مايلز مِكورمِك - الفاينانشال تايمز - ترجمة - قاسم مكي
عادت حركة السيارات في الطرق السريعةِ والتي كانت هادئة قبل شهور مضت. وتفتح المتاجر أبوابها في مباني كانت مغلقة في السابق. والمطاعم التي كانت خالية تعجُّ مرة أخرى بالزبائن. وفي وسط مدينة مدلاند بولاية تكساس، مركز انتاج النفط الأمريكي، «تتناوب» أضواء لوحة كهربائية بين صورة «عَلَم أمريكي» وعبارة «إنه ليوم عظيم أن تحفر بئرَ نفط».
محرك النفط الأمريكي
فبعد ما يقرب من سنتين من إطلاق الجائحة أحد أسوأ انهيارات أسعار النفط على الإطلاق وبعد 12 شهرا من تنصيب رئيس أمريكي يتبنى التحول عن الوقود الأحفوري هاهو قلب صناعة النفط الأمريكي يضخ أكثر من أي وقت في السابق. وهناك تفاؤل جديد بمستقبل هذه الصناعة على الرغم من تأثر منطقة النفط الصخري بتقلبات أسعار النفط.
تقع مدلاند وجارتها أوديسا في مركز أكبر حقل نفط منتج في العالم. فالحوض البيرمي تشكيلة جيوليوجية مترامية الأطراف من الصخور النفطية التي تمتد عبر غرب تكساس وشرقي نيومكسيكو وتغطي مساحة أكبر من بريطانيا.
الحوض البيرمي هو المحرك لإنتاج النفط الأمريكي وثورة النفط الصخري التي حوَّلَت الولايات المتحدة إلى أكبر منتج في العالم. فهو ينتج حوالي برميلين من بين كل خمسة برميل تضخ في الولايات المتحدة. وفي ديسمبر حطم الرقم القياسي لإنتاجه قبل الجائحة. وسينتج في فبراير أكثر من 5 ملايين برميل في اليوم لأول مرة.
وسيكون للتفاؤل الذي يسود الآن، سواء بدا تفكيرا رغائبيا أو مرتكزا على شيء أكثر صلابة، تأثيرٌ قوي على 300 ألف نسمة هم مجموع سكان ميدلاند وأوديسا والذين يعتمدون كلهم تقريبا على صناعة النفط على نحو أو آخر حتى إذا لم يكونوا يعملون فيها بشكل مباشر.
كما ستكون لهذا التفاؤل آثاره أيضا على مساعي الرئيس للتحول بسرعة عن الوقود الأحفوري. فهي ستعزز صعوبته.
تقول رَينَي إيرلز، رئيسة غرفة أوديسا التجارية «كلنا نشير إلى أنفسنا بوصفنا عاملين في صناعة النفط. سواء كان أحدنا يعمل في مطعم وجبات سريعة أو في الغرفة التجارية أو يبيع سيارات (في أوديسا). نحن كلنا في صناعة النفط لأننا كلنا نتأثر بها».
تقليديا، يقيم أصحاب الياقات البيضاء (موظفي) صناعة النفط في الحوض البيرمي في ميدلاند فيما يميل عمال خدمات حقول النفط ( ذوو الياقات الزرقاء) إلى السكنى في أوديسا التي تبعد عنها بحوالي 20 ميلا.
عندما انهارت أسعار النفط في أبريل 2020 ارتفعت البطالة بشدة في كل من ميدلاند وأوديسا حيث بلغ معدلها 16%. أوقفت شركات النفط الحفاراتِ عن العمل وسرَّحت آلاف العمال. وتصاعدت وتيرة الإفلاسات. وهبط معدل الحضور في المدارس وتناقصت أعداد السكان مع ترك الناس المدينتين بحثا عن عمل. وتشكلت الصفوف خارج بنوك الطعام.
وفي أقل من سنتين اختلفت الصورة جدا. يقول بل فاين برايس، المدير بشركة الأبحاث اينفيراس«الحوض البيرمي أكبر قطعة متحركة في نظام إمداد النفط العالمي. ونحن نراه عائدا في صخب هذا العام».
قدم على الكابح
في مكتبه بضواحي ميدلاند، يبدو بروس جونسون متفائلا. في أثناء الجائحة اضطر إلى تسريح حوالي ثلثي القوة العاملة ( 30 فردا) في شركة خدمات حقول النفط التي يمتلكها. أما الآن فقد تعاقد معهم مجددا لشغل معظم هذه الوظائف. ولديه خطط نمو طموحة للشركة.
يقول «تلك كانت رحلة مضنية. لكن فقط في الأشهر الستة الأخيرة ضاعفنا حجمنا. ونحن نتطلع إلى مضاعفته مرة أخرى خلال الستة أشهر القادمة. لأن العمل موجود».
