أشرفتُ على مجموعة من خريجي الجامعات في مسابقة خليجية حول القراءة، وكانت فرصة رائعة للتعرف على أفكارهم وهواجسهم بشأن الحياة، طُلب منهم تقديم خطاب يفند موضوعا يرونه مهما، وقد كانت متعة تطوير النصوص معهم لا تضاهى.
لفتني صوت إحداهن وهي تقول: سأكتب موضوعا عن مديح الرأسمالية. كان ذلك مثيرا بالنسبة لي، أن أجد من يتحدى موقفي في هذه المسألة وأن أكون أنا المشرفة على ما سيظهر عليه خطابه.
لقد توقعت أن هذا الصوت كان يستند على أدبيات ليست بسيطة -بغض النظر عن جودتها ورصانتها- تبدأ من آين راند الكاتبة الأمريكية التي بدأت أعمالها بالرواج مؤخرا في العالم العربي، مع ترجمتها وتقديمها للعربية الذي حدث في السنوات الأخيرة، والذي بدأ مع ترجمة كتابها الشهير «فضيلة الأنانية» الذي تدافع فيه عن لبنة الاتجاه الرأسمالي وارتكاساتها على الصعيد الفرداني، لكنني فوجئت أن هذا لم يكن ما تفكر فيه صاحبة الصوت، لقد قالت كلمة لم أستطع تجاوزها منذ ذلك الحين «الكل يشتمها المسكينة»، خلاصة الأمر إذن أنها أرادت أن تتميز عن الآخرين، وأن تقدم موضوعا مفارقا، ولستُ ألومها على ذلك، لكنني فكرتُ كثيرا فيما يقف وراء هذا الموقف الذي سيبدو لآخرين بسيطا وعاديا لكنه عنى لي الكثير.
اجتماعيا هذا ما يحدث باستمرار، نتبنى فكرة وندافع عنها، وسرعان ما يتحلق حول هذه الفكرة جماعة مؤمنة ومنافحة عنها، لكي يتخلق مع مرور الوقت إغراء «الاستقلالية» و«الفردانية» اللتين تتمثلان في الخروج عن هذه الجماعة، وهكذا دون توقف، حتى أصبحت أرفع أفكار الحضارة الإنسانية عُرضة لهذه الحلقة من التناوب بين التصديق والتكذيب، دون أن يكون لأهمية الفكرة أو أخلاقية الإيمان بها محطُ اهتمام، بالنسبة للإنسان الذي أصبح يستهلكُ كل شيء، وكل شيء استحال لسلعة تبلى مع مرور الوقت.
ألوم بصورة خاصة «الثقافة الشعبية» أو pop culture لقد تحولت لمانفيستو معظم وسائل الإعلام في الخليج مؤخرا، والتي تدعي أن الثقافة الرفيعة لا يتلقطها سوى جمهور متخصص، وهم قلة، حتى هذه الحجة أجدها مضحكة، فغالبا لا تستند مثل هذه الأحكام على إحصائيات حقيقية، أو قراءة فعلية لما يحدث بالضبط عند الجمهور، إنها محاولة لتسويغ العمل على الأعمال البسيطة ولن أقول التافهة، وتلقف لما يحدث في أمريكا على اعتبار أن ما يحدث هناك هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به، وبإطلالة على نتاج هذا الاتجاه، سنرى أن هناك تمريرا لأفكار كبيرة دون شرحها أو التوقف عندها، والرأسمالية أحدها، كمن يلقي بنكتة في وسط الصف فيضحك الجميع ماضون نحو نكتة أخرى أو جريمة قتل أخرى فالأمر سيان.
