دعيت الأسبوع الفائت لحلقة إذاعية للحديث عن "تنافسية المواهب وتسويق الذات"، وأثناء التحضير للحلقة، عادت بي الذاكرة إلى التقرير الشهير الذي وضعته ماكينزي حول "الحرب من أجل المواهب" نهاية القرن الفائت، والذي أثارت من خلاله نقاشًا موسعًا في حينه حول الكيفية التي سيغدو بها اجتذاب المواهب وإبقاؤها تحديًا استراتيجيًا عالميًا، ويشكل بدوره مستقبل الشركات والأعمال، وينتقل لتحديد قدرة الدول على التنافسية والبقاء في ظل تجاذبات العولمة الصاعدة حينها. ومنذ ذلك الحين صدرت العديد من الكتب والتقارير والاستشهادات التي بنيت على تلك الفرضية. اليوم هناك محورين أساسيين يدوران في فلك هذه المسألة وتحاول هذه المقالة التركيز عليهما، يتحدث العالم عن ما يعرف بـ "فجوة المهارات" (Skills Gap) وهي كما تعرفها الجمعية الأمريكية لتنمية المواهب بأنها "الفجوة الكبيرة بين القدرات الحالية لمؤسسة ما والمهارات التي تحتاجها قواها العاملة لغرض تحقيق الأهداف الإنتاجية المطلوبة". وفي الجانب الآخر يتم الحديث عن "تنافسية المواهب" (Talent Competitiveness) في إشارة إلى البيئات والتسهيلات والتيسيرات والنظم والاستراتيجيات والبنى المؤسسية التي تساهم في جعل دولة/ مؤسسة/ منظمة ما جاذبة للمواهب وقادرة على استبقائها وإدماج ناتجها في خدمة النمو/ الاقتصاد/ الإنتاجية/ الابتكار. وقد أصبحت هذه المفاهيم عمليًا وضمنيًا محاور أساسية في الصراع الاقتصادي العالمي اليوم، وموجه رئيسي من موجهات تصميم الرؤى الوطنية والاستراتيجيات القطاعية والسياسات العامة متوسطة – طويلة الأجل وذلك ضمانًا لاجتذاب رأس المال البشري (الموهوب) القادر على خلق الحلول المبتكرة، وإيجاد التدخلات الإبداعية لخدمة مسار الإنتاج والنمو.
منذ 2013 تعكف كلية إنسياد على استصدار Global Talent Competitiveness Index والذي يقيس تنافسية المواهب في دول العالم من حيث التمكين، الجذب، النمو، الاحتفاظ، المهارات التقنية والمهنية، مهارات المعرفة العالمية. والملفت في النسخة الأخيرة من تقرير المؤشر 2021 إشارته إلى خلاصتين بارزتين:
- الزيادة السريعة في "الفجوات الرقمية" ليست سوى جزء واحد من تزايد عدم المساواة على المستوى الدولي. فدخول ما يقرب 125 مليون شخص إضافي إلى قائمة من يعيشون بأقل من 1.90 دولار أمريكي في اليوم. واتساع الفجوات في الرفاه الاقتصادي وكذلك في جهود المساواة والتنوع يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على عامل تنافسية المواهب.
- أظهر عدد من الاقتصادات ذات الدخل المتوسط تقدمًا وحيوية أكثر. تشيلي على سبيل المثال وهذا يعود إلى دمج الاستراتيجيات المتكاملة لعناصر إدارة تنافسية المواهب على المستويات الوطنية.
وهذا يقودنا إلى أن ردم فجوة المهارات، وتعزيز تنافسية المواهب، وكسب شوط في صراع المواهب، على المستوى الوطني إنما يرتهن بتهيئة الظروف المتكاملة التي تمكن هذه المواهب من النمو والاستبقاء، بدءا من الثقافة المجتمعية، وتعزيز وعي المجتمع بالعنصر الحاسم للموهبة، مرورًا بدور مؤسسات التعليم ليس فقط في تهيئة البيئات المراعية للموهبة والحاضنة لها، وإنما في مد الجسور مع المربين لإكسابهم المنظورات والأدوات المناسبة لرعاية الأبناء الموهوبين وضمان تكاملية البيئة مع الجهود المدرسية والأكاديمية، هذا عوضًا عن تصميم بنى الاقتصاد ووجود الفرص الحقيقية لاقتصاد المعرفة، وسوق تكاملية لمنتجاته وخدماته، وتهيئة الظروف المواتية لنمو الابتكار مع تكاملية عناصر تحسين بيئة ممارسة الأعمال ووجود إعلام مسوق بشكل جيد للموهبة، وانخراط الأفراد والتجمعات في شبكات الموهبة العالمية عوضًا عن القدرة على احتضان المحافل الإقليمية والعالمية القائمة على فكرة الموهبة أو المهتمة بشؤونها أو المسوقة للعنصر الوطني الدامج لها. فحين نعود إلى المؤشر سنجد أنه في قسمه الآخر يقيس أكثر مدن العالم تنافسية للمواهب لقياس مدى نجاح مدن عالمية في تمكين المواهب وتوطينها، وفق مجموعة معايير منها "التحضر، حصة المدينة من نفقات البحث والتطوير، والأسر المعيشية التي لديها إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ووجود شركات عالمية تنافسية لجذب المواهب، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكل مدينة، ونوعية الحياة وجودة البيئة، ووجود الجامعات الكبرى ونسبة الالتحاق بالجامعات، والأفراد في الشبكات الاجتماعية، توافر عناصر السلامة الشخصية، التركيز العالي للأطباء، والقدرة على تحمل تكاليف السكن، مقدار القوى العاملة الحاصلة على تعليم عالٍ، اتصال المدينة بحركة النقل العالمي، ووجود منظمات عالمية دولية".
