ربما كانت الألفة هي جوهر المعنى الإنساني في العلاقات الحميمة بين الناس، فقيمة الألفة لا تكمن فقط في كونها قيمة منتجة لمعنى العلاقات الإنسانية الحميمة فحسب، بل كذلك في كونها قيمة عابرة لتلك العلاقات باتجاه يتصل فقط بهويتها وشرطها الذي متى ما وقع كان معبرًا عن معناها.

وفي تقديرنا أن صلة الرحم بتدرجاتها المختلفة في علاقات القرابة الحميمية هي تجسيد لقيمة ومعنى الألفة، فكأن الألفة هنا هي علاقة المعيش مع القريب الحميم من الدرجة الأولى كالأم والأب والشقيق والشقيقة، ذلك أن الألفة في هذه العلاقات الحميمة تتحقق عبر العشرة والسكن والقرب فتصنع ذلك المزيج الذي يعبر عن القرابة الحقة التي هي أقصى معاني الحميمية.

ولنا أن نتصور في تقدير معنى الألفة إذا ما استدعينا معنى آخر هو معنى الفراق، فالفراق حال تحققه يصبح نقيضًا لتك الألفة حتى إذا حصل ذلك الفراق بين من هم على درجة أولى من صلة الرحم سيلعب دورًا كبيرًا في تجفيف معنى الألفة الذي يوشك أن ينتفي بالفراق.

وفي الوقت ذاته، تعكس الألفة هويتها الحميمية متى ما تحقق شرطها حتى في ظل انتفاء علاقة القرابة، فنجد في الأمثال «رب أخ لم تلده أمك» وفي تقديرنا أن هذا المثل يجسد أثر الألفة بين الناس التي يصل بها المتآلفون إلى درجة القرابة ذاتها، مع أنه قد لا تكون هناك علاقة قرابة بين المتآلفين.

ولعله لقدرة الألفة على تبديل العلاقة بين البشر إلى علاقة حميمية، نجد أن الدين يؤكد على حرمة تلك العلاقات التي تقع من خلالها قيمة الألفة بين الناس، فعلاقة الجيرة مثلاً هي سبب قوي جدًا لحصول تلك الألفة ولهذا قال النبي الكريم "«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» في إشارة واضحة إلى قيمة الألفة التي تكاد أن تصل إلى درجة القرابة إذ القرابة هي فقط العلاقة التي يورث فيها الناس بعضهم بعضًا، وهناك من علاقات الألفة العظيمة ما يصل إلى مصاف قيمة الأمومة، فبعض الناس هيأ الله له امرأة تكون بمثابة أمه نتيجة لعلاقة الألفة، فزوجة الأب أحيانا قد تكون بمثابة الأم -حتى في ظل وجود الأم- (كما هيأ الله لكاتب هذه السطور زوجة أبٍ كانت له بمثابة أم أخرى لم تنجبه) وكذلك قد تكون المربية بمثابة الأم، إلى جانب أن هناك من يقيّض الله لهم من يكونون بمثابة آبائهم.

هكذا نجد أن علاقة الألفة هي عاطفة إنسانية نبيلة تخترق حتى علاقات القرابة وتصاقبها كذلك. لأن الإنسان ينحو دائما إلى أن يألف من يكون بقربه. وقد نجد قيمة الألفة تصلح لأن تكون تفسيرًا موضوعيًا لعاطفة إنسانية أخرى هي عاطفة الحب (ومنها بطبيعة الحال عاطفة الحب بين المرأة والرجل التي شَرَّق الناسُ وغرَّبوا في تفسيرها دون أن يقعوا على معنى منضبط)، ففي الحديث النبوي هناك نص يفسر جميع علاقات البشر الحميمية بمعنى الألفة تحديدًا، حيث يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنودٌ مُجَنَّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف» وهنا نجد أن الحديث يقيم علاقة شرطية بين المعرفة والألفة، فكأن قيمة الألفة هي الضابط المحدد لمعنى علاقة الأرواح البشرية ببعضها البعض في مختلف جوانب الحياة الحميمية للإنسان.

وفي القرآن الكريم نجد آيةً تتحدث عن «الصديق الحميم» في إشارة إلى طبيعة العلاقة التي توشك أن تكون علاقة قرابة.

إن مجالات الألفة هي العلاقات تنعقد بها الأواصر الحميمية بين البشر.

ولقد عبر الكثير من الشعراء والحكماء عن علاقة الألفة كعلاقة مساوية للقرابة كما قال الشاعر متمم بن نويره التميمي يرثي أخاه مالكًا:

وكنا كَنْدمَانَي جُذَيْمةَ حِقْبَةً * مِن الدَّهْرِ حتّى قِيِلَ لَنْ يَتَصدَّعَا فَلَّما

تَفّـــــرَّقْــــــــنَا كأنـِّـــي ومـَـالِكاً * لِطِولِ اجْتِمَاعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا

أما الأحنف بن قيس التميمي فقد عبر بحكمة بالغة عن أهمية علاقة الألفة والجيرة في تفوقها، أحيانا، على علاقة القرابة حينما أطفأ الفتنة بين قبيلتي تميم والأُزد في البصرة عندما قال: (والله إن أزد البصرة أقرب إلينا من تميم الكوفة، ووالله إن أزد الكوفة أقرب إلينا من تميم الشام).

___________

محمد جميل أحمد - كاتب من السودان