من أقل من الصفر إلى 85 دولارا للبرميل
الحوض البيرمي ليس غريبا على انهيارات الأسعار. لكن آخر انهيار في أبريل 2020 كان غير مسبوق من حيث حجمه وسرعته. فقد قلصت الإغلاقات التي تسببت فيها الجائحة من حجم الطلب. تزامن ذلك مع إغراق حرب الأسعار بين السعودية وروسيا السوق بالإمدادات. وهبطت أسعار النفط الأمريكي إلى أقل من الصفر لأول مرة.
بعد ذلك ارتفعت الأسعار بانتظام مع خفض أوبك للإنتاج وتخفيف قيود الإغلاقات. وعادت السيارات الى الطرق والطائرات إلى الأجواء واستؤنفت الصناعات الكبيرة التي تستهلك كميات كبيرة من النفط. وتجاوز سعر نفط غرب تكساس المتوسط والقياسي في الولايات المتحدة 85 دولارا للبرميل. وهذا أعلى مستوى له في 7 سنوات وأكثر مما يكفي لعودة شركات الإنتاج إلى ضخ النفط وتحقيق أرباح وفيرة.
لكن التعافي اتسم بالحذر. ربما تجاوز الإنتاج مستويات ما قبل الجائحة. غير أن حفر الآبار الجديدة لا يزال أقل بقدر كبير مما كان في الماضي. والتوظيف لم يستعد بَعد حجمَه السابق.
ويُضَخ الكثير من الإنتاج ليس من الآبار الجديدة بل من تلك التي حفرت ولم يتم إكمالها قبل الإنهيار لكنها تعمل الآن.
يقول راي بيريمان وهو خبير اقتصاد محلي «ما يبشر أن النمو في السنوات القليلة القادمة سيكون في الغالب سريعا مع استئناف نشاط الحفر».
لوري ميريت بلونج عضو بمجلس مدينة ميدلاند وكانت تدير شركة استشارات نفطية قبل الجائحة. لكن عندما تفشت الجائحة قررت التخلى عن عملائها لشركة منافسة والتحول إلى الإنتاج. تقول «في أوضاع انخفاض أسعار النفط أول من يقل دخله هو المستشار. الإضطراب الذي سببه لنا ذلك دفعنا إلى القول بأننا نرغب في شىء يمكن بناؤه على نحوٍ أكثر استقرارا».
لكن أنشطة النفط لم تزدهر بعد. تقول لوري «يمكنني القول أن مدينة مدلاند تضع قدما على دواسة الوقود والأخرى على الكابح. هنالك تردد في التوسع في الإنتاج والإسراع في الحفر بأكثر مما يجب. لذلك نشهد هذا الكبح للحماس الذي عادة ما نراه محتدما عندما ترتفع أسعار النفط إلى أكثر من 80 دولارا للبرميل».
معظم هذا التردد يعود إلى نظام جديد للإنضباط الرأسمالي يجري فرضه من قبل وول ستريت (حي المال والأعمال الأمريكي) على الشركات العامة الكبيرة. فالمستثمرون الذين ملُّوا من خسارة انفاق الأموال على منطقة النفط الصخرى تخلوا عنها بالعشرات في السنوات الأخيرة مما قاد إلى تراجع قطاع الطاقة من كونه أحد أكبر القطاعات الى أصغرها في مؤشر ستاندارد آند بورز 500.
ويطالب المستثمرون الذين لم يتخلوا عن القطاع بعائدات. وما عادوا يتسامحون بإسراف الماضي عندما كانت كل الأموال تذهب إلى الحفر.
نتيجة لذلك يلزم أن يكون نمو الإنتاج تدريجيا. وأية عودة للحفارات إلى حقل النفط ستحتاج إلى وقت حتى مع ترجيح بعض المحللين بلوغ أسعار النفط 100 دولار للبرميل في العام الحالي.
يقول مسؤول كبير في إحدى الشركات النفطية الكبيرة في الحوض البيرمي «المستثمرون تغيروا. في السابق كانوا يطالبون بإلانفاق على النمو مهما كان الثمن. لكن الآن لديهم نموذج جديد وهم يحبونه. من الواضح أنهم يقفون خلفه لأنه مهم بالنسبة لهم».
هل ستتذكرين ذلك يا تكساس؟
في أثناء المناظرة الأخيرة لسباق الإنتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة عبر بايدن بوضوح عن رغبته في قيادة «التحول» بعيدا عن النفط.
