادرات الأمريكية العجز في الإمدادات، لكن إذا أوقفت روسيا كل صادراتها من الغاز إلى أوروبا -وهذا احتمال مستبعد- لن تكون صادرات الولايات المتحدة كافية، وسيكون على أوروبا استخدام مخزوناتها الشحيحة أصلا، وإعادة تشغيل المنشآت التي تستخدم الفحم الحجري والوقود النووي لتوليد الكهرباء.
وأتاح مركز أمريكا بوصفها أحد كبار منتجي موارد الطاقة نفوذا جديدا ومرونة أكبر، فمثلا فرضت الولايات المتحدة في عام 2012 عقوباتٍ منعت صادرات النفط الإيراني، لدفع إيران إلى التفاوض في الفترة التي سبقت الاتفاق النووي عام 2015.
وسخرت إيران في البداية من العقوبات لقناعتها بأن إبعاد نفطها عن السوق سيقود إلى نقص في الإمدادات وقفزات في الأسعار، وهذا ما سيقوض القيود المفروضة على صادراتها، لكنها كانت مخطئة، فالنمو السريع للإنتاج النفطي الأمريكي حل محل النفط الإيراني المحظور، بل تجاوزه، مما أجبر إيران على التفاوض.
ووجدت صادرات النفط والغاز الأمريكية ترحيبا من بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية، فقد عزز أمن الطاقة بالنسبة لها ووطَّد علاقاتها مع الولايات المتحدة، كما صارت الصادرات الأمريكية أحد مرتكزات تحسن وتوسع علاقات واشنطن مع الهند، لكن هنالك حدودًا لذلك، فهذا الوضع الجديد (للولايات المتحدة بوصفها أكبر مصدِّر للنفط والغاز) يحتاج مثل كل الأصول الأخرى إلى إدارة حكيمة، واستخدام إمدادات النفط والغاز كأداة أو سلاح يمكنه تقويض موثوقيتها، وقد يفقدها قيمتها.
واليوم ليس هنالك شك في الأهمية الجيوسياسية للمركز الجديد التي تحتله الولايات المتحدة في تجارة النفط والغاز، فأزمة أوكرانيا وأزمة الطاقة الأوروبية تسلِّطان الضوء على الأثر العالمي لإنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز.
ولقد أدرك البعض هذه الأهمية منذ وقت مبكر وقبل الآخرين، ففي المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في سان بطرسبورج عام 2013 كان فلاديمير يقف على المنصة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام عدة آلاف من الناس.
سألتُ بوتين: كيف تخطط روسيا لتنويع اقتصادها بعيدا عن الاعتماد على إيرادات صادرات النفط والغاز، وأثناء طرحي للسؤال ذكرت كلمة «الغاز والنفط الصخريين» وقبل أن أكمل رد بوتين بحدَّة، واصفا الغاز في استهجان بالمهدد الخطير الذي يجب وقفه.
وبعد التفكير في ما قاله بوتين لاحقا أدركت أن لديه سببين قويين للاعتراض على الغاز الصخري الأمريكي، أولهما أنه سينافس الغاز الروسي في أوروبا، وثانيهما أن الغاز والنفط سيعززان المركز الاستراتيجي الدولي لأمريكا.
وبالنظر إلى الكيفية التي تتكشَّف بها الأحداث في أوروبا اليوم يلزم القول أن بوتين كان نافذ البصيرة.
دانييل يرجين نائب رئيس شركة آي إتش إس ماركت ومؤلف كتاب «الخارطة والطاقة وصدام الأمم».
فيما كانت أزمة أوكرانيا تثير القلق من اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي، حدث شيء لافت، ففي الشهر الماضي، ولأول مرة على الإطلاق، تجاوزت الصادراتُ الأمريكية من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا الكميات التي تضخها روسيا عبر الأنابيب.
تراجعت الصادرات الروسية التي تشكل في العادة 30% من استخدامات الغاز في أوروبا كثيرا بسبب التسعيرة الروسية. ومع ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا إلى أربعة أضعاف مستواها المعتاد زادت الصادرات الأمريكية لسد الفجوة.
يشكل النمو غير العادي لإنتاج النفط والغاز «أصلا ثمينا» جيوسياسيا واقتصاديًا للولايات المتحدة ومسهما في تأمين موارد الطاقة للعالم.
مع استمرار تعافي الصناعة المحلية للنفط والغاز من انهيار الأسعار في ربيع عام 2020 الذي تسبب فيه اندلاع كوفيد، تتحول الولايات المتحدة مرة أخرى إلى أكبر منتج للنفط في العالم، فهي أغزر إنتاجا بنسبة 20% تقريبا من المنتجين الكبيرين الآخرين السعودية وروسيا.
تقلصت الفجوة بين العرض والطلب بشدة في سوق النفط العالمية التي كانت تغرق في فائض من الإمدادات قبل أقل من عامين مع خروج العالم من إغلاقات الجائحة.
هذا الوضع يجعل السوق عُرضة للتأثر بالأزمات، فمن الممكن أن يقود هجوم روسيا على أوكرانيا أو تعافي الاقتصاد العالمي أو أحداث كبرى تتعلق بالطقس أو وقوع حدث مفاجئ إلى ارتفاع الأسعار، وهذا ما يشير إليه ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 90 دولارًا للبرميل.
وإذا تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران تترتب عنه عودة نفطها للسوق يمكن أن يؤدي ذلك إلى اعتدال الأسعار نوعا ما، لكن ما لم تتسبب موجة جديدة للجائحة في المزيد من الإغلاقات (أو تبطئ سلالة أوميكرون اقتصاد الصين) ستظل الأسعار مرتفعة.
إن طاقة الإنتاج الاحتياطية هي وسيلة امتصاص الصدمات لتجنب وقوع الأزمة، وهي إجمالي الإنتاج الذي يمكن ضخه من الآبار غير المنتجة في الوقت الحالي لكنها جاهزة للتشغيل إذا اختلت إمدادات السوق.
وتقلصت هذه الطاقة الاحتياطية مع رفع تعافي اقتصاد العالم لحجم الطلب، وعدم قدرة بعض البلدان المصدرة للنفط على العودة إلى مستويات الإنتاج السابقة بسبب عدم كفاية الاستثمار.
وتركزت تقريبا كل الطاقة الاحتياطية الموجودة الآن (ما بين 3 ملايين و3.5 مليون برميل في اليوم) في بلدين هما السعودية ودولة الإمارات.
الارتفاع الحالي لإنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة أحد المصادر بالغة الأهمية للتعويض عن نقص الإمدادات في سوق النفط، فهو يمكنه إضافة أكثر من 900 ألف برميل في اليوم هذا العام، وبدون انتعاش الإمدادات الأمريكية فمن المرجح أن تشهد أسعار النفط المزيد من الارتفاع.
من جهة أخرى، ستصبح الولايات المتحدة بقدراتها التصديرية الجديدة هذا العام أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وستتفوق بذلك على أستراليا وقطر.
وفي سوق الغاز العالمية التي يتراجع فيها حجم العرض عن الطلب، ستكون صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكية حيوية في أهميتها لتجنب نقص الإمدادات على نطاق العالم وللحفاظ على الإمداد الكهربائي في أوروبا، واتضح ذلك عمليا في أسطول ناقلات الغاز المتجه صوب أوروبا.
ففي الشهور القادمة، حتى إذا توقفت كل صادرات الغاز الروسية عبر أوكرانيا، يمكن أن تعوض الصادرات الأمريكية العجز في الإمدادات، لكن إذا أوقفت روسيا كل صادراتها من الغاز إلى أوروبا -وهذا احتمال مستبعد- لن تكون صادرات الولايات المتحدة كافية، وسيكون على أوروبا استخدام مخزوناتها الشحيحة أصلا، وإعادة تشغيل المنشآت التي تستخدم الفحم الحجري والوقود النووي لتوليد الكهرباء.
وأتاح مركز أمريكا بوصفها أحد كبار منتجي موارد الطاقة نفوذا جديدا ومرونة أكبر، فمثلا فرضت الولايات المتحدة في عام 2012 عقوباتٍ منعت صادرات النفط الإيراني، لدفع إيران إلى التفاوض في الفترة التي سبقت الاتفاق النووي عام 2015.
وسخرت إيران في البداية من العقوبات لقناعتها بأن إبعاد نفطها عن السوق سيقود إلى نقص في الإمدادات وقفزات في الأسعار، وهذا ما سيقوض القيود المفروضة على صادراتها، لكنها كانت مخطئة، فالنمو السريع للإنتاج النفطي الأمريكي حل محل النفط الإيراني المحظور، بل تجاوزه، مما أجبر إيران على التفاوض.
ووجدت صادرات النفط والغاز الأمريكية ترحيبا من بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية، فقد عزز أمن الطاقة بالنسبة لها ووطَّد علاقاتها مع الولايات المتحدة، كما صارت الصادرات الأمريكية أحد مرتكزات تحسن وتوسع علاقات واشنطن مع الهند، لكن هنالك حدودًا لذلك، فهذا الوضع الجديد (للولايات المتحدة بوصفها أكبر مصدِّر للنفط والغاز) يحتاج مثل كل الأصول الأخرى إلى إدارة حكيمة، واستخدام إمدادات النفط والغاز كأداة أو سلاح يمكنه تقويض موثوقيتها، وقد يفقدها قيمتها.
واليوم ليس هنالك شك في الأهمية الجيوسياسية للمركز الجديد التي تحتله الولايات المتحدة في تجارة النفط والغاز، فأزمة أوكرانيا وأزمة الطاقة الأوروبية تسلِّطان الضوء على الأثر العالمي لإنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز.
ولقد أدرك البعض هذه الأهمية منذ وقت مبكر وقبل الآخرين، ففي المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في سان بطرسبورج عام 2013 كان فلاديمير يقف على المنصة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام عدة آلاف من الناس.
سألتُ بوتين: كيف تخطط روسيا لتنويع اقتصادها بعيدا عن الاعتماد على إيرادات صادرات النفط والغاز، وأثناء طرحي للسؤال ذكرت كلمة «الغاز والنفط الصخريين» وقبل أن أكمل رد بوتين بحدَّة، واصفا الغاز في استهجان بالمهدد الخطير الذي يجب وقفه.
وبعد التفكير في ما قاله بوتين لاحقا أدركت أن لديه سببين قويين للاعتراض على الغاز الصخري الأمريكي، أولهما أنه سينافس الغاز الروسي في أوروبا، وثانيهما أن الغاز والنفط سيعززان المركز الاستراتيجي الدولي لأمريكا.
وبالنظر إلى الكيفية التي تتكشَّف بها الأحداث في أوروبا اليوم يلزم القول أن بوتين كان نافذ البصيرة.
دانييل يرجين نائب رئيس شركة آي إتش إس ماركت ومؤلف كتاب «الخارطة والطاقة وصدام الأمم».