الأمر إذن أشبه بما يمكن أن نسميه «خطافات» وإنتاج مجموعة من اللحظات الفارقة، داخل أي شكل من الإنتاج بداية من الكتابة ووصولًا للإنتاج الفني، إذ لا تعتمد الثقافة الشعبية على العمل الموحد والمتكامل، ولا تثق بقدرتنا على البقاء يقظين ونحن نتعرض لهذا العمل، في عالم بالغ التشتيت، هذا يذكرني فورًا بتاركوفسكي في كتابه الأثير «النحت في الزمن» عندما تحدث عن صعوبة تلقي السينما النوعية فمعظم الناس لا يريدون بذل الجهد للمشاركة في فهم وتفسير ما يشاهدونه بل يرغبون في التلقي «الاستسلامي» للعمل ولن أقول «السلبي» لأنني سأخوض حينها محاولة تفسير السلبي التي قد تكون إيجابية بمعنى أنها التوتر والاشتباك، في حين أنني أقصد العكس من ذلك تماما. صار هذا هو الطبيعي، بعد أن كان مستنكرًا لكثير من الوقت، وكيف يمكن أن يكون الإنسان مذنبا فمن حقه بعد ساعات عمل طويلة جدًا ومنهكة أن يعود لبيته فيشاهد عملًا لا يتطلب بذل أي جهد في فهمه.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة لواحد من أهم من كانوا ضد الثقافة الشعبية عالم الاجتماع والموسيقي الألماني أدورنو وقد كتب عنه أوين هولت تقريرًا مهمًا ربط فيه بين ما ينتج حاليًا والذنب، فيما أسماه «ملذات مذنبة»، ويشير في ذلك لكوننا اليوم نعمل لفترة أطول بأمان وأموال أقل، والعالم من حولنا يشتعل في أتون مشاكل اجتماعية وسياسية ليس لدينا فكرة واضحة حول التعامل معها أو التخفيف من حدتها، لذلك يبدو من الأفضل قضاء وقتنا في الاسترخاء والهرب من ضغوط الحياة اليومية. وحتى إن لم يكن نتاج هذه الملذات كاملًا إلا أنها تمنحنا متعًا أشبه بومضات في حياتنا المزدحمة، وهي قادرة على منحنا في حالة الفن متعاً فورية أكثر من الفن الراقي في وقت أقل ونفقات أقل بلا شك.
أدورنو ليس معارضًا للمتعة، لكنه يشكك في «الملذات المذنبة» فأي نوع من العالم يربط بين الشعور بالذنب والمتعة؟ «أي نوع من المتعة يأتي مع الوعي، بغض النظر عن مدى قوته، بأن الأشياء يجب أن تكون أفضل؟ إنه عالم، كما يدعي أدورنو، يعطينا فقط نسخة باهتة من المتعة المتخفية في زي الشيء الحقيقي؛ التكرار متنكرا في شكل هروب؛ فترة راحة قصيرة من العمل متنكرًا في زي رفاهية».
يكتب هولت أن الثقافة الشعبية تقدم نفسها كفرصة للإفراج عن مشاعرنا ورغباتنا المكبوتة، وبالتالي قدرًا أعلى للحرية، لكن في الحقيقة، إنها تسلبنا حريتنا مرتين - من الناحية الجمالية (في الفشل في منح الحرية الجمالية في الاستمتاع بالفن) أي وبحسب أدورنو تجربة العمل الفني وتفسيره والتقاطع معه بمنحنا وقتًا لنسكنه ونجربه كتجربة واحدة. وأخلاقيًا في عرقلة الطريق إلى الحرية الاجتماعية الحقيقية.
هنالك إدراك في ثقافة المتعة «المذنبة» هذه أن هنالك ما هو أفضل مما نقرأ أو نشاهد أو نسمع لكننا مع ذلك عازمون على الاستمتاع بما يقدم لنا على أي حال. وهذا بحسب أدورنو هو جوهر الذنب والخطأ في إنتاج الثقافة الشعبية. فيشير هولت: أنا نعلم بالضبط ما نحصل عليه، وكم هو رديء، لكننا نرغب فيه مع ذلك وهذا هو انتصار الاستهلاك في صناعة الثقافة: التقليد الإجباري من قبل مستهلكي السلع الثقافية فأصبحت العبارة، الناس/الجمهور يريدون أن ينخدعوا، أكثر صدقًا مما كان يُقصد به في أي وقت مضى. فلا يسقط الناس بهذا المعنى في الخداع الذي يضمن لهم إشباعا عابرا بل أصبحوا يرغبون في خداع واضح لهم وقادرون على التنبؤ بما سيحدث في حبكة العمل المخادعة.
الثقافة الشعبية، بالإضافة إلى كونها مصدرًا للمتعة، هي أيضًا نوع من التدريب؛ لتعزيز أنماط معينة من التفكير وفهم الذات التي تضر بقدرتنا على العيش كأشخاص أحرار حقًا. في كتابه ديالكتيك التنوير (1944)، الذي شارك في تأليفه ماكس هوركهايمر، كتب أدورنو: في فيلم ما، يمكن دائمًا توقع النتيجة في البداية - من سيكافأ، ويعاقب، وينسى - وفي الموسيقى «الخفيفة»، يمكن للأذن المعدة دائمًا تخمين استمرارها بعد المطالع الأولى للأغنية الناجحة. ليس هنالك مساحة متروكة للمستهلكين لإظهار «الخيال والعفوية» - بدلا من ذلك، يتم غمرنا واكتساحنا في سلسلة متوالية من اللحظات التي يمكن التنبؤ بها، كل منها سهل الفهم بحيث يمكن «استهلاكها حتى في حالة التشتيت».
