رغم أن العام الماضي شهد جهدًا كبيرًا ومفيدًا فيما يتصل بالسعي إلى تهيئة الأجواء الليبية لتحقيق توافق وطني يمكنه دفع مختلف الأطراف الليبية للسير نحو حل كثير من المشكلات التي نتجت عن سنوات التفكك وانهيار الدولة الليبية بعد رحيل القذافي عام 2011، وهي جهود قادتها ستيفاني ويليامز نائبة رئيس البعثة الأممية في ليبيا، وهي الآن المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا، وتقوم بالإشراف على البعثة أيضا بعد استقالة رئيسها كوبيتش في سبتمبر الماضي. وقد تم في هذا الإطار الاتفاق على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية الليبية في 24 ديسمبر الماضي باعتبارها من أهم الخطوات لاستعادة السلام إلى ليبيا، إلا أن حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة والتي شكلت بتوافق الأطراف الليبية من أجل التهيئة لإنجاز هذا الاستحقاق الوطني الذي ينتظره مليونان ونصف المليون ناخب ليبي، لم تتمكن من تحقيقه على الأرض، كما قام رئيس المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا "عماد السايح" بإعلان عدم القدرة على إجراء الانتخابات، بل وحل اللجان الانتخابية وإنهاء عملها قبيل موعد الانتخابات مباشرة، وبينما أشار "السايح" إلى عقبات "فنية وقضائية وأمنية" حالت دون إجراء الانتخابات، كما تردد أن الحكومة الليبية لم توفر التمويل الكافي لمفوضية الانتخابات لإتمام العملية الانتخابية من ناحية، وأن المفوضية تلقت تهديدات عسكرية لمنع إجراء الانتخابات من ناحية ثانية. وبعد انقضاء الموعد الثاني لإجراء الانتخابات الليبية وهو 24 يناير الماضي، فإن ليبيا بالفعل على المحك، فالتطورات فيها تمر بمفترق طرق خطر مفتوح على مختلف الاحتمالات، إلا إذا استطاعت القيادات الوطنية الليبية تطويق المخاطر وتأمين الخروج من هذا المأزق بالاستعانة وبالتعاون مع مختلف القوى الإقليمية والدولية المؤيدة والحريصة على استقرار ليبيا ونهوضها من كبوتها. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي:

أولا: إنه مع الوضع في الاعتبار التعقيدات العديدة على الساحة الليبية، وتقاطعات وصراعات المصالح الإقليمية والدولية والتدخلات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، فإنه من غير الممكن ولا المنصف تحميل طرف واحد بعينه، ليبي أو إقليمي أو دولي، مسؤولية فشل إجراء الانتخابات، واستمرار الوضع الراهن على ما هو عليه، بكل مخاطر ذلك وسلبياته على حاضر ومستقبل ليبيا. ومن هنا تحديدا تظهر مخاطر الاستقطاب الحاد بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة وبين مجلس النواب الليبي في طبرق برئاسة عقيلة صالح. فرئيس مجلس النواب وعدد من أعضاء المجلس يريدون إنهاء حكومة الدبيبة وتشكيل حكومة جديدة، وذلك من خلال التأكيد على انتهاء ولاية الحكومة يوم 24 ديسمبر الماضي، وهو يوم إجراء الانتخابات التي لم تتم، وهو ما يؤكد عليه عقيلة صالح، أو من خلال سحب الثقة من الحكومة وإثارة الشكوك حول حجم ومجالات الإنفاق التي قامت بها حكومة الدبيبة العام الماضي "أكثر من 83 مليار دينار ليبي" غير أن موقف مجلس النواب الليبي ورئيسه لم يدفع الدبيبة وحكومته إلى ترك السلطة ولا التفكير في تسليمها، ليس فقط لصعوبة ذلك وخطورته في ظل الأوضاع الراهنة في ليبيا، ولكن أيضا انتظارا لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع والمشاورات بين الأطراف الليبية وحسابات الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة وما قد تتطلبه مصالحها في هذا الخصوص.

