في لقاءات صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- بشيوخ محافظات السلطنة بحصن الشموخِ العامر، برزت مسألة التأكيد على أهمية تربية الأبناء على قيم المجتمع العُماني، وتحييد دور العوامل والمؤثرات التي تفرضها التحولات الراهنة في التأثير على شبكات التربية بما في ذلك تطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعبر التركيز على هذه المسألة على الضرورة الراهنة لتأصيل القاعدة القيمية التي يمكن أن تنطلق منها عمليات التنمية وبناء المستقبل، فالمجتمعات المتماسكة المتضامنة التي تتضح فيها خارطتها القيمية هي ضمان أصيل للبناء التنموي المستديم والحيوي، وهذه الإشارة في تقديرنا تقتضي حشد الجهود الوطنية تجاه الآتي: - إيجاد سياسة وطنية للأسرة تؤسس للمبادئ الموجهة لتنمية وحماية ورعاية الأسرة وحفظ ركائزها في البناء المجتمعي (في ظل التحولات الراهنة)، وتركز على تعزيز الأدوار التي يمكن أن تؤديها في ضمان الاستقرار المجتمعي ودعم عمليات التنمية، ويمكن أن تركز محاور هذه السياسة في تقديرنا على الآتي (التكامل بين الأسرة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى - إطار رعاية الطفولة المبكرة - الأسرة والتضامن بين الأجيال - إطار الحماية الأسرية - الأسرة والمساهمة الاقتصادية - التوازن الأسري الاجتماعي الاقتصادي - الزواج والعلاقات الأسرية - الأسرة والتغيرات الاجتماعية). سيسهم كل محور من هذه المحاور في تصورنا في تحديد الأدوار والممارسات والتدخلات التشريعية وأطر التنسيق وحاجيات التوعية والتثقيف والإعلام وموجهات التدخل التنفيذي ورسم السياسات والاستراتيجيات القطاعية التي تضمن جانبين أساسيين: الأول كيف تتحرك المؤسسات الاجتماعية الأخرى في اتساق مع الأسرة للحفاظ على مركزيتها الاجتماعية، والجانب الآخر كيف تنسجم أدوار الأسرة وأوضاعها مع مقاصد التنمية الكبرى، وكيف تكون داعما أساسيا وضامنا عبر توازناتها واستقرارها لضمان ديمومة التنمية والحد من تعطلاتها. كما سيسهم وجود هذه السياسة في تحديد القيم المركزية التي ينبغي أن تكون موجهة للتضامن والاستقرار الأسري بحيث ترتكز مضامين عمل واستراتيجيات كافة المؤسسات الاجتماعية على تلك القيم وتنطلق من سياق تعزيزها وتحويلها من إطارها المعرفي إلى إطارها الضمني والممارس والسلوكي. - تعزيز حقل «دراسات الأسرة» وهذا التعزيز من الممكن أن يكون عبر إنشاء وحدة مستقلة لدراسات الأسرة تتبع إحدى المؤسسات الأكاديمية أو المؤسسات الحكومية ذات العلاقة بقطاع الأسرة وقد يكون عبر تفعيل البحث والدراسة في المؤسسات القائمة فعليًا، إن ما نعنيه في هذا السياق تحديدًا ليس الدراسات العرضية أو دراسات القضايا الجزئية، وإنما دراسات التتبع Tracking Studies تلك التي تتقصى التغير في أوضاع الأسرة ليس فقط من ناحية البيانات الأولية والتركيب الأسري والحالة الاقتصادية والسكنية والصحية، وإنما تتبع التغير في المواقف والاتجاهات والسلوكيات والممارسات، كما تمكنها منهجياتها في العمل من تتبع تأثير السياقات المحلية والإقليمية والدولية على مختلف أشكال تركيبة الأسرة