نستشرفُ في هذه الحلقة النتائج التي أمَّلنا تحقيقها في مشروعنا العلمي الرامي إلى إعداد معجم شعراء عُمان في القرن العشرين، فقد عمدنا إلى منهجية علمية مُرَكَّزة تناولنا أهدافها وخطتها ومحاورها في الحلقة السابقة، وكانت بغيتنا إظهار مناخات هذا الشعر وتجلية ظواهره، والكشف عن مكوناته واتجاهاته عبر تجارب شعرائه الذين خضعوا لضوابط الأخيار بما يحقق شاعريتهم ويجعلهم مستحقين التوثيق والذكر والتناول في هذا المعجم الموسوعي.
وعبر القراءة الأولية لمدونة المعجم الكلية تبدّت لنا نتائج أولية نحسبها مهمة لتكوين خريطة فهم كلية لهذا الشعر ترتكز على ثوابت لا تبعدها كثيرا عن الشعر العربي، ومن هذه النتائج ما يلي:
أ - ارتكازه على ثوابت الثقافة
التقليدية المحافظة:
ارتكز الشعر العُماني على ثوابت الثقافة التقليدية، وقد ارتبطت هذه الثقافة بالتعليم بدءًا من أوائل القرن العشرين حتى قبله، فقد كانت مراكز التعليم متصلة بالوسط الديني؛ فالمساجد و(السبل) والمدارس تعتمد على تدريس القرآن مادة أساسية، وإذا هي تعدّتـه قليلا فهي لم تتعد المواد المستمدة منه كالفقه والبلاغة والنحو، وكان المنهج الذي تدرّس به هذه المواد يعتمد على الحفظ والتسميع والترديد.
إن هذا المنهج وتلك المواد كانا من العوامل التي أدّت بالشعراء الدارسين في هذه المدارس إلى « صدور رؤيتهم للشعر عن هذه الثقافة السلفية المحافظة التي قلّ فيها الاهتمام بالأداء الفني للشعر «مقابل الإحاطة النظمية واتخاذ الشعر خطاب حياة ووسيلة تعليم وتوثيق على نحو ما يقول الدكتور محمد ناصر في كتاب الشعر الجزائري الحديث ص 40.
وإذا كانت هذه النظرة قد أحكمت سيطرتها على الشعراء في ظل فهمهم للشعر، فإنهم وجدوا في شعر المطارحات والمعارضات والإخوانيات والتقاريظ والأسئلة التعليمية وسائر النزعات الفنية وأشكال هندسة النص منهجاً جديداً وأسلوباً يوسّع دائرة اهتماماتهم، ويتيحُ لهم ضرباً من الخروج عن محيط المواد التقليدية، وتصبح المسألة في حسبانهم نوعاً من التجديد منطلقين من حقيقة أن الشعر خطاب حياة.
بيد أن هذا الخروج لم يقتصر في بعده الفني على هذا الحد؛ فقد اضطر الشعراء إلى الخروج من وطنهم إلى أوطان بعيدة تمثلت في زنجبار وبعض مناطق الخليج، فوجدوا في هذين المهجرين متنفساً دفعهم إلى مغايرة ما كان سائدا لديهم ونجم عن ذلك أشكال جديدة وملامح تجديدية توسعت مداركها في فترة الربع الأخير من القلان العشرين وما بعدها.
ومع أن ذلك الخروج المكاني كان واضحًا إلا أن شدة التأثر به لم تكن كبيرة، رغم أن زنجبار كانت تعجُّ بالأفكار الإصلاحية، وكانت أصداء الثقافة الجديدة تجد نقاشاً ومتابعة من قبل المثقفين عبر الصحافة والجمعيات والمدارس بل حتى المسارح وأندية الفنون، ويرجع ذلك إلى أن طبيعة مواد التعليم في هذا المهجر لم تكن تختلف عن الطبيعة السائدة في عُمان، ولذا صَدَرَ الشعراء عن منبعٍ واحد رغم تباين المكان وتفاوت الجغرافيا والناس، وكانت وسائل تعبيرهم التي أقاموا عليها تجربتهم الشعرية تنحو منحى الإصلاح الذي اتخذ شعار العودة إلى الماضي انطلاقا من معطيات النص القرآني الكريم والسنة النبوية الشريفة.
إن هذه الثقافة التي سادت الشعر في عُمان لاسيّما عند الجيل الأول لا تختلف بأي حال من الأحوال عن الثقافة الماثلة التي عمـّت البلاد العربية جميعها، «واتخذت من المحافظة أسلوباً، ومن العودة إلى الدين منهجاً، وكان شعارها لا يصلح آخر هذه الحياة إلا بما صلح به أولها» على نحو ما نجد في سائر الأشعار العربية التي نمثل بها بما أورده الدكتور محمد ناصر في كتابه السابق، ص45 عن الشعر الجزائري.
لقد تركت الثقافة التقليدية بصماتها في أساليب الكتابة الشعرية، فقد طبعتها بطابع القوة والجزالة، وأصبحت النصوص الدينية مصدرا مهما من مصادر التجربة الشعرية وظهرت على أنماط متعددة من التناصات والتعالقات الفنية في بنية القصائد.
ب- انغراسه في تربة الأدب
القديم، واستيحاؤه قلبا وقالبا
يوازي الشعراء العُمانيون أقرانهم الشعراء العرب في عنايتهم بالأدب القديم، ونعني به هنا شعر المراحل والعصور التاريخية المعروفة جاهليًّا وإسلاميًّا وأمويّا وعباسيًّا، وكان تأثرهم به تلبية لدواع اجتماعية وأخرى دينية وثالثة ذوقية، وكان الأدب العربي من أكثر المصادر التي وضعت بصمتها في الشعر العماني شأنه طبعاً بنظائر في الأقطار الأخرى، فساعدته على الازدهار وأشاعت في ثناياه عددا من الرؤى الطريفة والصور المستحدثة، ومغزى هذا التأثر يكمن في أمرين:
الأول: اهتمام الشعراء بكل ما يمتُ إلى التراث الأصيل بصلة؛ فهم يرون أن الشعر لا يتطور إلا بتطور لغته، ومن ثم فمنبع هذا التطور هو الشعر العربي القديم ممثلا في نصوص المعلقات وأمثالها.
الثاني: حالة العزلة الثقافية التي عاشها الشعراء العُمانيون في بعض مراحلهم جعلتهم يقصرون أنظارهم على الأدب القديم، فجاء إنتاجهم متأثرا إلى أبعد الحدود بالمصدر الذي استقوا منه إبداعهم؛ فأغلب الشعراء درسوا في الجوامع والمساجد ومدارس القرآن، ولم يسعفهم الحظ أن يتلقوا تعليمهم في مدارس نظامية إلا بعد عام 1970م.
إن الارتباط بالقديم لم يقتصر على اقتفاء النماذج الشعرية عند الفحول، بل تعدَّاه إلى الخلق والابتكار فيها؛ حيث كان الأدب بفروعه وعلومه المتعددة ضرورة لكل من يريد نظم الشعر والإجادة فيه، وكانت متطلبات كتابة الشعر مقرونة بحفظ الأراجيز ونظم الشعر التعليمي، والمعرفة بالنحو والصرف والعروض والبلاغة والتاريخ والأمثال والقصص والأخبار مما أسهم في خلق ذائقة شعرية مكنت الشعراء من الارتباط بالقديم وحافظت على الكيان الشعري قويًّا مزدهراً.
ج- تأثره بمدرسة التجديد
في الشعر العربي:
تظهر بعض قصائد المعجم تأثر جيل الوسط من الشعراء العُمانيين بمدارس التجديد التي تأتي مدرسة البعث والإحياء في مقدمتها، فقصائد شوقي وحافظ والبارودي والرصافي والزهاوي، والجواهري وعمر أبو ريشه والشابي والأخطل الصغير ونزار قباني وغيرهم تلقي بظلالها على قصائد أبي سلام، وهلال بن بدر وعبدالله الخليلي وعبدالله الطائي وهلال السيابي ومحمد رضا المسقطي وأحمد بن عبدالله الحارثي وغيرهم. فهؤلاء الشعراء قد تجاوزوا مرحلة الانعتاق التقليدي وصرامته؛ لأن أغلبهم قد تلقى العلم في مدارس تقليدية شبه منفتحة، وكانت تصلهم مصادر الشعر العربي من كل مكان، مما أتاح لهم فرصة التفاعل معها بحفظها وتشطيرها وتخميسها وقراءتها بالطريقة العمانية (طريقة إنشاد الشعر). ولعل سبب هذا الإعجاب يعود إلى امتلاء هذه القصائد بالمضامين القومية التي تتوق إلى الاستنهاض والثورة، والوحدة ولم الشمل، وإجلال اللغة وتقديس الدين، وحب التاريخ، والحلم بالحرية. وهذه المواضيع أخذوا يتأثرون بها؛ لكونها تعالج مضامين واقعهم، وتلامس أذواقهم، وتثير مشاعر لواعج العروبة والإسلام فيهم، كما أنها ترسّخ الرصانة الشعرية والإجادة اللغوية والبيان الجميل في تجاربهم .
د-: تنوع شخصيات شعرائه:
إلى جانب نزعتي التقليد والتجديد المتداخلة مع المؤثرات العامة في التجربة يتضح لنا تنوّع شخصية الشعراء تبعا للمؤثرات الواقعية والنفسية، التي قصدنا بها المحيط الخاص بكلِّ شاعر من المنشأ إلى المربى إلى الأسرة إلى الانتماء. وعلى هذا النحو فنحن نجّمل هذا التنوع في شخصية شعراء المعجم كما يلي:
أولا: الشاعر القاضي: وهو من ارتبطت شخصيته بمهنة القضاء الشرعي؛ وتنقل على إثرها بين المحاكم المختلفة في سائر مناطق السلطنة، ووضحت في شعره أحكام القضاء وأشكال الخصومة والتقاضي وثيمات العدل، وبدا في شعره حازماً صارماً لا يلين ولا يتضعضع أي لا يفسح لعاطفته الظهور المطلق.
ثانيا: الشاعر الفقيه: وهو الذي عرف طيلة حياته بالضلوع في التعليم الديني، والمعرفة بأحكام الدين، وأوكلت إليه مهام الفتوى والاجتهاد والتحقيق. وعادة ما يكون هذا الفقيه صاحب مؤلفات، ومنظومات في الفقه والسير والآداب.
ثالثا: الشاعر المؤرخ: هو الذي ألـّـف في علم التاريخ، وعرف مؤرخا أكثر منه شاعرا. ويغلب على شعره اتجاه الرصد والتوثيق وتدوين الأحداث.
رابعا: الشاعر المعلم: هو الذي امتهن التعليم بفرعيه التقليدي والنظامي، وتخرجت عليه أجيال كثيرة تدين له بفضل ريادة الاكتشاف. وأكثر قصائده تكون في نزعة الشعر التعليمي.
خامسا شاعر البلاط: وهو الذي يسود في شعره غرض المدح السياسي لدرجة أصبح لا يعرف إلا بولائه المطلق لبلاط السلطنة أو «لبرزات» الإمامة.
سادسا: الشاعر الثائر؛ وهو الذي ارتبطت شخصيته بالثورة والاستنهاض، فكثرت في شعره الدعوة إلى النضال والمطالبة بالتغيير والسعي إلى الإصلاح وأغلب قصائده تنحو منحى التنديد والوعيد ونجد في شعره رفع سقف الخطاب والهتافات الثورية.