ثانيا: بمنطق البحث عن صاحب المصلحة، فإنه يمكن القول إن الأطراف التي عرقلت إجراء الانتخابات، ومن ثم تأجيل ما يمكن أن يعقبها من إجراءات وخطوات لاستعادة استقرار ليبيا، على الأقل تدريجيا، هي تلك التي تستفيد من الوضع الراهن واستمراره، وفي مقدمة تلك الأطراف الميليشيات الليبية في طرابلس وفي مناطق ليبيا الأخرى، ليس فقط لأن نجاح الانتخابات وتولي سلطة تنفيذية وتشريعية ورئاسة منتخبة سيكون إيذانا ببدء العد التنازلي لإنهاء الميليشيات وخروج القوات الأجنبية والمرتزقة، ولكن أيضا لأنه لم تتضح بعد سبل ولا كيفية استيعاب الميليشيات ضمن القوة المسلحة الوطنية الليبية التي من المقرر أن تندمج فيها كل التشكيلات العسكرية الليبية شرقا وغربا وجنوبا، وأن تكون الحكومة الليبية وحدها هي التي تحتكر استخدام القوة على الأراضي الليبية. والمؤكد أن هناك أطرافا ليبية داخلية وإقليمية ودولية لا تتعجل ذلك، وتريد الاطمئنان بشكل أو بآخر على مستقبل مصالحها وحجم دورها، ولعل ما يؤكد ذلك أنه برغم الدعوات المتكررة لخروج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا وحل الميليشيات، فإنه لم يتحقق شيء على الأرض، برغم اتصالات عديدة مع الدول المعنية، بل ودعوات من مجلس الأمن ومن قوى دولية عدة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. من جانب آخر، فإنه ليس مصادفة أن تظهر على السطح في ليبيا دعوات لاختيار شخصيات بديلة لرئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، ومن هذه الشخصيات شخصيات تتبعها ميليشيات في طرابلس، وهو ما يكشف طبيعة ما يدور وما يمكن أن تسير فيه التطورات بشكل أو بآخر إذا تم ترجيح مثل هذه الخيارات. وإذا كان اختيار رئيس الحكومة ورئيس المجلس الرئاسي في ليبيا والذي أشرفت عليه ستيفاني ويليامز قد أتى بشخصيتين مستقلتين وغير مرتبطتين بأي ميليشيات وبتوافق القيادات الليبية، وهو ما امتدحه الكثيرون في حينه، فإن محاولة الدفع بشخصيات لها صلات بما شهدته ليبيا من مواجهات مسلحة ومن تنامي الميليشيات وزيادة دورها يمكن أن يعيد خلط الأوراق مرة أخرى. على أنه من الأهمية بمكان التأكيد على حقيقة أن التأثير والنفوذ الإقليمي والدولي في ليبيا كبير وله أدواته المباشرة على الأرض، بشكل أو بآخر، ومن ثم فإن معظم التحركات من جانب القوى الداخلية الليبية تكون محسوبة أو لها خطوطها مع أطراف وقوى إقليمية ودولية بشكل واضح أو من تحت السطح. وهذا يقودنا مرة أخرى إلى السؤال حول مواقف القوى الإقليمية والدولية المعنية بالتطورات في ليبيا ومستقبلها. ومع الوضع في الاعتبار أن الخلافات الروسية الأمريكية بشأن أوكرانيا لا تزال بعيدة عن الوصول إلى نقطة الالتقاء بين واشنطن وموسكو، وهو ما يمتد إلى الوضع في ليبيا، فقد فشل مجلس الأمن في الاتفاق على تمديد عمل البعثة الأممية في ليبيا قبل أيام بسبب الخلافات بين واشنطن وموسكو، كما أن الاتصالات التركية مع القاهرة من ناحية ومع أطراف عربية أخرى من ناحية ثانية لم تحقق الكثير من التفاهم المتبادل، فإن القمة المصرية الجزائرية التي عقدت بالقاهرة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي وعبد المجيد تبون في 24 يناير الماضي، وتأكيد البلدين على أهمية وضرورة انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا ووقف التدخلات الأجنبية في شؤونها وإجراء الانتخابات يعزز الأمل في أن يكون التوافق المصري الجزائري هذا بمثابة رافعة قوية للدفع نحو التقاء الأطراف الليبية الداخلية وتوافقها أو على الأقل التقريب بينها، خاصة إذا عملت الدولتان معا لتأمين دعم دولي لتحركهما المشترك داخل ليبيا، وإذا تم تعزيز ذلك بما للدولتين من علاقات قوية ومؤثرة مع الأطراف الليبية ومع القوى الإقليمية والدولية أيضا.

جدير بالذكر أن اتخاذ خطوات عملية ملموسة ومؤثرة فيما يتصل بانسحاب الميليشيات والمرتزقة ودفع الأطراف الليبية نحو مزيد من التقارب يحتاج بالضرورة إلى ضغوط دولية حقيقية تتجاوز بيانات مجلس الأمن والبيانات المشتركة وتكون مصحوبة بإظهار النية على اتخاذ مزيد من الإجراءات في حالة التقاعس وعدم الامتثال، غير أن ذلك يتطلب بدوره أن تتيقن القوى الدولية من أن الوضع الجديد سيحافظ على مصالحها على الأقل، وحتى يتحقق ذلك بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية، فإن ليبيا قد تشهد للأسف تجدد المواجهات المسلحة ومحاولات بعض الأطراف تأكيد نفوذها أو تأثيرها على الأرض بشكل أو بآخر خاصة إذا استمرت الخلافات الحادة بين واشنطن وموسكو، وحالة الاستقطاب الخطرة بين مجلس النواب وبين حكومة الدبيبة ومؤسسات ليبية أخرى. ولو حدث ذلك -أي عودة المواجهات- أيا كانت أسباب ودوافع المتورطين فيه، فإن ليبيا ستخسر الكثير، بل قد تعود إلى المربع الأول، وهذا تحديدا هو من أهم العوامل التي تعجل بضرورة تحديد موعد للانتخابات والتحضير الجيد لها. وأن يتم الالتزام به برغم أن عسكرة الساحة الليبية وانتشار الميليشيات والمرتزقة يمكن أن ينال من مصداقية أي انتخابات تتم في ظله.

• د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري