على مستوى الكتابة الصحفية نجد أنه من المهم مراكمة جملة من المداخلات في سياق التحول الذي ينشده النموذج التنموي الراهن في سلطنة عُمان نحو "اللا مركزية" ونأمل أن تصاحب هذه الكتابة مراكمة لأدبيات البحث العلمي والقياس الموازية التي ستسهم مع وجود الإرادة السياسية -دون أدنى شك- في تأطير الروافع التي يمكن أن يستند إليها هذا التحول والتنبيه إلى العتبات والعقبات والفرص والممكنات وتوسيع أطر الفهم على الأقل من الناحية الاجتماعية والعلمية لفهم مداخل هذا التحول ومنطلقاته. وعليه فإن جهد "التنظير" أصبح ضرورة ملحة -لا لأننا حديثو عهد بهذه التجربة- ولكن لبناء تجربة أكثر تلامسًا وحساسية مع الواقع وأكثر استدراكًا لمحدداته ووقوفًا على تفاصيله.

في اللقاء بشيوخ محافظتي الداخلية والوسطى بحصن الشموخِ العامر نبه سلطان البلاد المفدى -أيده الله- إلى المنطلقات الأساسية التي يبنى عليها تمكين المحافظات وإلى الأدوار المتطلبة من مكاتب المحافظين في سبيل إحداث هذا التحول ويمكن إيجاز النقاط البارزة التي تفضل بها جلالته على النحو الآتي:

- التنبيه إلى الأدوار المُنتظرة في سياق التخطيط التنموي والتشاركي التي يجب أن تضطلع بها مكاتب المحافظين. والتحول في آليات صنع القرار بما يعيد صناعة خارطة الأدوار للحكومة المركزية في مقابل الإدارات المحلية.

- إيلاء عملية الحوكمة والمتابعة أولوية قصوى في سبيل هذا التحول وضرورة تقديم خطط تفصيلية سنوية لمشاريع المحافظات إضافة للالتزام بآليات المتابعة المقررة لبرنامج تنمية المحافظات.

- تفعيل دور المجالس البلدية في إحداث هذا التحول كونها معبرة عن الإرادة المجتمعية وناقلة للتطلعات الشعبية.

- تعزيز الدعم المالي المخصص لبرنامج تنمية المحافظات وصولًا لتحقيق أفضل الممارسات المبتكرة في تصميم المشاريع المحققة للقيمة المضافة والضامنة للرضا المجتمعي.

وأمام هذا التحول فإننا نعتقد أن هناك مجموعة من الروافع التي يمكن أن تسهم في إحداث هذا التحول وتسريعه. ولعلنا نقف في هذه المقالة على ثلاثة من هذه الروافع تفصيلًا. وأولوها اقتراحنا بوجود "مؤشر وطني لتنافسية المحافظات" حيث يعنى بقياس المزايا النسبية لكل محافظة من عدة جوانب منها في تصورنا: (الكفاءة الاقتصادية - بيئة ممارسة الأعمال في المحافظة - مقومات المورد البشري في المحافظة - حركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ونشاطها - طبيعة الحراك الاجتماعي والديموجرافي في المحافظة - الفرص الاقتصادية في المحافظة - فرص التعليم وموطنة الكفاءات البشرية في المحافظة - كفاءة المؤسسات الخدمية العامة في المحافظة - القيمة المحلية المضافة لمشروعات القطاع الخاص في المحافظة - مستوى المشاركة المجتمعية في صنع القرار المحلي في المحافظة - قوة وتأثير مؤسسات المجتمع المدني على التنمية في المحافظة - تأثير التكوينات الشبابية على العمل المدني في المحافظة - الاستثمار في مخصصات برنامج تنمية المحافظات - دور المؤسسات العلمية في دفع التحول للامركزية في المحافظة...) هذه معايير "أولية" مقترحة ويمكن إضافة معايير أخرى بشكل توسعي حسبما تفضي إليه الدراسات المعمقة والاطلاع على التجارب المثلى في هذا الصدد سواء إقليميًا أو دوليًا. وفي تقديرنا فإن منافع وضع هذا المؤشر ستكون على النحو الآتي:

- القياس الدقيق للميزة النسبية التنافسية للمحافظات ومعرفة خارطة الفرص والممكنات بما يشكل سندًا معرفيًا لسياسات التخطيط التنموي المستقبلية سواء (قصيرة - متوسطة) المدى.

- معرفة الاحتياجات الأولية للمحافظات فقد لا تكون هذه الاحتياجات مرتبطة بتمويل التنمية بقدر ما تكون احتياجات مرتبطة بالكفاءات أو مراكز البحث العلمي أو وحدات السياسات العامة وبالتالي جعل المنطلق الذي تنطلق منه المحافظات متقاربًا وموحدًا.

هذا المؤشر له تجارب مثيلة في مصر التي ناقشت مؤخرًا إطلاق مؤشر تنافسية المحافظات في 2022 وطورت الفلبين ما يعرف بـ"CITIES AND MUNICIPALITIES COMPETITIVENESS INDEX" عبر موقع متكامل تتاح فيه البيانات المحدثة باستمرار ويقيس تنافسية البلديات في الفلبين وفق 4 ركائز: الديناميكية الاقتصادية، والكفاءة الحكومية، والبنية التحتية، والمرونة. ومؤشر التنافسية البلدية في المكسيك. والذي يؤطر مقارنته وفق منهجية تحليل العوامل لمقارنة أداء 96 بلدية في جمهورية المكسيك. ويتضمن 61 متغيرًا مجمعة في أربعة أبعاد أو فهارس فرعية: اقتصادي، مؤسسي، اجتماعي ديموغرافي، حضري بيئي. وفي تقديرنا الالتزام والاسترشاد بما توصلت إليه "الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية" من خلال توضيح (الثيمات العامة للمحافظات) (طبيعة الفرص الاقتصادية المتوقعة) و(محددات التنمية العمرانية لكل محافظة) سيشكل عاملًا معاونًا في سياق تسريع هذا التحول في المحافظات.

أما الممكن الآخر الذي نركز عليه في هذه المقالة فهو يتصل بدور التكوينات العلمية داخل المحافظات في دعم هذا التحول وحين نتحدث عن التكوينات العلمية فنحن نتحدث عن مؤسسات التعليم العالي من الجامعات والكليات والمعاهد وعن الجماعات العلمية المتشكلة والقائمة بوضوح في كل محافظة. فالآن نرى أن هناك دورا محوريا تنويريا يجب أن تقوم به هذه الكيانات في دعم هذا التحول لـ"اللا مركزية" عبر أبحاثها ومسوحها العلمية ومختبراتها التي تتقصى الفرص في مختلف مجالاتها وتحاول وضع مقاربات علمية لمواجهة التحديات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإدارية كما وتوطن عمليات الابتكار لخدمة تنمية المحافظات وتوجه الاختراع لغرض خدمة الاحتياجات المحلية داخل كل محافظة. ومع انتشار مؤسسات التعليم العالي وتغطيتها لأغلب محافظات السلطنة فإنه يمكن تأسيس مراكز أولية أو وحدات بحث تعنى بخدمة هذا التحول وتدعم تشكيل فرق بحثية معينة لمكاتب المحافظين لتقديم الاستشارات والمقاربات المرجوة في هذا الشأن. ويمكن أن تقودها خلال الخطة التنفيذية الأولى (2021-2025) الجامعات الكبرى في حواضر المحافظات على أن تستنسخ التجربة -إن ثبتت فاعليتها- في السنوات الخمس اللاحقة في بقية مؤسسات التعليم العالي.

أما الممكن الثالث الذي نشير إليه فهو متصل بالمسؤولية العامة وخاصة في خيارات المشاركة السياسية. وتحديدًا على مستوى المحافظات، فالدور الملقى على عاتق المجالس البلدية وخصوصًا بصدور المرسوم السلطاني رقم ١٢٦ / ٢٠٢٠ بإصدار قانون المجالس البلدية والتوجيهات السامية الأخرى بتفعيل دور هذه المجالس في خدمة التحول لـ"اللامركزية" كل ذلك أصبح يلقي دورًا أكبر على عاتق كل فرد مشارك سياسيًا في اختيار هذه المجالس بضرورة انضاج الخيارات وإعلاء المصلحة العامة والتواصل المستمر والدائم مع ممثلي هذه المجالس دعمًا وتشاورًا وتحسينًا للأداء بما يحقق متطلبات التحول المنتظر.

* مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع