تشكل العدالة أحد أهم المطالب الإنسانية -بلا استناء- لأن في تحققها رفعًا للظلم، وفي وجودها الاطمئنان والاستقرار على الأنفس، والأموال، وعلى الرغم من العمل على تحققها، ومجموعة المصادمات والدماء التي تراق لأجل ذلك، فلا يزال تحققها بصورة مطلقة حلمًا بعيد المنال، ومعنى ذلك لا أحد يناور على أهمية العدالة في حياة الكائن البشري، وقد تتعدى أهميتها حتى إلى الكائنات الأخرى التي تشاركنا الحياة على امتداد الأرض، طبعًا هذه الكائنات «الأخرى» لن ترفع رايات التظاهر، ولن تعتلي منابر الخطابة، للمطالبة بهذه العدالة التي هي في قبضة البشر، ولكنها تستشعر أهميتها من خلال تلك الأعين الراقبة لقسمة العدالة بينها وبين من يشاركها من بني جنسها في العمل ذاته، ولذلك هي لن تقف مكتوفة الأيدي عندما توزع عدالتك أنت «أيها البشري» سواء في طعام، أو في مورد ما، أو مأوى يقيها زمهرير الشتاء وحرور الصيف، حيث ستتقدم بنفسها لتزاحم على الطعام الأكثر، وعلى الماء الأكثر، وعلى المكان الآمن، ولو كلفها ذلك أن تدخل عراكًا معينًا، تستبسل فيه لتقف في المكان الذي تريد، وتأكل الطعام الذي يلبي غريزة الجوع، والماء الذي يطفئ لظى أمعائها الخاوية، يحدث هذا بممارسة تلقائية من قبل هذه الكائنات العجماء، فما بالك الحال عند الإنسان الذي تتسامى عنده المفاضلة، ليس فقط في إرواء غرائزه الطبيعية، ولكن يتعدى ذلك إلى الفائض من الغرائز، كالوجاهة، والغنى، والتميز في مختلف مشاريع الحياة الكثيرة، التي لا تعد ولا تحصى.

هناك من يثير نقاشًا للتفريق بين نوعين من العدالة، ويطرح التساؤل التالي: هل العدالة، وأغلبها اجتماعية فطرية النشأة، أو مكتسبة الفعل؟ وهنا يمكن النظر إلى الإجابة من زاويتين، الأولى: قد تكون العدالة فطرية النشأة، لأن كل كائن بشري يتوق لأن تتحقق له العدالة، هل يحصل عليها أو لا يحصل؟ هذه مسألة أخرى، ولكن مطلبها هو هاجس فطري، يسعى الكائن البشري منذ وعيه بالحياة إلى تحقيقه، ولو على نطاق ضيق لا يتعدى المصلحة الشخصية، أما الزاوية الثانية: فالعدالة تحتاج إلى اشتغال حقيقي حتى تتحقق، وليس يسيرا إطلاقا أن تأتي العدالة على طبق من ذهب، فهي تحتاج إلى كثير من القيم الداعمة، وإلى كثير من النظم ذات العلائقية الثنائية، أو أكثر، ولذلك قد تصل في مراحل المطالبة المتقدمة إلى سل السيف، وحشو البندقية، وذلك لصعوبة الإيمان بضرورة شموليتها لجميع البشر، سواء لامتداد جغرافي معين، أو حتى على مستوى مؤسسة اجتماعية، أو مهنية، وعندما نقول اجتماعية، فإننا نعني بذلك كل المجتمع، وعندما نقول مهنية، نعني بذلك كل مؤسسات الدولة في أي نظام سياسي، ومن المثالين الآنفي الذكر، يمكن القول: إن العدالة بقدر ما هي فطرية المطلب، هي في الوقت نفسه مكتسبة التحقق، ولعل المكتسب فيها أهم بكثير من نداء الفطرة، لأنه لا يتحقق بجرة قلم.

تثار في الوقت نفسه؛ مسألة المساواة ومقارنتها بالعدالة، وأيهما يأتي أولا: هل العدالة أم المساواة؟ وعلى الرغم من حساسية العلاقة أو التماس بينهما، إلا أنه يمكن القول: إن العدالة هي ما يجب أن تتحقق أولا، فبتحققها تتحقق المساواة، ولنضرب مثالًا عمليًا على ذلك، فلو أن عند أحدنا ثلاثة أطفال بينهم تفاوت في العمر، وفي الهيكل، وفي الطول، فالمساواة تقتضي أن يحصل كل واحد منهم على ملبس ثقيل للبرد -على سبيل المثال- ولكنك كأب عندما تشتري للجميع المقاس نفسه للأطفال الثلاثة، عندها حققت المساواة، ولكن لم تحقق العدالة، فالعدالة تقتضي أن يحصل كل طفل على ملبس يتناسب مع حجم جسمه، وطوله، إذا تجاوزنا مسألة العمر، لأنه في بعض الأحيان أن يكون صغير العمر، طويلا، أو عليه جسم كبير، ولو قيست المسألة بمثال آخر على مستوى المجتمع، حيث قرر النظام الإداري في الدولة إعطاء مكافأة متساوية لكل موظفي الجهاز الإداري للدولة في القطاعين، فإن هذه المكافأة لن تتحقق فيها العدالة، لأن هناك موظفا عنده عائلة صغيرة قد يستفيد من هذه المكافأة، بينما صاحب العائلة الكبيرة لن تحقق له هذه المكافأة شيئًا يذكر، ولذا فمسألة المساواة سهل تحققها على أرض الواقع، بينما العدالة صعبة جدًا، وهذه الصورة ما ينقل فهم العدالة من النداء الفطري، إلى اشتغال المكتسب، وهو اشتغال على درجة كبيرة من الحساسية، وحساسية الأمر أن القائم على العدالة سيواجه الكثير من التقاطعات في الآراء، ومن المصدات في التنفيذ، ولعل لنا أن نستحضر واقع المحاكم، وكيف يتباين فيها تحقق العدالة، وهذا التباين ينشأ من عوامل كثيرة متعلقة بأسباب القضايا، ووضوحها للقاضي من عدمه، ومن الأقوال المتأرجحة سواء للمتهمين، أو للشهود، وما يتعلق أيضا بقدرة القاضي في استنباط الأحكام، خاصة في القضايا المعقدة في بنيوية المجتمع، ومجموعة التجاذبات التي تحصل في جميع درجات التقاضي، بينما -في المقابل- المساواة متحققة، حيث الجميع أمام منصة القضاء في المحكمة.