«ماذا يقول؟» رد خصمه دونالد ترامب مستنكرا وأضاف «هل (يعني هذا أنه) سيدمر صناعة النفط الأمريكي؟»
ثم مضى قائلا «هل ستتذكرين هذا (ما قاله بايدن عند التصويت)، يا تكساس؟»
بعد عام من رئاسة بايدن لاتزال صناعة النفط في تكساس بمنجاة، وإلى حد بعيد، من الدمار. بل يتزايد الإنتاج في الحوض البيرمي على الرغم من التحول «السياسي» الملحوظ بعيدا عن الوقود الأحفوري.
مؤيدو الرئيس بايدن قليلون في مدلاند وأوديسا اللتين تقعا في المنطقة النيابية الحادية عشرة بتكساس. وهي إحدى الدوائر الانتخابية الأكثر محافظة في الولايات المتحدة. وكان حوالي 80% تقريبا من الناخبين في هذه الدائرة أيدوا محاولة ترامب الفاشلة للبقاء في البيت الأبيض في انتخابات 2020.
أدار بايدن حملته الانتخابية على أساس الأجندة المناخية الأكثر طموحا. فقد اقترح انتقالا سريعا من الوقود الأحفوري. وهو انتقال من شأنه أن تترتب عنه نتائج كبيرة على الصناعة النفطية من أجهزة الحفر إلى مضخات البنزين.
لكن معظم جهوده لتحجيم صناعة النفط لم تبلغ هدفها حتى الآن. فقد أبطلت المحكمة تجميدا للرخص الجديدة بالتنقيب عن النفط في الأراضي العمومية. وجرى تعديل جوهري لتحرك تشريعي يهدف إلى إنهاء الدعم المالي لصناعة النفط في الكونجرس. وأيضا كان ذلك مصير برنامج من شأنه دفع شركات الكهرباء لاستخدام المزيد من موارد الطاقة الخضراء.
تقول آمي مايرز جافي، المسؤولة عن معمل سياسة المناخ بجامعة تافتس في ماساشوسيتس، أنه لم يحدث أي تحول إلى موارد الطاقة المتجددة. وتضيف «أتمنى لو كان ذلك كذلك. لكننا لم نبدأ هذا التحول بعد».
بدلا عن ذلك سيسجل الإنتاج وخصوصا في الحوض البيرمي مستويات قياسية في عام 2023، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. وشركات النفط الصخري التي أوشكت على الإفلاس قبل 18 شهرا (حيث انهارت العشرات منها) لم يحدث لها أبدا أن حققت أرباحا أوفر مما تحققه. وهي الآن تعيد الأموال (توزع العائدات) إلى حاملي أسهمها بمعدل غير مسبوق.
ومع مسارعة العالم لإحتواء الإرتفاع في درجات الحرارة بسبب انبعاثات غاز الإحتباس الحراري سيُعتبر إحياء الحوض البيرمي خطوة في الإتجاه الخاطىء. فانبعاثات ثاني اكسيد الكربون الناجمة من حرق الوقود الأحفوري المساهم الرئيسي في التغير المناخي.
لكن بالنسبة للعديدين في غرب تكساس والذين يشعرون بشيطنتهم من قبل بعض الأحاديث التي تطلق عن التغير المناخي في واشنطن، كان التحول السريع والشديد التأثير على النفط دائما غير عملي. وهم يقولون أن صناعتهم النفطية هي الأساس التي بُنيَت عليه أمريكا الحديثة. ويحاججون بأنها وجدت لتبقى.
مستويات انتاج قياسية
تقول إيرلز، رئيسة غرفة أوديسا التجارية،«النفط يدخل في معظم المنتجات ولا يلزم فقط أن يقتصر على البنزين الذي تضخه في سيارتك. أعني أن كل منتج في هذه الحجرة (التي نحن فيها الآن) إما مصنوع من النفط أو أحد منتجاته الثانوية. لذلك لايمكن القول أن في مقدورنا وقف انتاج النفط اليوم أو بعد 12 شهرا من الآن أو بعد 18 شهرا».
قد يثير احتمال أن يبدأ طالب مساره المهني في قطاع النفط الإستغراب في بعض أجزاء أمريكا. لكن ليس في الحوض البيرمي. ففي جامعة «تكساس بيرمِيان بيزِن» والتي بها أكبر عدد من الطلاب في المنطقة زادت كثيرا أعداد الملتحقين بالدورات التي تركز على الطاقة بعد أن شهدت تراجعا أثناء الجائحة. وتعمل الجامعة على إضافة المزيد من البرامج الدراسية المتعلقة بالنفط.
تقول ساندرا وُدْلي رئيسة الجامعة «لن تجد أكبر مشجع لصناعة الطاقة من هذه الجامعة ومن كلية الهندسة بها. لن ينتهي في أي وقت قريب اعتمادنا على النفط والغاز ولا حاجتنا إلى أن نكون قطاعا (اقتصاديا) قويا». لكنها تضيف أن التنويع في مجالات مثل التصنيع المتقدم وأمن الإنترنت وعلوم الصحة وأشكال الطاقة الأخرى سيجعل المنطقة أقل ارتهانا لتقلبات سعر النفط.
تقول «نحن نتوقع أن تكون هنالك دورات اقتصادية. وهدف الجامعة هو التقليل من هذه الدورات بالمساعدة على تنويع الإقتصاد وتوافر خيارات أخرى مكمِّلة لصناعة النفط والغاز».
هل ستُنهِي أوبك «الحفلَ» البيرمي؟
من المتوقع أن تزداد أهمية الحوض البيرمي. وفيما تصارع الأحواض النفطية الأخرى للحفاظ على مستوى انتاجها أو الحيلولة دون تدهوره يُرجَّح أن يكون الحوض البيرمي حقلَ النفط الأمريكي الوحيد الذي يتزايد انتاجه.
ويعتقد على نطاق واسع أن أهمية حقول النفط الصخري التي تحمل أسماء غرائبية في مناطق أخرى بالولايات المتحدة تتلاشى، بما في ذلك حقل باكين في داكوتا الشمالية وحوض دي جيه في كولورادو وسْكُوب ستاك في أوكلاهوما وباودر ريفر في مونتانا. لكن في الحوض البيرمي المستقبل مشرق.
يقول سكوت شيفيلد، الرئيس التنفيذي لبايونير ناتشورال ريسورسيز وهي أكبر شركة خدمات نفطية في الحوض البيرمي، أن هذه الأحواض النفطية ربما يمكنها المحافظة على معدلات الإنتاج عند ارتفاع الأسعار. لكن الإنتاج في الحوض البيرمي سيتزايد ما لم يكن هنالك انهيار آخر. يقول «صار من المقبول الآن أن الإنتاج البيرمي هو الذي يقود في جانب النفط».
البيانات تثبت ذلك. فانتاج النفط أرخص في الحوض البيرمي من أية منطقة أخرى في الولايات المتحدة بحيث يمكن لشركة نفط ما تحقيق أرباح من حفر بئر جديدة في منطقة مدلاند عندما يكون سعر النفط 46 دولارا للبرميل. وهو ما يساوي نصف الأسعار الحالية تقريبا.
يعتقد مات ماثيس، رئيس العمليات بشركة بايونير، أعتقد أن هنالك مجال لإستمرار نمو الإنتاج في الحوض البيرمي لفترة طويلة قادمة. فهو يتمتع بوضع فريد بفضل «البنية التحتية للنفط والصناعات المساندة» .
شكلت بعض أكبر شركات النفط في المنطقة «الشراكة الإستراتيجية البيرمية» والتي تهدف إلى جعل المنطقة مقصدا جذابا. فالمدارس ودور الرعاية الصحية والبنية التحتية في المنطقة متخلفة، كَمَّا وكيفا، عن معظم مناطق الولاية والبلاد. وهذا ما يحول دون استجابة مدراء الشركات الذين يطلب منهم الإنتقال إليها من المناطق الأخرى.
تقول تْرَيسي بينتلي، رئيسة الشراكة الإستراتيجية البيرمية، الشركات تستثمر في الحوض البيرمي وكأنها ستظل هناك لخمسين عاما قادمة.
وتعتقد أن الإنتاج في الحوض البيرمي لديه مستقبل عظيم وعظيم جدا. فالعالم والولايات المتحدة «سيحتاجان إليه لخمسين أو ستين أو سبعين عاما».
مهما كانت الميزات التي يتمتع بها الحوض محليا سيتأثر منتجوه بقرارات أسعار النفط التي تتخذ في مكان آخر. وشركات من شاكلة بايونير ستظل تحت رحمة أوبك. فالسعوديون وحلفاؤهم النفطيون يمكنهم بسهولة إغراق سوق النفط كما حدث في السابق. وهذا سيخفض الأسعار ويلحق ضررا بالغا بالمنطقة.
يقول مسؤول تنفيذي كبير في ميدلاند «المستثمرون يعرفون أن أوبك لديها مطرقة كبيرة. وقد سبق لها أن ضربتنا بها». ذلك يجعل المستقبل أقل من آمن.
يقول فَريْن - برايس، المدير بشركة أبحاث الطاقة انفيراس،«شاهدنا هذا الفيلْم من قبل. منتجو الحوض البيرمي يلزمهم القبول بالسعر السائد في السوق. أما السعودية فتملك طاقة إنتاج احتياطية ولديها الاستعداد لاستخدامها. ذلك يمكن أن يُنهى الحفلَ البيرمي».
عادت حركة السيارات في الطرق السريعةِ والتي كانت هادئة قبل شهور مضت. وتفتح المتاجر أبوابها في مباني كانت مغلقة في السابق. والمطاعم التي كانت خالية تعجُّ مرة أخرى بالزبائن. وفي وسط مدينة مدلاند بولاية تكساس، مركز انتاج النفط الأمريكي، «تتناوب» أضواء لوحة كهربائية بين صورة «عَلَم أمريكي» وعبارة «إنه ليوم عظيم أن تحفر بئرَ نفط».
محرك النفط الأمريكي
فبعد ما يقرب من سنتين من إطلاق الجائحة أحد أسوأ انهيارات أسعار النفط على الإطلاق وبعد 12 شهرا من تنصيب رئيس أمريكي يتبنى التحول عن الوقود الأحفوري هاهو قلب صناعة النفط الأمريكي يضخ أكثر من أي وقت في السابق. وهناك تفاؤل جديد بمستقبل هذه الصناعة على الرغم من تأثر منطقة النفط الصخري بتقلبات أسعار النفط.
تقع مدلاند وجارتها أوديسا في مركز أكبر حقل نفط منتج في العالم. فالحوض البيرمي تشكيلة جيوليوجية مترامية الأطراف من الصخور النفطية التي تمتد عبر غرب تكساس وشرقي نيومكسيكو وتغطي مساحة أكبر من بريطانيا.
الحوض البيرمي هو المحرك لإنتاج النفط الأمريكي وثورة النفط الصخري التي حوَّلَت الولايات المتحدة إلى أكبر منتج في العالم. فهو ينتج حوالي برميلين من بين كل خمسة برميل تضخ في الولايات المتحدة. وفي ديسمبر حطم الرقم القياسي لإنتاجه قبل الجائحة. وسينتج في فبراير أكثر من 5 ملايين برميل في اليوم لأول مرة.
وسيكون للتفاؤل الذي يسود الآن، سواء بدا تفكيرا رغائبيا أو مرتكزا على شيء أكثر صلابة، تأثيرٌ قوي على 300 ألف نسمة هم مجموع سكان ميدلاند وأوديسا والذين يعتمدون كلهم تقريبا على صناعة النفط على نحو أو آخر حتى إذا لم يكونوا يعملون فيها بشكل مباشر.
كما ستكون لهذا التفاؤل آثاره أيضا على مساعي الرئيس للتحول بسرعة عن الوقود الأحفوري. فهي ستعزز صعوبته.
تقول رَينَي إيرلز، رئيسة غرفة أوديسا التجارية «كلنا نشير إلى أنفسنا بوصفنا عاملين في صناعة النفط. سواء كان أحدنا يعمل في مطعم وجبات سريعة أو في الغرفة التجارية أو يبيع سيارات (في أوديسا). نحن كلنا في صناعة النفط لأننا كلنا نتأثر بها».
تقليديا، يقيم أصحاب الياقات البيضاء (موظفي) صناعة النفط في الحوض البيرمي في ميدلاند فيما يميل عمال خدمات حقول النفط ( ذوو الياقات الزرقاء) إلى السكنى في أوديسا التي تبعد عنها بحوالي 20 ميلا.
عندما انهارت أسعار النفط في أبريل 2020 ارتفعت البطالة بشدة في كل من ميدلاند وأوديسا حيث بلغ معدلها 16%. أوقفت شركات النفط الحفاراتِ عن العمل وسرَّحت آلاف العمال. وتصاعدت وتيرة الإفلاسات. وهبط معدل الحضور في المدارس وتناقصت أعداد السكان مع ترك الناس المدينتين بحثا عن عمل. وتشكلت الصفوف خارج بنوك الطعام.
وفي أقل من سنتين اختلفت الصورة جدا. يقول بل فاين برايس، المدير بشركة الأبحاث اينفيراس«الحوض البيرمي أكبر قطعة متحركة في نظام إمداد النفط العالمي. ونحن نراه عائدا في صخب هذا العام».
قدم على الكابح
في مكتبه بضواحي ميدلاند، يبدو بروس جونسون متفائلا. في أثناء الجائحة اضطر إلى تسريح حوالي ثلثي القوة العاملة ( 30 فردا) في شركة خدمات حقول النفط التي يمتلكها. أما الآن فقد تعاقد معهم مجددا لشغل معظم هذه الوظائف. ولديه خطط نمو طموحة للشركة.
يقول «تلك كانت رحلة مضنية. لكن فقط في الأشهر الستة الأخيرة ضاعفنا حجمنا. ونحن نتطلع إلى مضاعفته مرة أخرى خلال الستة أشهر القادمة. لأن العمل موجود».