لفتني صوت إحداهن وهي تقول: سأكتب موضوعا عن مديح الرأسمالية. كان ذلك مثيرا بالنسبة لي، أن أجد من يتحدى موقفي في هذه المسألة وأن أكون أنا المشرفة على ما سيظهر عليه خطابه.
لقد توقعت أن هذا الصوت كان يستند على أدبيات ليست بسيطة -بغض النظر عن جودتها ورصانتها- تبدأ من آين راند الكاتبة الأمريكية التي بدأت أعمالها بالرواج مؤخرا في العالم العربي، مع ترجمتها وتقديمها للعربية الذي حدث في السنوات الأخيرة، والذي بدأ مع ترجمة كتابها الشهير «فضيلة الأنانية» الذي تدافع فيه عن لبنة الاتجاه الرأسمالي وارتكاساتها على الصعيد الفرداني، لكنني فوجئت أن هذا لم يكن ما تفكر فيه صاحبة الصوت، لقد قالت كلمة لم أستطع تجاوزها منذ ذلك الحين «الكل يشتمها المسكينة»، خلاصة الأمر إذن أنها أرادت أن تتميز عن الآخرين، وأن تقدم موضوعا مفارقا، ولستُ ألومها على ذلك، لكنني فكرتُ كثيرا فيما يقف وراء هذا الموقف الذي سيبدو لآخرين بسيطا وعاديا لكنه عنى لي الكثير.
اجتماعيا هذا ما يحدث باستمرار، نتبنى فكرة وندافع عنها، وسرعان ما يتحلق حول هذه الفكرة جماعة مؤمنة ومنافحة عنها، لكي يتخلق مع مرور الوقت إغراء «الاستقلالية» و«الفردانية» اللتين تتمثلان في الخروج عن هذه الجماعة، وهكذا دون توقف، حتى أصبحت أرفع أفكار الحضارة الإنسانية عُرضة لهذه الحلقة من التناوب بين التصديق والتكذيب، دون أن يكون لأهمية الفكرة أو أخلاقية الإيمان بها محطُ اهتمام، بالنسبة للإنسان الذي أصبح يستهلكُ كل شيء، وكل شيء استحال لسلعة تبلى مع مرور الوقت.
ألوم بصورة خاصة «الثقافة الشعبية» أو pop culture لقد تحولت لمانفيستو معظم وسائل الإعلام في الخليج مؤخرا، والتي تدعي أن الثقافة الرفيعة لا يتلقطها سوى جمهور متخصص، وهم قلة، حتى هذه الحجة أجدها مضحكة، فغالبا لا تستند مثل هذه الأحكام على إحصائيات حقيقية، أو قراءة فعلية لما يحدث بالضبط عند الجمهور، إنها محاولة لتسويغ العمل على الأعمال البسيطة ولن أقول التافهة، وتلقف لما يحدث في أمريكا على اعتبار أن ما يحدث هناك هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به، وبإطلالة على نتاج هذا الاتجاه، سنرى أن هناك تمريرا لأفكار كبيرة دون شرحها أو التوقف عندها، والرأسمالية أحدها، كمن يلقي بنكتة في وسط الصف فيضحك الجميع ماضون نحو نكتة أخرى أو جريمة قتل أخرى فالأمر سيان.
