رغم أنني شخصيًا أرى أنّ القيمة العلمية والتاريخية غائبة في معظم فصول مذكرات الدبلوماسي المصري مصطفى الفقي، الصادرة عن «الدار المصرية اللبنانية» بعنوان «الرواية - رحلة الزمان والمكان»، إلا أنّ ما شدّني فيه أنه يتناول موضوعًا ذا أهمية قصوى، هو موضوع ترهّل الأنظمة وشيخوختها. وعندما أتحدّث عن غياب القيمة العلمية والتاريخية، فلا يعني ذلك انتقاصًا من قيمة مصطفى الفقي؛ فهو قامة سياسية ودبلوماسية وبرلمانية، وعمل مديرًا لمكتب الرئيس مبارك للمعلومات بين عامي 1985و 1992، حضر خلالها جميع مقابلات الرئيس مبارك مع رؤساء الدول الذين التقاهم، وكتب محاضر الاجتماعات؛ لكنه في تناوله لتلك المقابلات لا يذكر إلا ما يمكن أن أسميه «الحواديت»، وهي عبارة عن نوادر ومقالب، بعيدًا عن تأريخ ما تمّ فيها؛ فجاءت المذكرات أقرب إلى السرد الشخصي العادي مع غياب الوثائق والتواريخ، رغم أنّ تلك المقابلات جرت في فترة هامة في التاريخ العربي الحديث. ومن يحبّ قراءة كواليس تلك الاجتماعات قد يجد في المذكرات متعة، أما من يبحث عن المعلومات السياسية والتاريخية فسيجد القليل. ويبقى أنّ ما كتبه الفقي عن سقوط نظام حسني مبارك، هو من الأهمية بمكان؛ فما حدث في مصر حدث في أماكن كثيرة، ومرشحٌ أن يحدث في أيّ مكان، إذا كانت الدول لم تبادر إلى وضع الحلول لمشاكلها الداخلية، وتركتها تتراكم فيَصلُ الأمر إلى الانفجار. وما يؤسف له أننا في الوطن العربي لم نتعلم الدروس، فقد رأينا أنّ كلّ الحكومات تلجأ إلى أسلوب الحل نفسه، وهو الأسلوب الأمني، رغم فشله؛ فأصبح انهيار الدول خبرًا عاديًا لا يثير الانتباه.

يخصص الفقي الفصل السادس عشر من الكتاب، والذي يحمل عنوان «خطايا مبارك وبداية السقوط»، لقراءة أسباب سقوط نظام مبارك، يستعرض فيه أبرز خطايا النظام. وفي اعتقادي أنّ هذا الفصل هو الأفضل في المذكرات على الإطلاق، مع وجود إشارات وتعليقات جيدة في فصول أخرى.

يذكر الفقي أنّ البداية كانت في مطلع الألفية الجديدة، عندما ألقى محمد حسنين هيكل محاضرة في الجامعة الأمريكية، حضرها حشدٌ كبيرٌ غالبيتُهم من الشباب، استخدم فيها عبارة «ترهّل النظم وشيخوخة الحكام»، انتقد بشكل مباشر الأوضاع في مصر. ثم واصل هيكل الحديث نفسه في المنابر الدولية المختلفة، متناولا ترهّل النظام المصري وشيخوخته، والفساد المنتشر، وسطوة رجال الأعمال، والتزاوج بين السلطة والثروة. ويقول الفقي إنّ حديث هيكل أوغر صدر الرئيس مبارك كثيرًا وأزعج أسرته بشدة، لأنّ الحديث كان واضحًا أنّ نظام مبارك لم يعد قادرًا على متابعة كلّ شيء، ولم يعد لديه ما يقدّمه، والعد التنازلي لرحيله قد بدأ، وأوشك على الانتهاء.

يرى الفقي أنه «كان ينبغي على الرئيس مبارك أن يلتقط إشارات هيكل الذكية، إلا أنه انزعج من هذا الحديث»، وما حصل بعد ذلك هو أنّ بعض الأقلام تصدّت للهجوم على هيكل، «والناسُ ترى أين تتجه عين الحاكم، فتتجه نحوها، فإذا غضب على شخص غضبوا عليه جميعًا، وإذا قرّب عليه آخر هرعوا نحوه بالتبجيل والاحترام». وفي الواقع إنّ ما فعلته هذه الأقلام، هو ما تفعله في أيّ زمان ومكان، وعندما يقع الفأس على الرأس فإنها تختفي. وأشير هنا إلى أنّ هيكل لم يحرّض الشعب المصري على النظام، وإنما قرأ الواقع واستشرف على ضوء تلك المقدّمات المستقبل، وهذا من صميم عمل الكتّاب المخلصين.

وعن أسباب السقوط، يقول الفقي إنّ النظام كان قد وصل إلى مرحلة من العجز، وافتقد لمستشارين لديهم القدرة على التحليل وقراءة المشهد بشكل جيد، وإطلاع الرئيس مبارك على حقائق ما يدور، لكي يُحدث إصلاحًا أصبح ضرورة ملحة في الأيام الأخيرة من حكمه، كان كلّ ما يسمعه الرئيس مبارك هو حوارُ المركز الرياضي، الذي يمارس فيه الرياضة يوميًا، حيث يقابل بعض الطيارين من تلاميذه، إلى جانب من يلتقيهم ممن يؤنسونه، وكان من بينهم الفنانان أحمد البدير ومنتصر بالله، لذلك - حسب الفقي - تعامل النظام مع أحداث 2011 باستخفاف، ويستشهد بذلك بقول المهندس أحمد عز أمين التنظيم وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم غداة الأحداث: «لا يوجد ما يدعو للقلق؛ فاللواء حبيب العادلي وزير الداخلية قال لنا: ثلاثة أيام وتنتهي الأزمة».

ما حدث في مصر في يناير 2011 لم يكن وليد صدفة، ولكنه نتاج طبيعي لتراكمات طويلة، وأحداث أبدت للكثيرين أنّ النظام يتجه إلى نهايته التي صنعها بيديه، وأضاع كلّ الفرص التي كان يستطيع أن يخرج بها من المأزق الذي وضع نفسه فيه، وأن يقدّم للأجيال الجديدة مساحة للأمل وللحياة وللمستقبل. وما أستغربُه شخصيًا أن تصمّ الحكوماتُ أذانها عن الاستماع إلى آراء الشارع، وتعتقد أنها دائمًا على حقّ، وأنّ أيّ انتقاد هدفه التدمير، فيما تغيب الحلول للمشكلات، وتكثر التصريحات التي تبيع الوهم للشعب، ونجدُ أنّ فكر المواطنين أفضلُ من فكر الحكومات بمراحل، بمعنى أنّ الانفجار لا يأتي فجأة، فهناك مقدمات له إذا أحسن التعامل معها، قد تمنع الانفجار، لنصل إلى السؤال الدائم: أين الخلل؟

في مواضع كثيرة من المذكرات، يذكر الفقي أنه كان يقدّم نصائح للرئيس مبارك، وقال: «الكلّ يعلم أنني كنتُ أكثر شخص كان الرئيس مبارك يصيح فيه، وكنتُ أنقل له الحقيقة كما هي، إلى جانب آراء الشارع المصري، كان مبارك مستمعًا جيدًا، ولم يكن عدوانيًا، كما تردّد عنه، وعندما كنتُ أنقل له الحقيقة، كان يسألني «ألا توجد أخبار جيدة»، وكنتُ أجيبه بـ «لا». إلا أنّ الفقي يذكر عبارةً في رأيي يجب أن تكون درسًا للحكام، عندما قال: «لم أكن أعارض مبارك وجهًا لوجه؛ وإنما كانت معارضة متوارية، لأنني أخشى غضبة السلطان، والخوفُ ظاهرةٌ بشرية». والمعنى في ذلك أنّ من في السلطة لا يريدون الاستماع إلى النصائح حتى وإن كانت صادقة، وإنما يريدون سماع كلمات المديح فقط، حتى وإن كان فيها الهلاك مستقبلا. ويحكي أنه في يوم 10 يناير 2011، دعاه علاء مبارك إلى الالتقاء به في منزله، وسأله: هل ما حدث في تونس منذ أيام يمكن أن يحدث في مصر؟! فأجابه: رغم أنّ الخطاب الإعلامي المصري يستبعد ذلك بشدة، إلا أنّ الأمر وارد، لأنّ العدوى ممكنة، كما أنّ الشارع المصري ليس في أهدأ أحواله، «قلت له أقترح عليك أن تجلس مع والدك، وتتحدّث معه في بعض الأمور التي تنذر بأوخم العواقب».

يقول الفقي إنه أحبّ مبارك الشخص، لكن لم يكن شديد الاقتناع به، وذلك بسبب إهدار الفرص وتجريف الكفاءات وغياب الرؤية لديه.

المهم؛ أثارت مذكرات مصطفى الفقي نقاشات واسعة على مواقع التواصل، وتحفّظ البعض على صدقية كاتبها، ووجّه علاء مبارك انتقادات إلى الفقي في تغريدة، قائلا «بمرونة غير عادية وشخصية متلونة، يجيد اللعب على كلّ الحبال، حسب الظروف والتوقيت. وفقَدَ كثيرًا من الاحترام للأسف»؛ غير أنّ الفقي اكتفى بالرد بأنّ على علاء أن يقرأ الكتاب قبل توجيه الانتقادات؛ وقد رأى البعض في المذكرات مصدرًا مهمًا للمعلومات عن تلك الفترة من تاريخ مصر، التي حكم فيها مبارك بقبضة من حديد؛ ومن هؤلاء الكاتب عمار علي حسن الذي قال «إنّ الحكم على صدقيتها أمرٌ آخرٌ متروكٌ للمؤرخين»، مشددًا على أنّ «كثيرًا من التاريخ في بلادنا يُكتب بالكيد أو تبرئة الذمة». ولكن ما قاله عمار علي حسن وإن كان البعض يراه منطبقًا على مذكرات الفقي، فإنّ هناك ما يدّل على صدق ذلك؛ ولكن لا يعني ذلك ألا تتم الاستفادة منها، خاصةً فيما يتعلق بترهل الأنظمة وشيخوختها.

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»