من أقل من الصفر إلى 85 دولارا للبرميل
الحوض البيرمي ليس غريبا على انهيارات الأسعار. لكن آخر انهيار في أبريل 2020 كان غير مسبوق من حيث حجمه وسرعته. فقد قلصت الإغلاقات التي تسببت فيها الجائحة من حجم الطلب. تزامن ذلك مع إغراق حرب الأسعار بين السعودية وروسيا السوق بالإمدادات. وهبطت أسعار النفط الأمريكي إلى أقل من الصفر لأول مرة.
بعد ذلك ارتفعت الأسعار بانتظام مع خفض أوبك للإنتاج وتخفيف قيود الإغلاقات. وعادت السيارات الى الطرق والطائرات إلى الأجواء واستؤنفت الصناعات الكبيرة التي تستهلك كميات كبيرة من النفط. وتجاوز سعر نفط غرب تكساس المتوسط والقياسي في الولايات المتحدة 85 دولارا للبرميل. وهذا أعلى مستوى له في 7 سنوات وأكثر مما يكفي لعودة شركات الإنتاج إلى ضخ النفط وتحقيق أرباح وفيرة.
لكن التعافي اتسم بالحذر. ربما تجاوز الإنتاج مستويات ما قبل الجائحة. غير أن حفر الآبار الجديدة لا يزال أقل بقدر كبير مما كان في الماضي. والتوظيف لم يستعد بَعد حجمَه السابق.
ويُضَخ الكثير من الإنتاج ليس من الآبار الجديدة بل من تلك التي حفرت ولم يتم إكمالها قبل الإنهيار لكنها تعمل الآن.
يقول راي بيريمان وهو خبير اقتصاد محلي «ما يبشر أن النمو في السنوات القليلة القادمة سيكون في الغالب سريعا مع استئناف نشاط الحفر».
لوري ميريت بلونج عضو بمجلس مدينة ميدلاند وكانت تدير شركة استشارات نفطية قبل الجائحة. لكن عندما تفشت الجائحة قررت التخلى عن عملائها لشركة منافسة والتحول إلى الإنتاج. تقول «في أوضاع انخفاض أسعار النفط أول من يقل دخله هو المستشار. الإضطراب الذي سببه لنا ذلك دفعنا إلى القول بأننا نرغب في شىء يمكن بناؤه على نحوٍ أكثر استقرارا».
لكن أنشطة النفط لم تزدهر بعد. تقول لوري «يمكنني القول أن مدينة مدلاند تضع قدما على دواسة الوقود والأخرى على الكابح. هنالك تردد في التوسع في الإنتاج والإسراع في الحفر بأكثر مما يجب. لذلك نشهد هذا الكبح للحماس الذي عادة ما نراه محتدما عندما ترتفع أسعار النفط إلى أكثر من 80 دولارا للبرميل».
معظم هذا التردد يعود إلى نظام جديد للإنضباط الرأسمالي يجري فرضه من قبل وول ستريت (حي المال والأعمال الأمريكي) على الشركات العامة الكبيرة. فالمستثمرون الذين ملُّوا من خسارة انفاق الأموال على منطقة النفط الصخرى تخلوا عنها بالعشرات في السنوات الأخيرة مما قاد إلى تراجع قطاع الطاقة من كونه أحد أكبر القطاعات الى أصغرها في مؤشر ستاندارد آند بورز 500.
ويطالب المستثمرون الذين لم يتخلوا عن القطاع بعائدات. وما عادوا يتسامحون بإسراف الماضي عندما كانت كل الأموال تذهب إلى الحفر.
نتيجة لذلك يلزم أن يكون نمو الإنتاج تدريجيا. وأية عودة للحفارات إلى حقل النفط ستحتاج إلى وقت حتى مع ترجيح بعض المحللين بلوغ أسعار النفط 100 دولار للبرميل في العام الحالي.
يقول مسؤول كبير في إحدى الشركات النفطية الكبيرة في الحوض البيرمي «المستثمرون تغيروا. في السابق كانوا يطالبون بإلانفاق على النمو مهما كان الثمن. لكن الآن لديهم نموذج جديد وهم يحبونه. من الواضح أنهم يقفون خلفه لأنه مهم بالنسبة لهم».
هل ستتذكرين ذلك يا تكساس؟
في أثناء المناظرة الأخيرة لسباق الإنتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة عبر بايدن بوضوح عن رغبته في قيادة «التحول» بعيدا عن النفط.
«ماذا يقول؟» رد خصمه دونالد ترامب مستنكرا وأضاف «هل (يعني هذا أنه) سيدمر صناعة النفط الأمريكي؟»
ثم مضى قائلا «هل ستتذكرين هذا (ما قاله بايدن عند التصويت)، يا تكساس؟»
بعد عام من رئاسة بايدن لاتزال صناعة النفط في تكساس بمنجاة، وإلى حد بعيد، من الدمار. بل يتزايد الإنتاج في الحوض البيرمي على الرغم من التحول «السياسي» الملحوظ بعيدا عن الوقود الأحفوري.
مؤيدو الرئيس بايدن قليلون في مدلاند وأوديسا اللتين تقعا في المنطقة النيابية الحادية عشرة بتكساس. وهي إحدى الدوائر الانتخابية الأكثر محافظة في الولايات المتحدة. وكان حوالي 80% تقريبا من الناخبين في هذه الدائرة أيدوا محاولة ترامب الفاشلة للبقاء في البيت الأبيض في انتخابات 2020.
أدار بايدن حملته الانتخابية على أساس الأجندة المناخية الأكثر طموحا. فقد اقترح انتقالا سريعا من الوقود الأحفوري. وهو انتقال من شأنه أن تترتب عنه نتائج كبيرة على الصناعة النفطية من أجهزة الحفر إلى مضخات البنزين.
لكن معظم جهوده لتحجيم صناعة النفط لم تبلغ هدفها حتى الآن. فقد أبطلت المحكمة تجميدا للرخص الجديدة بالتنقيب عن النفط في الأراضي العمومية. وجرى تعديل جوهري لتحرك تشريعي يهدف إلى إنهاء الدعم المالي لصناعة النفط في الكونجرس. وأيضا كان ذلك مصير برنامج من شأنه دفع شركات الكهرباء لاستخدام المزيد من موارد الطاقة الخضراء.
تقول آمي مايرز جافي، المسؤولة عن معمل سياسة المناخ بجامعة تافتس في ماساشوسيتس، أنه لم يحدث أي تحول إلى موارد الطاقة المتجددة. وتضيف «أتمنى لو كان ذلك كذلك. لكننا لم نبدأ هذا التحول بعد».
بدلا عن ذلك سيسجل الإنتاج وخصوصا في الحوض البيرمي مستويات قياسية في عام 2023، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. وشركات النفط الصخري التي أوشكت على الإفلاس قبل 18 شهرا (حيث انهارت العشرات منها) لم يحدث لها أبدا أن حققت أرباحا أوفر مما تحققه. وهي الآن تعيد الأموال (توزع العائدات) إلى حاملي أسهمها بمعدل غير مسبوق.
ومع مسارعة العالم لإحتواء الإرتفاع في درجات الحرارة بسبب انبعاثات غاز الإحتباس الحراري سيُعتبر إحياء الحوض البيرمي خطوة في الإتجاه الخاطىء. فانبعاثات ثاني اكسيد الكربون الناجمة من حرق الوقود الأحفوري المساهم الرئيسي في التغير المناخي.
لكن بالنسبة للعديدين في غرب تكساس والذين يشعرون بشيطنتهم من قبل بعض الأحاديث التي تطلق عن التغير المناخي في واشنطن، كان التحول السريع والشديد التأثير على النفط دائما غير عملي. وهم يقولون أن صناعتهم النفطية هي الأساس التي بُنيَت عليه أمريكا الحديثة. ويحاججون بأنها وجدت لتبقى.
مستويات انتاج قياسية
تقول إيرلز، رئيسة غرفة أوديسا التجارية،«النفط يدخل في معظم المنتجات ولا يلزم فقط أن يقتصر على البنزين الذي تضخه في سيارتك. أعني أن كل منتج في هذه الحجرة (التي نحن فيها الآن) إما مصنوع من النفط أو أحد منتجاته الثانوية. لذلك لايمكن القول أن في مقدورنا وقف انتاج النفط اليوم أو بعد 12 شهرا من الآن أو بعد 18 شهرا».
قد يثير احتمال أن يبدأ طالب مساره المهني في قطاع النفط الإستغراب في بعض أجزاء أمريكا. لكن ليس في الحوض البيرمي. ففي جامعة «تكساس بيرمِيان بيزِن» والتي بها أكبر عدد من الطلاب في المنطقة زادت كثيرا أعداد الملتحقين بالدورات التي تركز على الطاقة بعد أن شهدت تراجعا أثناء الجائحة. وتعمل الجامعة على إضافة المزيد من البرامج الدراسية المتعلقة بالنفط.
تقول ساندرا وُدْلي رئيسة الجامعة «لن تجد أكبر مشجع لصناعة الطاقة من هذه الجامعة ومن كلية الهندسة بها. لن ينتهي في أي وقت قريب اعتمادنا على النفط والغاز ولا حاجتنا إلى أن نكون قطاعا (اقتصاديا) قويا». لكنها تضيف أن التنويع في مجالات مثل التصنيع المتقدم وأمن الإنترنت وعلوم الصحة وأشكال الطاقة الأخرى سيجعل المنطقة أقل ارتهانا لتقلبات سعر النفط.
تقول «نحن نتوقع أن تكون هنالك دورات اقتصادية. وهدف الجامعة هو التقليل من هذه الدورات بالمساعدة على تنويع الإقتصاد وتوافر خيارات أخرى مكمِّلة لصناعة النفط والغاز».
هل ستُنهِي أوبك «الحفلَ» البيرمي؟
من المتوقع أن تزداد أهمية الحوض البيرمي. وفيما تصارع الأحواض النفطية الأخرى للحفاظ على مستوى انتاجها أو الحيلولة دون تدهوره يُرجَّح أن يكون الحوض البيرمي حقلَ النفط الأمريكي الوحيد الذي يتزايد انتاجه.
ويعتقد على نطاق واسع أن أهمية حقول النفط الصخري التي تحمل أسماء غرائبية في مناطق أخرى بالولايات المتحدة تتلاشى، بما في ذلك حقل باكين في داكوتا الشمالية وحوض دي جيه في كولورادو وسْكُوب ستاك في أوكلاهوما وباودر ريفر في مونتانا. لكن في الحوض البيرمي المستقبل مشرق.
يقول سكوت شيفيلد، الرئيس التنفيذي لبايونير ناتشورال ريسورسيز وهي أكبر شركة خدمات نفطية في الحوض البيرمي، أن هذه الأحواض النفطية ربما يمكنها المحافظة على معدلات الإنتاج عند ارتفاع الأسعار. لكن الإنتاج في الحوض البيرمي سيتزايد ما لم يكن هنالك انهيار آخر. يقول «صار من المقبول الآن أن الإنتاج البيرمي هو الذي يقود في جانب النفط».
البيانات تثبت ذلك. فانتاج النفط أرخص في الحوض البيرمي من أية منطقة أخرى في الولايات المتحدة بحيث يمكن لشركة نفط ما تحقيق أرباح من حفر بئر جديدة في منطقة مدلاند عندما يكون سعر النفط 46 دولارا للبرميل. وهو ما يساوي نصف الأسعار الحالية تقريبا.
يعتقد مات ماثيس، رئيس العمليات بشركة بايونير، أعتقد أن هنالك مجال لإستمرار نمو الإنتاج في الحوض البيرمي لفترة طويلة قادمة. فهو يتمتع بوضع فريد بفضل «البنية التحتية للنفط والصناعات المساندة» .
شكلت بعض أكبر شركات النفط في المنطقة «الشراكة الإستراتيجية البيرمية» والتي تهدف إلى جعل المنطقة مقصدا جذابا. فالمدارس ودور الرعاية الصحية والبنية التحتية في المنطقة متخلفة، كَمَّا وكيفا، عن معظم مناطق الولاية والبلاد. وهذا ما يحول دون استجابة مدراء الشركات الذين يطلب منهم الإنتقال إليها من المناطق الأخرى.
تقول تْرَيسي بينتلي، رئيسة الشراكة الإستراتيجية البيرمية، الشركات تستثمر في الحوض البيرمي وكأنها ستظل هناك لخمسين عاما قادمة.
وتعتقد أن الإنتاج في الحوض البيرمي لديه مستقبل عظيم وعظيم جدا. فالعالم والولايات المتحدة «سيحتاجان إليه لخمسين أو ستين أو سبعين عاما».
مهما كانت الميزات التي يتمتع بها الحوض محليا سيتأثر منتجوه بقرارات أسعار النفط التي تتخذ في مكان آخر. وشركات من شاكلة بايونير ستظل تحت رحمة أوبك. فالسعوديون وحلفاؤهم النفطيون يمكنهم بسهولة إغراق سوق النفط كما حدث في السابق. وهذا سيخفض الأسعار ويلحق ضررا بالغا بالمنطقة.
يقول مسؤول تنفيذي كبير في ميدلاند «المستثمرون يعرفون أن أوبك لديها مطرقة كبيرة. وقد سبق لها أن ضربتنا بها». ذلك يجعل المستقبل أقل من آمن.
يقول فَريْن - برايس، المدير بشركة أبحاث الطاقة انفيراس،«شاهدنا هذا الفيلْم من قبل. منتجو الحوض البيرمي يلزمهم القبول بالسعر السائد في السوق. أما السعودية فتملك طاقة إنتاج احتياطية ولديها الاستعداد لاستخدامها. ذلك يمكن أن يُنهى الحفلَ البيرمي».