الأمر إذن أشبه بما يمكن أن نسميه «خطافات» وإنتاج مجموعة من اللحظات الفارقة، داخل أي شكل من الإنتاج بداية من الكتابة ووصولًا للإنتاج الفني، إذ لا تعتمد الثقافة الشعبية على العمل الموحد والمتكامل، ولا تثق بقدرتنا على البقاء يقظين ونحن نتعرض لهذا العمل، في عالم بالغ التشتيت، هذا يذكرني فورًا بتاركوفسكي في كتابه الأثير «النحت في الزمن» عندما تحدث عن صعوبة تلقي السينما النوعية فمعظم الناس لا يريدون بذل الجهد للمشاركة في فهم وتفسير ما يشاهدونه بل يرغبون في التلقي «الاستسلامي» للعمل ولن أقول «السلبي» لأنني سأخوض حينها محاولة تفسير السلبي التي قد تكون إيجابية بمعنى أنها التوتر والاشتباك، في حين أنني أقصد العكس من ذلك تماما. صار هذا هو الطبيعي، بعد أن كان مستنكرًا لكثير من الوقت، وكيف يمكن أن يكون الإنسان مذنبا فمن حقه بعد ساعات عمل طويلة جدًا ومنهكة أن يعود لبيته فيشاهد عملًا لا يتطلب بذل أي جهد في فهمه.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة لواحد من أهم من كانوا ضد الثقافة الشعبية عالم الاجتماع والموسيقي الألماني أدورنو وقد كتب عنه أوين هولت تقريرًا مهمًا ربط فيه بين ما ينتج حاليًا والذنب، فيما أسماه «ملذات مذنبة»، ويشير في ذلك لكوننا اليوم نعمل لفترة أطول بأمان وأموال أقل، والعالم من حولنا يشتعل في أتون مشاكل اجتماعية وسياسية ليس لدينا فكرة واضحة حول التعامل معها أو التخفيف من حدتها، لذلك يبدو من الأفضل قضاء وقتنا في الاسترخاء والهرب من ضغوط الحياة اليومية. وحتى إن لم يكن نتاج هذه الملذات كاملًا إلا أنها تمنحنا متعًا أشبه بومضات في حياتنا المزدحمة، وهي قادرة على منحنا في حالة الفن متعاً فورية أكثر من الفن الراقي في وقت أقل ونفقات أقل بلا شك.
أدورنو ليس معارضًا للمتعة، لكنه يشكك في «الملذات المذنبة» فأي نوع من العالم يربط بين الشعور بالذنب والمتعة؟ «أي نوع من المتعة يأتي مع الوعي، بغض النظر عن مدى قوته، بأن الأشياء يجب أن تكون أفضل؟ إنه عالم، كما يدعي أدورنو، يعطينا فقط نسخة باهتة من المتعة المتخفية في زي الشيء الحقيقي؛ التكرار متنكرا في شكل هروب؛ فترة راحة قصيرة من العمل متنكرًا في زي رفاهية».
يكتب هولت أن الثقافة الشعبية تقدم نفسها كفرصة للإفراج عن مشاعرنا ورغباتنا المكبوتة، وبالتالي قدرًا أعلى للحرية، لكن في الحقيقة، إنها تسلبنا حريتنا مرتين - من الناحية الجمالية (في الفشل في منح الحرية الجمالية في الاستمتاع بالفن) أي وبحسب أدورنو تجربة العمل الفني وتفسيره والتقاطع معه بمنحنا وقتًا لنسكنه ونجربه كتجربة واحدة. وأخلاقيًا في عرقلة الطريق إلى الحرية الاجتماعية الحقيقية.
هنالك إدراك في ثقافة المتعة «المذنبة» هذه أن هنالك ما هو أفضل مما نقرأ أو نشاهد أو نسمع لكننا مع ذلك عازمون على الاستمتاع بما يقدم لنا على أي حال. وهذا بحسب أدورنو هو جوهر الذنب والخطأ في إنتاج الثقافة الشعبية. فيشير هولت: أنا نعلم بالضبط ما نحصل عليه، وكم هو رديء، لكننا نرغب فيه مع ذلك وهذا هو انتصار الاستهلاك في صناعة الثقافة: التقليد الإجباري من قبل مستهلكي السلع الثقافية فأصبحت العبارة، الناس/الجمهور يريدون أن ينخدعوا، أكثر صدقًا مما كان يُقصد به في أي وقت مضى. فلا يسقط الناس بهذا المعنى في الخداع الذي يضمن لهم إشباعا عابرا بل أصبحوا يرغبون في خداع واضح لهم وقادرون على التنبؤ بما سيحدث في حبكة العمل المخادعة.
الثقافة الشعبية، بالإضافة إلى كونها مصدرًا للمتعة، هي أيضًا نوع من التدريب؛ لتعزيز أنماط معينة من التفكير وفهم الذات التي تضر بقدرتنا على العيش كأشخاص أحرار حقًا. في كتابه ديالكتيك التنوير (1944)، الذي شارك في تأليفه ماكس هوركهايمر، كتب أدورنو: في فيلم ما، يمكن دائمًا توقع النتيجة في البداية - من سيكافأ، ويعاقب، وينسى - وفي الموسيقى «الخفيفة»، يمكن للأذن المعدة دائمًا تخمين استمرارها بعد المطالع الأولى للأغنية الناجحة. ليس هنالك مساحة متروكة للمستهلكين لإظهار «الخيال والعفوية» - بدلا من ذلك، يتم غمرنا واكتساحنا في سلسلة متوالية من اللحظات التي يمكن التنبؤ بها، كل منها سهل الفهم بحيث يمكن «استهلاكها حتى في حالة التشتيت».