من خلال كثير من الأمثلة تذهب القناعة إلى أن العدالة الاجتماعية مكتسبة، وليست فطرية، وما يعزز هذه القناعة هو وجود القانون الصارم لتطبيقها، فلو كانت العدالة الاجتماعية -على وجه الخصوص- فطرية، لما احتاج المشرع إلى وضع القانون لتحقيقها، سواء هذا القانون هو من عند الله، أو أنّ القانون هو من وضع البشر، لأن خاتمة ذلك هو أن العدل أساس الملك، والملك هنا في كل مستوياته المتدرجة بدءًا من صلاحيات الحاكم، مرورًا بمختلف التموضعات التي عليها المجتمع الإنساني، وصولًا إلى شيوع العدل بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي كل هذه المستويات لن تكون تطبيقات تحقيق العدالة قائمة على مجسات الفطرة، أي أنها لا تحتاج إلى قيم ضابطة، وإلى قوانين منظمة، وإلى قوامة مستمرة من قبل القائم على تطبيقات العدالة، ولو كان الأمر كذلك لتحقق في دنيا البشر ما يطلق عليه المدينة الفاضلة، فهذا غير موجود على واقع الناس إطلاقًا، ولذلك تقبل الشعوب المغلوبة على أمرها عدم وجود العدالة الاجتماعية، شرط أن لا تظلم في حقوقها الأساسية، ولو بتحقيق اليسير منها، وهذا معناه أنها تتنازل عن هذا الحق «العدالة» بحقيقتها المطلقة، وترى في اليسير مما يوجد العدالة كلها، بينما الشعوب التي اكتسبت العدالة الاجتماعية في مجتمعاتها فهي لن تتنازل عنها ولو دخلت في مواجهة مع النظام السياسي، لأنها أدمنت منافع العدالة في كل مناخات حياتها اليومية، ولو يتحقق ذلك بسلطة القانون عبر منصات القضاء، وهذا لا ينكر حالة التماس القريبة جدًا بين العدالة في مفهومها الفطري حيث تتوق إلى تحقيقها كل النفوس، وبين العدالة المكتسبة بقوة القانون المنظم للعلاقات بين مختلف المكونات، سواء هذه المكونات بين أفراد المجتمع، أو المكونات التي تخضع لتنظيم إداري معين كما هو الحال في مؤسسات الوظيفة.

يرتبط التكامل الاجتماعي بضرورة تحقيق العدالة، ولذا تصبح العدالة بهذا المعنى مكونًا اجتماعيًا على درجة كبيرة من الأهمية، لأن بدونها لن يتحقق التكامل الاجتماعي، صحيح أن هذا التكامل معززاته كثيرة، ولكن تظل العدالة هي محور الارتكاز في العملية التفاعلية لهذا التكامل، قد يقول قائل: إن إنشاء المحاكم في الدول هي المعنية بتحقيق العدالة، وليس المجتمع بتفاعلاته المختلفة، وأقول: إن المحاكم تحقق العدالة القضائية بين متهم وصاحب مظلمة، وعناصر التحقيق هنا تتوقف على كثير من العوامل منها: الأدلة، والشهود، والمحامين، والقرائن المادية والمعنوية التي يستند عليها القضاة، وبالتالي فهي مخصوصة بموضوعات محددة، وبمكان محدد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يطلب أحدنا العدالة القضائية خارج نطاق المحكمة، وفي وجود كل هذه العناصر أو العوامل أعلاه، بينما يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال المكتسب الاجتماعي عبر توافقات وتفاهمات يقرها أبناء المجتمع فيما بينهم، كقيم وتقاليد، أو وفق قانون معين كما هو الحال في المؤسسة الإدارية، حيث توضع الآليات، والنظم لتحقيق العدالة بين مجموع الموظفين في المؤسسة الواحدة، أو مؤسسات الدولة ككل.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب صحفي من سلطنة عمان