وذلك يقودنا إلى القول أن مستقبل تنافسية المواهب هو مستقبل نمو ما يعرف بمدن الموهبة، وهي في تقديرنا الجيل الثاني من المدن العالمية حسب مفهوم عالمة الاجتماع ساسكيا ساسن، إن مدن الموهبة هي المدن التي تقر اجتماعيًا بقيمة الموهبة، ويمثل الاعتراف الاجتماعي بالموهبة أحد أهم عناصر الاجتماع البشري بين ساكنيها، وتسهم في ذلك طبيعة تصميم نظمها الاقتصادية، وبناها التحتية، وشاكلة المؤسسات التي تنشط فيها، ومدى اتصالها بالعالم، ودمج نشاط الشركات الكبرى في أعمالها، واشتباك نشاط الأكاديمية والبحث العلمي والابتكار في مجمل أعمال تطوير المدينة ونموها، لتحقيق رفاه ساكنيها، وبالتالي فإن نمو هذه المدن قد يدفع مدنا أخرى في داخل الحيز الجغرافي للدول على تطوير نماذج اجتذاب الموهبة الخاصة بها. ونمو هذه المدن هو ليس احتدامًا بمعترك التنافسية، وإنما تنبهًا ذكيًا للفرص في سوق المهارات والمواهب العالمية، حيث تفيد دراسة " Talent Competitiveness and Competitiveness through Talent" أنه سيكون هناك نقص محتمل بحوالي 40 مليون شخص من ذوي المواهب العالية في جميع أنحاء العالم في العقدين المقبلين، مع نقص ما يقرب من 45 مليون من ذوي المهارات المهنية المتوسطة المستوى لاحتياجات البلدان الناشئة في الهند وجنوب آسيا وأفريقيا.
محليًا نأمل أن تترجم الإرادة السياسية التي ضمنها النظام الأساسي للدولة في مبادئه الثقافية فيما يشير إلى أن "تكفل الدولة حرية الإبداع الفكري، ورعاية المبدعين، وتشجع على النهوض بالفنون والآداب" وفي ظل وضوح معالم الاستراتيجية العمرانية، إلى إيجاد رؤية محلية لتطوير مدن حاضنة للمواهب، وهنا لا نقصد مجرد توفير البنى التحتية والمنشآت والمختبرات والمراكز، ولكن خلق مدينة نموذجية (ثقافيًا واجتماعيًا وبيئيًا ولوجستيًا وتعليميًا وبحثيًا) قادرة أن تكون مدينة حاضنة للموهبة، وذلك عبر الاستفادة والمقاربة لأفضل النماذج العالمية المتاحة، بما يضمن أن تكون الموهبة عنصرًا فاعلًا وحاسمًا في استثمار رأس المال البشري من ناحية، ودعم الاقتصاد الوطني من ناحية أخرى.
• مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع
منذ 2013 تعكف كلية إنسياد على استصدار Global Talent Competitiveness Index والذي يقيس تنافسية المواهب في دول العالم من حيث التمكين، الجذب، النمو، الاحتفاظ، المهارات التقنية والمهنية، مهارات المعرفة العالمية. والملفت في النسخة الأخيرة من تقرير المؤشر 2021 إشارته إلى خلاصتين بارزتين:
- الزيادة السريعة في "الفجوات الرقمية" ليست سوى جزء واحد من تزايد عدم المساواة على المستوى الدولي. فدخول ما يقرب 125 مليون شخص إضافي إلى قائمة من يعيشون بأقل من 1.90 دولار أمريكي في اليوم. واتساع الفجوات في الرفاه الاقتصادي وكذلك في جهود المساواة والتنوع يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على عامل تنافسية المواهب.
- أظهر عدد من الاقتصادات ذات الدخل المتوسط تقدمًا وحيوية أكثر. تشيلي على سبيل المثال وهذا يعود إلى دمج الاستراتيجيات المتكاملة لعناصر إدارة تنافسية المواهب على المستويات الوطنية.
وهذا يقودنا إلى أن ردم فجوة المهارات، وتعزيز تنافسية المواهب، وكسب شوط في صراع المواهب، على المستوى الوطني إنما يرتهن بتهيئة الظروف المتكاملة التي تمكن هذه المواهب من النمو والاستبقاء، بدءا من الثقافة المجتمعية، وتعزيز وعي المجتمع بالعنصر الحاسم للموهبة، مرورًا بدور مؤسسات التعليم ليس فقط في تهيئة البيئات المراعية للموهبة والحاضنة لها، وإنما في مد الجسور مع المربين لإكسابهم المنظورات والأدوات المناسبة لرعاية الأبناء الموهوبين وضمان تكاملية البيئة مع الجهود المدرسية والأكاديمية، هذا عوضًا عن تصميم بنى الاقتصاد ووجود الفرص الحقيقية لاقتصاد المعرفة، وسوق تكاملية لمنتجاته وخدماته، وتهيئة الظروف المواتية لنمو الابتكار مع تكاملية عناصر تحسين بيئة ممارسة الأعمال ووجود إعلام مسوق بشكل جيد للموهبة، وانخراط الأفراد والتجمعات في شبكات الموهبة العالمية عوضًا عن القدرة على احتضان المحافل الإقليمية والعالمية القائمة على فكرة الموهبة أو المهتمة بشؤونها أو المسوقة للعنصر الوطني الدامج لها. فحين نعود إلى المؤشر سنجد أنه في قسمه الآخر يقيس أكثر مدن العالم تنافسية للمواهب لقياس مدى نجاح مدن عالمية في تمكين المواهب وتوطينها، وفق مجموعة معايير منها "التحضر، حصة المدينة من نفقات البحث والتطوير، والأسر المعيشية التي لديها إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ووجود شركات عالمية تنافسية لجذب المواهب، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لكل مدينة، ونوعية الحياة وجودة البيئة، ووجود الجامعات الكبرى ونسبة الالتحاق بالجامعات، والأفراد في الشبكات الاجتماعية، توافر عناصر السلامة الشخصية، التركيز العالي للأطباء، والقدرة على تحمل تكاليف السكن، مقدار القوى العاملة الحاصلة على تعليم عالٍ، اتصال المدينة بحركة النقل العالمي، ووجود منظمات عالمية دولية".
وذلك يقودنا إلى القول أن مستقبل تنافسية المواهب هو مستقبل نمو ما يعرف بمدن الموهبة، وهي في تقديرنا الجيل الثاني من المدن العالمية حسب مفهوم عالمة الاجتماع ساسكيا ساسن، إن مدن الموهبة هي المدن التي تقر اجتماعيًا بقيمة الموهبة، ويمثل الاعتراف الاجتماعي بالموهبة أحد أهم عناصر الاجتماع البشري بين ساكنيها، وتسهم في ذلك طبيعة تصميم نظمها الاقتصادية، وبناها التحتية، وشاكلة المؤسسات التي تنشط فيها، ومدى اتصالها بالعالم، ودمج نشاط الشركات الكبرى في أعمالها، واشتباك نشاط الأكاديمية والبحث العلمي والابتكار في مجمل أعمال تطوير المدينة ونموها، لتحقيق رفاه ساكنيها، وبالتالي فإن نمو هذه المدن قد يدفع مدنا أخرى في داخل الحيز الجغرافي للدول على تطوير نماذج اجتذاب الموهبة الخاصة بها. ونمو هذه المدن هو ليس احتدامًا بمعترك التنافسية، وإنما تنبهًا ذكيًا للفرص في سوق المهارات والمواهب العالمية، حيث تفيد دراسة " Talent Competitiveness and Competitiveness through Talent" أنه سيكون هناك نقص محتمل بحوالي 40 مليون شخص من ذوي المواهب العالية في جميع أنحاء العالم في العقدين المقبلين، مع نقص ما يقرب من 45 مليون من ذوي المهارات المهنية المتوسطة المستوى لاحتياجات البلدان الناشئة في الهند وجنوب آسيا وأفريقيا.
محليًا نأمل أن تترجم الإرادة السياسية التي ضمنها النظام الأساسي للدولة في مبادئه الثقافية فيما يشير إلى أن "تكفل الدولة حرية الإبداع الفكري، ورعاية المبدعين، وتشجع على النهوض بالفنون والآداب" وفي ظل وضوح معالم الاستراتيجية العمرانية، إلى إيجاد رؤية محلية لتطوير مدن حاضنة للمواهب، وهنا لا نقصد مجرد توفير البنى التحتية والمنشآت والمختبرات والمراكز، ولكن خلق مدينة نموذجية (ثقافيًا واجتماعيًا وبيئيًا ولوجستيًا وتعليميًا وبحثيًا) قادرة أن تكون مدينة حاضنة للموهبة، وذلك عبر الاستفادة والمقاربة لأفضل النماذج العالمية المتاحة، بما يضمن أن تكون الموهبة عنصرًا فاعلًا وحاسمًا في استثمار رأس المال البشري من ناحية، ودعم الاقتصاد الوطني من ناحية أخرى.
• مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع