تحدثت في مقالي الأسبوع المنصرم، عن التوجه الفكري للدكتور عبد الرحمن بدوي في بدايات حياته الدراسية والفكرية، ثم الحياة الأكاديمية، واعتناقه للفلسفة الوجودية، عندما كانت هذه الفلسفة رائجة في الأوساط الغربية، وبالأخص فرنسا وألمانيا، وكذلك بعض البلدان العربية، وما تلاه من اهتمام لافت بالفلسفة اليونانية، وترجمته الواسعة لفلاسفتها، واهتمامه أيضًا بالاستشراق الغربي وحركته، وترجمته لكتب المستشرقين، من كل المدارس الاستشراقية، التي كُتبت عن البلاد العربية والإسلامية، وتعد كتب الاستشراق بالمئات من الكتب والموسوعات في العلوم العربية المختلفة، ويعد د. بدوي أيضًا من الباحثين العرب الذين اهتموا بالفكر الغربي في عمومه وخاصة فلاسفة الغرب القدامى منهم والمعاصرين، وألَّف الكثير من المؤلفات منها: موسوعة المستشرقين، كما اهتم بالفرق الإسلامية البارزة في التاريخ الإسلامي، ومنها: كتابه الشهير مذاهب (الإسلاميين) في جزأين، و(تاريخ التصوف الإسلامي)، و(شخصيات قلقة في الإسلام)، و(مؤلفات ابن خلدون)، وغيرها من الإصدارات.

وبحكم توطنه في فرنسا لعدة عقود، بدأ اهتمامه بالتصوف، وكأنه يحاول التراجع عن الوجودية، والتخلص من فكرة الوجود والعدم لبعض فلاسفتها، ومنهم جان بول سارتر، وهذا ما دعا الدكتور يوسف زيدان، إلى الاعتقاد، أن د.عبد الرحمن بدوي، بدأ: "التحول في مسيرة.. مرحلة سابقة في دراساته عن الإسلام، وبخاصة التصوف الإسلامي، فيرى أن إلحاح بدوي عن الصلة العميقة بين التصوف والوجودية في كتابه (الإنسانية والوجودية في الفكري العربي)، وفي تحقيقه لكتاب الإشارات الإلهية راح يخفت شيئًا فشيئًا حتى تخلص من سحر الوجودية عندما أعلن" ما لا يمكن لفيلسوف وجودي أن يعلنه: الرغبة في العودة إلى الإيمان والإذعان".! لكن هذا القول يناقض ما كتبه المفكر المعروف عباس العقاد، الذي اعتبر أن الوجودية، ليس كل أصحابها ملحدين، بل أن الغالبية من فلاسفتها من المؤمنين، وهذا ما يراه أيضا الكاتب والناقد أسامة خليل، في بحثه (عبد الرحمن بدوي وأحكام الغربة القصوى)، إذ يختلف مع د.زيدان أنه: "بهذا الحكم الذي يعارض بين الوجودية والإيمان ـ نصوص مؤسس الوجودية القسيس البروتستنتي كيركغارد، وما تلاها من فلسفات ودودية دينية لدى غبرييل مارسيل وميغيل دي أو ناموتو وغيرهما؟ وبخاصة أنه يستشهد بمناجاة الفؤاد المغرقة في الوجودية التي يهديها إلى عبد الرحمن بدوي إلى روج أستاذه الأكبر مصطفى عبد الرازق بعد وفاته".

ولا شك أن التغيير الذي حصل لعبد الرحمن بدوي، حصل للكثيرين من الباحثين والكتاب العرب في مسيرتهم الفكرية، وتلك سنة بشرية في المراجعات الفكرية كما يراها أصحابها، خاصة للرجل المسلم، الذي حتى وإن تغير قليلًا في فكره في بعض المراحل، لكنه سرعان ما يعود إلى ذاته، وأتذكر أنني في مؤتمر الحوار العربي / الألماني الثالث الذي انعقد في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام 2007، وحضره عشرات الكتاب المفكرين العرب، ونظم للحضور من المشاركين بعد انتهاء المؤتمر، رحلة برية في دبي، وأتذكر أن الجو كان باردًا نوعًا ما وهناك جلست مع د. حسن حنفي رحمه الله وسألته عن بعض القضايا الفكرية والفلسفية بحكم اهتمامه الفكري والفلسفي من خلال مؤلفاته الكثيرة والواسعة القضايا وسألته عن د. محمد عابد الجابري، لماذا محمد عابد الجابري قام بكتابة تفسير للقرآن الكريم وسماه (فهم القرآن الحكيم) وهو مع ذلك أكاديمي مهتم بالفكر الفلسفي والتراث القومي العربي؟ فقال لي: هذه عادة الكثير من المفكرين عندما يصلون إلى أعمار معينة، يراجعون فكرهم، ويتدينون وهذا حقهم في الاختيار والقناعة الفكرية، وهذا ما حصل فعلًا للكثيرين نذكر منهم ـ كما أشرت لبعضهم في مقالات سابقة- : د. زكي نجيب محمود، د. محمد عمارة، المستشار طارق البشري، الكاتب عادل حسين، وما نناقشه في هذا المقال د.عبد الرحمن بدوي الذي غيّر وجهته الفكرية قبل وفاته رحمه الله وهذا ليس تقلبًا أو تناقضًا في النظر العقلي، لكنها مراجعة عقلية وفكرية، بقناعة وهذه ظاهرة أراها جيدة بالقناعة الشخصية، عندما يرى صاحبها خطأه في مسار معيّن من حياته الفكرية.

وعندما برزت قضية (الإسلاموفوبيا) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، شاهد د. بدوي، وهو مقيم في باريس الحملة الكبيرة على الإسلام كدين، وفتحت ملفات الاستشراق الذي سبق الحملة الاستعمارية، فيما كتبه عن الإسلام والمسلمين بما فيها من التحامل والتشويه والتنفير، دون مبررات معقولة، واستغلت الحركة الصهيونية في الغرب وأنصارها، لتشويه العرب والمسلمين والتحذير منهم، والنقد الظالم من بعض الباحثين، والخلط المتعمد بين التطرف المرفوض، والنظرة الإسلامية الصحيحة كما جاءت في تعاليمه السمحة، وحصل للدكتور بدوي ردة فعل غاضبة، عندما رأى وسمع الحملات المسعورة، ممن كان يدعي النظرة العادلة والمنصفة تجاه الآخر المختلف، خاصة الإسلام والمسلمين، فحدث أن راجع توجهه الفكري للكثير من المسلّمات التي كتبها من خلال مراجعة أفكاره السابقة، خاصة الاستشراق غير المنصف، والنظرة المتعسفة فيه.

وقد تحدث د. محمد عمارة في مقدمة كتاب د. عبد الرحمن بدوي (دفاعًا عن القرآن ضد منتقديه) عن هذا الأمر، تعليقًا على هذا الكتاب، والكتاب الآخر الذي حمل عنوان (دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره)، ذلك أن د. بدوي، بعدما انتهى به المطاف بالإقامة الدائمة لعدة عقود في باريس، مع انتدابه بين الوقت والآخر، في إلقاء محاضرات في بعض جامعات دول العالم، تابع التغيرات السياسية والفكرية التي جرت، عكف على المراجعة الجدية لما طرحه بعض المستشرقين تجاه دين الإسلام ونبيه، ولذلك كما يرى د. محمد عمارة، وجد سيل من الحملات المغرضة: "مع صعود ظاهرة العداء للإسلام، التي عمت الكثير من المجتمعات الغربية وخاصة بعد سقوط المنظومة الشيوعية وتوحد قبضة الحضارة الغربية واتخاذها الإسلام عدوًا أحلته محل الخطر الشيوعي، الأحمر.. فكان ختام حياته الفكرية بالدفاع عن الإسلام والقرآن ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، مفنّداً الجذور الاستشراقية التي تغذي ظاهرة (الإسلاموفوبيا).. وذلك بعد أن عاش ردحًا من الزمن ينشر في الثقافة العربية مناهج الاستشراق والمستشرقين". وهذا ما جعله ينظر نظرة فاحصة تستعيد أعمال بعض المستشرقين خاصة ممن سبقوا الحملة الاستعمارية ومن المرتبطين بمؤسسات التبشير الغربية.

والحقيقة أن المفكر الفلسطيني" ادوارد سعيد" الذي عاش في الغرب كان الأسبق في كشف أغراض المستشرقين وفضح عنصريتهم على أسس علمية ومنهجية في كتابه (الاستشراق) لكن د. عبدالرحمن بدوي، ركّز على كشف مقولاتهم التي لم تكن فيها الإنصاف بل الأغراض السياسية للحملات الاستعمارية في غالبيتهم، ومن هنا جاء رد د. بدوي على بعض المستشرقين في كتابيه المشار إليهما، بحكم معرفته الواسعة فيما كتبوه وبأسلوب منهجي فيما طرحه المستشرقون على القرآن الكريم، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، كاشفًا فيهما الأغراض والأهداف المسبقة التي وجهها الاستشراق للإسلام واعتبره د.بدوي وجه من وجوه الحملة الاستعمارية، ورددها المستشرقون في مطاعنهم وهجماتهم الفكرية المغلفة بالعلم والعقل والمنطق حتى أن بعض الباحثين الغربيين أنفسهم انتقد هذه الأفكار والأطروحات واعتبرها أنها بعيدًا عن الطرح العلمي والمنهجي المنصف.