ثمة هاجس محوري يواجه صناع السياسات في عالم اليوم والمشتغلين في صنع الاستراتيجية حول الكيفية التي يمكن من خلالها إعادة بناء اليقين والموثوقية الاجتماعية بالعمل الاستراتيجي عمومًا، لا يتعلق الأمر بما يحمله الأفراد من ذاكرة استحضارية لمدى ملامسة سياسات أو استراتيجيات سابقة لسقف تطلعاتهم أو قدرتها على تحقيق الوعود الاستراتيجية والوفاء بها، لكن ثمة عوامل تتحول يومًا بعد آخر وتضع رهانًا على صناع السياسات والفاعلين الاستراتيجيين حول الكيفية التي يمكن من خلالها صوغ استراتيجيات أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع عالم متغير من ناحية، والوصول إلى بناء الثقة الاجتماعية من ناحية أخرى، وتأكيد اليقين الاجتماعي من ناحية ثالثة. تتمحور هذه العوامل في شاكلة قدرة السياسة أو الاستراتيجية على إيجاد شواهد ملموسة تغير جذريًا في حياة الأفراد وفي واقعهم المعيش وفي الانتقال من التعاطي مع الوعي إلى مستوى الفعل والسلوك. وفي الآلية التواصلية التي تقدم فيها الاستراتيجية وما ينبثق عن تلك الآلية من محركات إعلامية ورسائل. وكذا في قدرة الاستراتيجية على تقديم إجابة واضحة لسؤال: كيف سيستفيد كل أصحاب المصلحة (الشركاء) من منافع هذه الاستراتيجية.

في العقود الأخيرة تمت المراهنة على أنماط مستجدة من قبيل ضمانات النهج التشاركي والتخطيط التأشيري وإدماج فصول للمخاطر المتوقعة بالإضافة إلى التخطيط باستخدام السيناريوهات كأدوات للتكيف وإكساب السياسات والاستراتيجيات مرونة في ظل المتغيرات. وبالرغم من الأهمية القصوى لهذه الأدوات إلا أنها اليوم تواجه تحديًا أكبر وهو تحدي اللايقين في بيئة صنع السياسات والاستراتيجيات عمومًا. ومؤداه مدى القدرة الدقيقة على استشراف والتنبؤ بالمخاطر والتحولات المتسارعة التي يفرضها الإطار الكوني – العالمي – الإقليمي – المحلي على بيئة صنع السياسات والاستراتيجيات. في كتابهما الموسم حول "القيادة والاستراتيجية في عالم متغير" يتحدث جوزيف كوبسر وبريت بويد عن خمسة عوامل رئيسية يمكن القول إنها ستجعل من مسألة "اللايقين" عنصرًا أساسيًا في مسألة صنع الاستراتيجيات خلال الأعوام المقبلة وهي:

- تغير ديناميكات المدن من ناحية: الهجرات الحضرية والكثافة السكانية والمدن العملاقة ومتطلبات البنى التحتية والضغط على الخدمات وديناميكات السوق للشركات.

- تغير أنماط العمل وبيئته من ناحية: العلائق الديموغرافية وأنماط الاستهلاك والنظم الاجتماعية ودورها في التأثير على الإنتاجية والتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي وتغير المستهلك العالمي.

- تحول أنماط التصنيع من ناحية: ثورة الطباعة ثلاثية الأبعاد وحركة التجارة والشحن العالمي وتغير تكاليف الإنتاج الصناعي.

- الطاقة من ناحية: شعارات التحول في الطاقة المتجددة والصناعات القائمة عليها وديناميكيات التكلفة والتكامل والتفاضل في القرارات الاقتصادية.

- التعلم الآلي والواقع المعزز والتكنولوجيا الصحية والعملات الرقمية.

وقد تكون تلك العوامل قابلة للتحكم البشري وتستطيع الجماعات البشرية والمنظمات والأفراد التعاطي معها من خلال التعلم والتحكم والتشريع. لكن حين نتحدث عن اللايقين المتولد من المخاطر الصحية والمخاطر الطبيعية والمناخية وامتداد تأثير الصراعات السياسية خارج الحدود والضغوطات الاقتصادية الناجمة عن اختلال الأسواق وموازين العرض والطلب بالإضافة إلى المخاطر السياسية الإيديولوجية. فإننا نتحدث عوامل تولد الحاجة إلى ما أسميه شخصيًا "العقل الاستراتيجي التوليفي" القادرة على وزن كل محدد استراتيجي بموزون كل تلك العناصر وباستدراك واستشراف كل تجلياتها وامتداداتها حتى وإن كانت تحدث في سياقات جغرافية مختلفة وبعيدة (عن المنظور المشاهد). قادت الدراسات التي قام بها كلٌ من هايتسر آهير ونيكولاس بلووم وديفييد فورسيري إلى تطوير مؤشر عالمي فصلي جديد باسم المؤشر العالمي لعدم اليقين world uncertainty index وهو مخصص لقياس حالة تصاعد عدم اليقين في 143 دولة حول العالم اعتمادًا على التقارير الاقتصادية التي تظهر في تفاصيلها مؤشرات عدم اليقين. وفي نسخة 2019 من التقرير – أي ما قبل الجائحة – كشف المؤشر أن عدم اليقين العالمي زاد بشكل كبير منذ عام 2012 في مختلف الدول التي يغطيها المؤشر وأن هذه الحالة برزت في الاقتصادات المتقدمة أكثر من الاقتصادات الصاعدة. وأن عوامل مثل الصدمات السياسية الداخلية والكوارث الطبيعية تجعل الاقتصادات النامية أكثر عدم لعدم اليقين وعرضة للتقبلات وتبدو قدرتها محدودة على التعامل مع مثل هذه الصدمات.

يبقى السؤال هو عن الكيفية التي يمكن للسياسات والاستراتيجيات الثبات فيها في ظل هذا الصعود لحالة عدم اليقين، وهنا يقترح "شون وو" من جامعة هونج كونج للعلوم والتكنولوجيا أن "الإدارة المشتركة وزيادة مشاركة الجهات الفاعلة غير الحكومية في جميع أنحاء عملية تصميم السياسة قد تساهم في السياسات المتكيفة وحوكمتها بشكل عام". ونرى في تقديرنا أن أحد المداخل الأساسية هو أن تتأسس عملية صنع السياسات والاستراتيجيات قبل كل شيء على فهم "هواجس الناس" وحين نتحدث عن الهواجس فنحن لا نتحدث عن مصادر القلق وعدم اليقين والعوامل التي تؤثر في الثقة الاجتماعية فقط بل في الكيفية التي يتحول فيها كل ذلك إلى سلوك سواء اجتماعي أو اقتصادي أو تعبيري (ثقافي). وهناك ضرورة ملحة لعبور الاختصاصات وتجسير الفجوات وإدماج المنظورات الواردة من العلوم الإنسانية بمنهجيات أكثر تقدمًا في تشخيص الأوضاع الراهنة للمجتمع أو المؤسسة أو القطاع التي تتوجه إليه السياسة أو الاستراتيجية. كما أن هناك ضرورات في تقديرنا لتجاوز فكرة التخطيط بالمدى الزمني إلى فكرة التخطيط بالمستهدفات أو الإنجاز. ذلك أن عامل المدى الزمني أصبح اليوم العامل الأكثر جدلية في وضع السياسات والاستراتيجيات. إن رهان العمل الاستراتيجي اليوم هو في تحقيق المرونة الاستراتيجية التي يحدد دي توني عناصرها في خمسة عناصر رئيسية وهي: "السرعة، الاتساق، البصيرة، الخفة، والإبداعية".

* مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع