دمشق – عُمان –

تكاد لفحات البرد ولسعاتها أن تصل لجسدي وهي التي قرصت مسامعي عبر الهاتف وأنا أتحدث للعديد ممن تواصلت معهم في المخيمات السورية المنتشرة في أكثر من مكان، فلم يكن من السهولة الوصول إليهم والاستماع لهم وجها لوجه، إلا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، فكانت الاحاديث منقوعة بالمرارة، معجونة بالقهر، وأصوات الأطفال من حولهم لا تحتاج لكثير من الفراسة لكي تعرف ما يعانيه هؤلاء الذين تفتحت حواسهم في الشتات السوري وهم يقاسون كل أنواع العذاب بعد أن سلبت منهم الحرب طفولتهم وضحكاتهم البريئة وباتوا يحملون على كواهلهم ما يصعب على الرجال حمله في تلك الأماكن المزروعة بالخيبة وحتى الضياع.

الطفل خالد أبن ال13 عاما لا يذهب الى المدرسة وعليه أن يمشط ارض المخيم طولا عرضا باحثا عن الكرتون والورق وربما بعض أعواد حطب جادت بها الريح الهوجاء ورمتها أمامه ليلتقطها ويعود بحصيلة يومه قبل غروب الشمس ليتدفأ أخواته وأمه، ولابأس أن قام ببعض الخدمات المأجورة من عتالة أو مساعدة احدهم مقابل ثمن بخس أيضا، هكذا تروي لي أحد العاملات في تلك المخيمات عن وضع الأطفال هناك، فالقليل منهم يتعلم وأكثرهم مضطرون لمساعدة أهاليهم في العيش، البرد هنا لايفرق بين صغير وكبير ومنذ أيام سمعت عن موت طفلين في مخيم مجاور بسبب البرد ونقص العناية الطبية.

أرشيف المعاناة

أحلام الرشيد "من مخيم أطمة شمال سوريا" مدرسة اللغة العربية أرشيف المعاناة هناك، التي تعمل ما بوسعها لإيصال أنين ووجع المتعبين في تلك المخيمات وهي التي وجدت نفسها أيضا نازحة منذ بداية الحرب بين ثلة الهاربين من جحيم الحرب فوجدوا أنفسهم وسط هذا الزمهرير الذي يتكرر كل شتاء فتقول بأسى واضح من نبرات صوتها، المنظمات الإنسانية لم تعد كما كانت، وبالكاد تقدم أدنى الخدمات المطلوبة، الخيم لم تتبدل منذ تسع سنوات، وباتت مهترئة، مياه الأمطار من فوقنا وتحتنا، الثلج عندما ينزل يثقل على أصحاب الخيم المهترئة، ومن أسعفه الحظ فقد بنى لنفسه غرفة متواضعة من البلوك والطين ليقي عائلته من المطر والثلج، الدفء مفقود بسبب غلاء الوقود وقلة الموارد المالية، وحتى الثياب التي يرتدونها لا تقي البرد القارس، كل يوم تصادفني قصة مؤلمة من هذا المخيم أو ذاك.

وتضيف أحلام منذ أيام تم الإعلان عن إيقاف الدعم عن 18 مشفى بمخيمات الشمال وهذه بحد ذاتها مشكلة كبيرة لمن يصيبهم البرد بالمرض أو ممن يعانون من أمراض مزمنة.

من سيء إلى أسوأ

البرد والمطر والثلج حل في كافة المخيمات بدءا من المخيمات الواقعة في الشمال ومخيمات عفرين واطمة وجنديرس وريف ادلب وريف حلب، وحتى إعزاز، وترك ندوبا ظاهرة بسبب فقدان المرافق الأساسية للعيش، كل شيء قد يتطاير مع الهواء الشديد، الأبواب المستعارة والشبابيك المهترئة وبعضها مغطاة بالبلاستيك الشفاف ولاتقي من البرد، ومن يسكن في خيمة فوضعه أسوأ بكثير، نجتمع أثناء المطر لنتعاون على العناية وإنقاذ العائلات المنكوبة التي تقع الخيام فوق رؤوسهم بسبب الثلج والمطر، صدقني لانتمنى أن يأتي الشتاء بسبب هذه المعاناة، تعبنا من مناشدة العالم لكي يشاهدوا مآسينا، تسع سنوات ونحن على هذه الحال ومن سيء إلى أسوأ، هكذا يصف أبو سعدون المتواجد في أحد مخيمات الشمال السوري.

انفجار المدافئ

يروي أبو عبد الرحمن وهو أب لعائلة مؤلفة من زوجة وأربع أطفال في أحد المخيمات غربي مدينة الرقة قائلا، أصبحنا نحن أهل المخيمات واجهة لمن يريد التصوير فقط، يقومون بتصويرنا ويذهبون، يتركونا عرضة للبرد القاتل والجوع الذي يفتك بأطفالنا، الناس هنا بدأت تشحذ ثمن ربطة الخبز، لا فرص عمل ولا يوجد ما نقتات عليه، لاحطب ولا وقود وسعر ليتر المازوت يصل الى 1500 ليرة سورية في السوق السوداء "نصف دولار"، وهو خارج قدرتنا الشرائية، نشتري بعض الوقود الرخيص وتنفجر علينا المدافئ بسبب رداءة النفط الذي يباع، وكم من فاجعة ألمت بنا وبأناس أخرين نتيجة انفجار "الصوبيات" الوضع مأساوي جدا، وزعوا لنا برميل مازوت في بداية الشتاء وانتهى خلال 20 يوم، والخيمة التي نقطنها باردة جدا ونشتري بالقناني بعض الوقود، المنظمات توجهت للمدن التي فيها نازحين وتركوا المخيمات، مياه الأمطار تغمرنا وأحيانا نستيقظ بسبب الماء الذي يجري من تحت الإسفنجات التي ننام عليها، لن استطيع أن أصف لك كل ما نعانيه ويخونني التعبير، ومن يعيش الواقع ليس كمن يسمع ويرى، نناشد ضمائر الشرفاء في العالم لانقادنا من هذا الوضع المتعب.

من مخيم الركبان

يقع مخيم الركبان على الحدود الأردنية العراقية في الجنوب السوري ويقطنه أكثر من 30 ألف شخص في بيوت طينية وخيم ومعظمهم من النساء والأطفال وبعض الشباب وتكاد تنعدم فيه الحياة الصحية والخدمات اليومية ويضطر الأهالي ممن لديه مقدرة مالية الى شراء طن الحطب حوالي 260 دولار متوسطيا، وبرميل المازوت الى حوالي 230 دولار ولكنه غير متوفر دائما وليس لدى كل القاطنين هنا لديهم القدرة على الشراء ويلجأون الى جمع الكرتون والنايلون لإحراقه والتدفئة به رغم انه ضار صحيا ولكن ما باليد حيلة، البرد يلف المكان والريح تزمجر في الليل وعندما تهطل الأمطار يكون الوضع أسوأ بكثير، موجات البرد أصابت كثير من النسوة والكبار منهن بأمراض مزمنة، والسعال والرشح يلاحق الأطفال، الشكوى لغير الله مذله، يقول أبو محمد الطيباوي الذي تواصلنا معه وتحدث طويلا عن تلك المعاناة التي تكاد نشابه معاناة باقي المخيمات.

سيل الصور والأفلام ودفء المشاعر

تتدفق يوميا عشرات الصور والأفلام التي توثق مأساة النازحين في المخيمات جراء البرد، وانعدام العناية الصحية وفقدان الأدوية ووسائل التدفئة، وتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بالصور والمنشورات التي تتعاطف مع هؤلاء الذين يفترشون الثلج والطين ويلتحفون الخيم، ويقول أبو جاسم من احدى مخيمات الشمال السوري نبرد حقا، ولكن يصل إلينا دفء مشاعر الأحبة ونحن نتقلب في هذا الزمهرير القاسي، أصبحنا حديث العالم، وصور أبناءنا باتت قصص تدعوا للشقفة، انتهكت كل خصوصيتنا ونحن نبحث عن الدفء والأمان، نناشد العالم أجمع لعل مشكلتنا تنتهي.

ليت كل أوجاعنا البرد

لم تشأ أحلام الرشيد أن تتركنا دون أن تزيد من أوجاعنا أيضا وتعقب على موضوع البرد فقالت باستطاعة الإنسان أن يحتمل ويقاوم بعض البرد لأنه أيام ويرحل ولكن فاجعتنا أكبر بكثير مما تتصور، ففي هذه المخيمات من القصص والمآسي الكثير، سأفتح لك كل الدفاتر وكل الجروح وأكتب ماشئت، هنا في المخيمات لم يعد للمرأة خصوصيتها، فالخيمة الواحدة تحوي الجميع، وهي المطبخ والحمام وكل شيء، تنتشر المخدرات بين صفوف كثير من الأطفال والشباب، وكثر التسول، وقصص الابتزاز والتحرش لا تنتهي، هناك معاناة للنساء، وهناك قهر للرجال، الطفولة ضاعت من عيون أطفالنا، نحاول ما نستطيع ان نفعله لكي نحافظ على البقية الباقية من الفضيلة لكي نحافظ على قيمة الإنسان هنا، ونتمنى عبر منبركم أن تصل أصواتنا للجميع، انقذوا أهل المخيمات.

عشرات الرسائل والصور

وأنا أكتب هذا التقرير تواصلت مع الكثيرين في تلك المخيمات. وصلتني عشرات المقاطع الصوتية لنساء وأطفال ورجال يتحدثون عن معاناتهم، وقبل أن ادفع بما كتبت للجريدة تناقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خبر وفاة 15 طفلا مساء يوم الثلاثاء الفائت نتيجة البرد، وقبلها بخمسة أيام ومع اشتداد العاصفة الثلجية على مخيمات شمال غرب سوريا أدت إلى وفاة طفلين، واحتراق خيمة بسبب مدفأة وأدى لوفاة طفلين وأصيبت الأم بحروق شديدة، وهناك حالات صحية حرجة نتيجة البرد، الذي يضرب المنطقة وصلا الى ريف أدلب.

قلق دولي

بدورها أعربت الأمم المتحدة عن "قلقها" حيال "الأوضاع المزرية" للنازحين والمدنيين في شمال سوريا، على خلفية الظروف الجوية السيئة وانخفاض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر.

وقال نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية في الأزمة السورية، مارك كتس، في إحاطة إعلامية، إن هناك "مشاهد مروعة" بخصوص أوضاع النازحين بشمال سوريا، شاهدناها في الأيام الماضية. ولفت كتس إلى أن ربع مليون شخص يعانون من الظروف السيئة، حيث أن حوالي 100,000 شخص "تضرروا بسبب الثلوج"، وحوالي 150,000 شخص يعيشون في خيام في ظل انخفاض درجات الحرارة.

دلالات رقمية

تنتشر مخيمات النازحين السوريين في أماكن كثيرة داخل وخارج سوريا، ولعل أكثرها في محافظتي حلب وإدلب، حيث تشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد تلك المخيمات يبلغ 1489 مخيما يقطنها نحو 1.5 مليون نازح، ومن بين المخيمات هناك 452 مخيما عشوائيا يعيش فيها قرابة 234 ألف نازح وبعضها أقيم فوق مكبات القمامة.

وهناك مخيمات على الحدود السورية اللبنانية وعلى الحدود العراقية السورية وكذلك التركية، ومخيمات في شرق سوريا أيضا بمحافظات الحسكة والرقة ودير الزور، إضافة للمخيمات الموجودة داخل الأراضي اللبنانية والأردن.

هذا وتتعرض مناطق شمال غربي سوريا لأجواء شتوية قاسية، كان آخرها عاصفة ثلجية تضرب المنطقة منذ مساء الثلاثاء الماضي، تسببت بأضرار متفاوتة لـ 72 مخيماً يؤوي نحو ألفين و250 عائلة.

وتضرر بفعل العاصفة 920 خيمة بشكل كلّي، وألف و900 خيمة بشكل جزئي، في 72 مخيماً من جراء تساقط الثلوج والأمطار الغزيرة خلال الأيام الماضية.

وتراوحت سماكة الثلوج شمالي حلب بين 30 - 50 سم، لتحاصر المخيمات العشوائية في مناطق شران وبلبل وراجو في ريف عفرين، بالإضافة إلى مخيمات يازيباغ وشمارين وعرب غويران قرب إعزاز.