سواء من ناحية القيم أو التوقعات، أو الفاعلية، وقوة الأدوار، أو من ناحية مدى الالتحام والتجانس مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وهذا لا يتأتى في تقديرنا إلا عبر وضوح حقل «دراسات الأسرة» الذي سيعنى بمراكمة رصيد معتبر من الدراسات المتوافرة حول الأسرة وبالتالي الإعانة على بناء سياسات قائمة على الأدلة من ناحية، ومن ناحية أخرى القدرة على كشف القيم التربوية الأكثر تغيرًا أو حساسية إزاء التغيرات الثقافية والاقتصادية والسياسية، وتحديد المداخل المنهجية والمؤسسية لمعالجة تلك التغييرات أو تكييفها بما يتناسب وحفظ التوازن الأسري، وإبقاء الاعتبار الأقصى لدور الأسرة في مركزية البناء الاجتماعي. تتقاطع كتابتي لهذه المقالة مع بحث أجريه حاليًا حول الممارسات البحثية لبعض وحدات دراسات الأسرة في مستويات إقليمية ودولية، ولعلي أشير هنا إلى تجربة معهد الدوحة الدولي للأسرة الذي ساهم في تأطير رصيد معتبر من الدراسات حول أوضاع الأسرة في منطقة الخليج والمنطقة العربية والعالم عبر دراسات تفصيلية موسعة تتناول قضايا الزواج وتركيب الأسرة بالإضافة إلى السياسات التنموية الموجهة للأسرة ودراسات الحالة المقارنة في أوضاع وتركيب وتحولات الأسرة، كذلك Centre for Family Research بجامعة كامبريدج الذي يدير نقاشات ومداولات علمية موسعة تشمل قضايا الأسرة من الزواج والحمل والإنجاب، إلى سنوات الطفولة، إلى ممارسات الوالدية والعلاقات الأسرية، وما يميز عمله أنه «يستند إلى فريق متعدد التخصصات من علماء اجتماع وأنثروبولوجيا وعلماء أحياء وعلماء أخلاقيات بيولوجية». ويبني المركز حسب ما يورد في وثائقه «صلات وثيقة بالمدارس، وعيادات الإنجاب وحديثي الولادة، والطب النفسي للأطفال، وأقسام علم الوراثة الإكلينيكية، والمتخصصين في قانون الأسرة.» ونشير كذلك إلى تجارب وحدات مثل Institute for Family Studies IFS في فيرجيبنا، وبرنامج الدراسات الأسرية في جامعة سانت توماس، وقسم أبحاث التنمية البشرية والدراسات الأسرية بجامعة إلينوي. - وفيما يتعلق بتعزيز القيم التربوية، فإننا نعتقد أن إدماج المقاربات السلوكية، وتعزيز دور القدوات في مضامين الرسالة الإعلامية العامة، وتأطير مجالس الخبرات (كبار السن) في الولايات والمحافظات، بالإضافة إلى تفعيل دور التكوينات الاجتماعية القائمة وحفزها وفق إطار استراتيجي على استحداث برامج لتعزيز القيم والتربية القيمية، كلها مداخل من الممكن أن تسهم في هذا الاتجاه. إن هاجس رد الاعتبار للأسرة في بنية السياسات الاجتماعية أصبح اليوم هاجسًا مركزيًا للكثير من راسمي السياسات الاجتماعية في أقطار مختلفة من العالم، يأتي هذا الهاجس مدفوعًا بالمخاوف من تلاشي الدور الأسري، أو بروز إشكالات ديموغرافية تقتضي تفعيل دور الأسرة، أو نتيجة العطب الذي أضحت تشكله المشكلات الأسرية أمام مسار السياسات العامة والقطاعية الأخرى. ولذلك ففي تقديرنا بناء السياسة الأسرية وتضمين خارطة القيم التي ينبغي تأصيلها عبر الممارسات والسلوكيات والخطط القطاعية المختلفة يغدو ضامنًا أوليًا في تحقيق هذه المقاصد وإثمارها. |