سابعا: الشاعر المثقف؛ وهو الذي تظهر قصائده ثقافة موسوعية تتصل بكافة مجالات المعرفة الإنسانية، ويقوم بتوظيفها في شعره فيما يعرف اصطلاحا «بالتناص». وأغلب هذا النمط من الشعراء يكثر لدى الجيل الجديد ممن يكتبون القصيدة « الجديدة »، أو يوّظفون مفردات التاريخ والدين والأعلام رامزين بها إلى معان أكثر بعدا من معناها الأصلي.
ثامنا شاعر القبيلة: وهو الذي حصر شعره في الفخر القبلي وتناول قضايا القبيلة وعاداتها وقيمها وتقاليدها، وفق ايديولوجيتها وسننها، ولم يخرج من دائرتها الضيقة إلا نادرا.
هـ - تباين انتماء شعرائه جغرافيّا:
تظهر المدونة توزع الشعراء داخل السلطنة وخارجها، وليس من باب المصادفة - فيما نحسب - أن يتركز هؤلاء الشعراء على مناطق بعينها، وأن تكون مناطق معينة محتوية على شعراء أكثر من غيرها، فالأمر طبيعي يتعدى الأحكام القيمية ليتصل بأسباب حضارية وأخرى بيئية، وقبل أن نتناول هذه الأسباب نشير إلى أن توزيع الشعراء جغرافيا جاء على النحو الآتي:-
أولا: المناطق التي يكثر فيها الشعراء: وهي: الداخلية (31.5%)، مسقط (21.6) %.
ثانيا- المهاجر العُمانية التي يكثر فيها الشعراء: وأهمها (زنجبار) بنسبة (14.4%) دول الخليج العربي بنسبة (3% ).
ثالثا: المناطق التي يقل فيها عدد الشعراء: وتتمثل في بعض مناطق الساحل العماني: وتصل نسبة الشعراء في هذه المناطق أدنى حد لها؛ فهي لا تتعدى نسبة 1.4 % من شعراء المعجم.
أمّا الأسباب التي تحكم هذه الكثرة وتلك القلة، فإننا نقدّمها استنتاجاً من الجداول السابقة؛ فهي وحدها لم تكن تفجر شعراً، أو تخلق شاعرا لولا مصادفتها نفوساً ذات حساسية مرهفة تتصل وتتفاعل مع أكثر المؤثرات إثارة، كما أنها نسبية، وتختلف من شاعر إلى آخر، وأهم هذه الأسباب ما يلي:
تعتبر المنطقة الداخلية مرتعا خصبا، وبيئة ساعدت على تجمّع الشعراء؛ لأنها بيئة استقرار ساعدت المؤسسات السياسية الحاكمة على إذكائها طوال التاريخ عبر صقل مواهب الشعراء باتخاذ طرق التعليم التقليدي الذي أخلصت له، كما أنها تعدّ من أكثر مناطق السلطنة حيوية، فنزوى عاصمة، ومركز روحي، كما أنها بيئة فقه ودين أكثر صرامة من غيرها، وعندما نقول ذلك فإننا نفرق بين زميلاتها الست، سمائل وبهلا وإزكي وأدم والحمراء وبدبد؛ إذ كان نصيبها من الشعراء أقل منها، ويرجع ذلك إلى كونها كما يقول أحمد بن سليمان الكندي في بحثه المنشور في حصاد ندوة « نزوى عبر التاريخ ط1 ، 2001 ، ، ص 136 : « عاصمة ولا يخفى حال العواصم ، فإن بيئاتها عادة لا تساعد على الهدوء الذي يسمح للقرائح أن تسبح في عالم الخيال، فترسم لوحاتها الفنية، فسكان العواصم غالبا ما يكونون مشغولين بصخب الحياة ومتاعبها، والاهتمام بالنواحي الاقتصادية والسياسية» وقد تكون هذه المدن عرضة لمنغصات الدهر التي تستهدف تدمير ما هو حضاري وفكري، وهذا المناخ - في أحايين كثيرة - لا تنمو فيه الشاعرية بخلاف ما تنمو في المدن المستقرة ذات الطبيعة الخلابة من مثل سمائل التي تعدّ مركزاً مستقراً أكثر انفتاحاً واتصالا وقربا من مسقط العاصمة مصدر التمدن وجذب الشعراء.
أمّا طبيعتها الفاخرة فلها الدور في إلهام الشعراء وصقل مواهبهم، ويكفي أن نستشهد بقول أمير البيان أحد شعرائها واصفاً دور طبيعتها في تنمية موهبته. يقول في مقدمة ديوان وحي العبقرية 1/ 8: « خرجت وبرفقتي عشرون راكبا من خيرة الرجال ...أما مطايانا فكانت من خيرة الإبل.. خرجنا بها نشق الوادي الخصيب من سمائل، وقد تفجّر بينابيع الّري وعقدت الترع منه للبلاد، وكان وسطه مفعما بالماء العذب الذي فضل عن حاجات البلد، وكانت أخفاف الإبل تقدح الحجر تارة وتطيش بالماء تارة أخرى جامعة بذلك بين ضدين لا يعيشان مجتمعين: الماء والنار. ومنذ ذلك اليوم بدا لي أن أقول الشعر وأنا أنظر إلى الماء المنساب، وإلى القسم الآخر المتحجر في صحون الأودية، وقد انعكست به زرقة السماء وخضرة الشجر ولكني كنت مبتدئا ولا أملك الكافي من الآلة لهذه الصناعة .....»
و- ظهور الأسرة
الشعرية فيه:
يتبيـّن لنا من خلال مدونة الشعر أن 194 شاعراً يشكـّـلون نسبة33.9 % يرتبطون بأسر يتسلسل فيها الشعر أباً عن جد، وأحياناً يصل التسلسل إلى أربعة أجيال متتالية دون انقطاع، وعندما نقول بتسلسل الشعر لا نؤمن قطعاً بفكرة وراثته، وإنما نقدّم ظاهرة بدت لنا عندما استقرأنا أسماء الشعراء وأنسابهم، وقصارى ما نقوله فيها أنها عصارة بيئة ثقافية وتعليمية اعتمل تأثيرها على الأجيال المختلفة، إذ لعب التعليم التقليدي دورا كبيراً في إذكائها، خاصة عندما يكون الجد أو الأب معلما فيطلب من أبنائه أو أحفاده أن ينظموا له سؤالا في الفقه أو تقريظا لكتاب أو تأريخا لمناسبة، وكل ذلك تنمية لمواهبهم الشعرية وتدريبا لهم على نظم الخطاب.
وتتبدى هذه الظاهرة في شكلين من العلاقة هما:
أ - العلاقات الأسرية المباشرة:
وهي التي يرتبط الشعراء فيها عبر الأجيال الثلاثة بعلاقات أسرية متواترة تبدأ من الجد فالأب فالأبناء فالأحفاد. ويكون الشعر متواصلا مع هذه الحلقات دون انقطاع.
ب- العلاقات الأسرية غير المباشرة:
وهي التي تنبتر فيها بعض الحلقات الأسرية، فينقطع الشعر عن جيل لفترة قصيرة، لكنه سرعان ما يعود في الجيل الذي يليه، وقد تحوّلت العلاقة بينهما من الأبوة والبنوة إلى الأخوة أو الخؤولة أو قرابة أبناء العم وأبناء الخال أو الجد من الأم ومن ذلك من العلاقات الأسرية.
ح- كثرة هجرة الشعراء:
تظهر لنا مدونة المعجم ظاهرة هجرة الشعراء العُمانيين على أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الهجرة الدائمة: وهي التي تمت إلى شرق أفريقيا في بداية القرن العشرين وجذورها تمتد إلى القرن الأول الميلادي، وكانت بدوافع حضارية، وقد بلغ الشعراء الذين عاشوا في المهاجر الأفريقية 39 شاعراً أغلبهم من شعراء الجيلين الأول والوسط.
النوع الثاني: الهجرة شبه الدائمة: وهي على نمطين: الأولى داخلية بين مدن عُمان المختلفة ولاسيّما العواصم والمراكز الإدارية، واحتوت نزوى على 75% من هجرة شعراء الجيلين الأول والوسط، بينما استقطبت مسقط نسبة 62% من شعراء الجيل الجديد.
والثانية خارجية: وهي التي جرت بين سلطنة عُمان ودول الخليج العربي المجاورة؛ وقد فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية وأشهر من قام بها في بعض مراحل حيواتهم: عبد الله الطائي، والشيبة السالمي ’ ومحمد بن سعيد المخلدي، وحمد بن عيسى الطائي وحمد بن مبارك المعشري وعباس العصفور، ومحمد رضا المسقطي على سبيل المثال لا الحصر.
النوع الثالث: الهجرة المؤقتة: وهي التي كانت إما بشكل قسري كما هي حال الشاعرين عيسى بن صالح الطيواني، وأبي سلام الكندي - اللذيّن نفاهما الإنجليز إلى الهند، أو عن رغبة وطواعية كالهجرات التي تمت إلى مصر والمغرب عام 1992، وقام بها بصورة جماعية عدد من شعراء الجيل الجديد ثم عادوا بعد حين.
ط- تفاوت حجم قصائده
بين الطول والقصر:
لقد أفضى بنا النظر في معجم الشعراء العُمانيين إلى الوقوف على ظاهرة تفاوت حجم القصائد وتباينها بين الطول والقصر، وعندما نقدّم هذه الظاهرة فإننا نؤكد على وجودها في الشعر العربي قديما وحديثا؛ فقد أشار إليها ابن رشيق في العمدة 1/ 162 نقلا عن الخليل بن أحمد الفراهيدي حين قال: يطول الكلام ويكثر ويوجز ويختصر ليحفظ ، وعلى ذلك ففي مقدور الشعراء إتيان أي نوع منهما، فمن قدر على القصائد الطوال فهو قادر بلا ريب على المقطعات، والحال نفسها تنطبق على الأبيات، فمن استطاع نظم الأبيات القليلة مع إبداع وتميز، فهو مستطيع الأبيات الكثيرة، فالشاعر إذا قطع ورجّز فهو الكامل على حد قول ابن رشيق في كتابه العمدة 1/ 164.
إن هذه الظاهرة تتضح لنا بجلاء حين نعود إلى ملاحق المعجم لنكتشف أن قرابة سدس عدد القصائد (أي أكثر من سبعمائة وخمس وسبعين قصيدة) يبلغ متوسط أبياتها أكثر من ستين بيتا، والباقي يتراوح عددها بين عشرين بيتا وخمسة أبيات، فما أسباب هذا التباين؟
إننا أمام عدة تفسيرات لها، بعضها يعود إلى طبيعة التجارب نفسها والبعض الآخر يعود إلى طبيعة مصادر الشعر وكثير منها ترجع إلى طبيعة الشعراء أنفسهم.
فمدونة المعجم الرئيسة زمانها قرن كامل، وطبيعي أن يكون فيها هذا التفاوت خاصة أنها تضم قرابة مائتي شاعر. أمـّا طبيعة مصادر الشعر فكما عرفنا سلفا؛ بأننا جمعنا هذا الشعر من مصادر مختلفة أهمها كتب التاريخ والفقه والتراجم والسير ومن مصادر أخرى شفوية، ومن الطبيعي أن يكون أصحاب هذه المصادر قد قصـّروا واختصروا وأحيانا أطالوا هذه القصائد تبعاً لحاجة مؤلفاتهم المختصة وطبائعهم النفسية.
إن اتهامنا أصحاب هذه المصادر ببخس الشعراء حقوقهم وغض الطرف عن أشعارهم الكثيرة لا يعني أبدا أننا نقصد القول: إن كل مقطوعة من الشعر العُماني هي في الأصل قصيدة مطولة شذبّت وبترت، فلعل الكثير منه جاء فعلا أبياتا قليلة؛ لأن أصحابه في الأساس مُقـِـلّون، أو لأن مقامات القول والإنشاد كانت تدعو إلى التقصير لا إلى التطويل؛ فالتقصير أولج في المسامع وأجود في المحافل « على حد قول ابن رشيق في العمدة 1/ 162.
أمـّا ما يعود إلى طبيعة الشعراء، فمرده إلى أن الواحد منهم قد يوجز ويقصر في غرض بعينه ويطيل ويسهب في غرض آخر، ولم نر شاعرا قط ضبط عدد أبيات قصيدته قبل نظمها، وإنما طبيعة المضمون الشعري، وحضور البديهة عند أكثرهم أسباب للإطالة والتقصير.
إن وجود هذه الظاهرة في معجم الشعر العماني لا يعني كونها مختصة في غرض بعينه، فمن غير الجائز أن نعتبر أغراضا بعينها لا تصلح فيها إلا المقطوعات وأخرى لا تصلح فيها إلا المطولات، وإذا أكدنا ذلك فإننا ننفي ارتباط الظاهرة بالغرض. ونحن إذ نقدّمها هنا، فإنما نقدّم ظاهرة شكلية بدت لنا معالمها في مدونة دراستنا، وأمثلتها كثيرة؛ فمنها مطولات الشعراء الفقهاء والقضاة والمؤرخين الذين ينظمون قصائد الأدعية والتوسّليات والإلهيات، ووصف الرحلات والأراجيز التي يصل عدد أبياتها آلاف الأبيات.
وفيما يتعلق بالمقطوعات، فنماذجها كثيرة أيضاً؛ نلتقى ببعضها في شعر النقوش، وشعر الأحاجي والألغاز، وشعر الإخوانيات والشعر التعليمي، والتأريخ بالشعر والتقاريظ، وبعض قصائد الهجاء والعتاب التي غالبا ما تكون مخمسّة. أمّا كتّابها فهم من جيلي الوسط والجديد.
ي- وضوح ثنائية/ ازدواجية التعبير الشعري فيه:
تعتبر ازدواجية التعبير الشعري محصلة حتمية ونتيجة فعلية للنقلة الحضارية التي عاشها الشعراء في المجتمع الجديد (مرحلة النهضة الحديثة) وما ترتب عليها من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية أسهمت في خلق ظروف نفسية أخذت تؤثر في طبيعة الشعراء، ونجم عنها أن الجيل القديم أتيح له أن يعيش المرحلة الحديثة دون أن يكون قد كـيـّف نفسه لتقبلها بطريقة طبيعية، ومن ثم لابدّ له أن يظل وفيا لتقاليده التي ظلت تعيش في أعماقه، وتفرض عليه قوتها، حتى وهو يمارس الحياة الجديدة في أشكالها المتطورة. من هنا فإننا نلاحظ أن الجيل القديم من الشعراء عاش جنبا إلى جنب مع الجيل الجديد ويكتب النمطين معاً دون مواربة. ولعل أقرب مثال على ذلك الشاعر عبدالله الخليلي الذي ساير جمهور الشعراء بديوانه « على ركاب الجمهور» بعد أن كان مخلصاً لأسلافه الشعراء زهاء سبعين عاماً.
ك- بروز ظاهرة إنشاد بعض قصائده دون سابق روية:
توحي ظاهرة إنشاد الشعر في جوهرها العميق بأن الشعراء العُمانيين جرّبوا أصعب أنواع الشعر صنعاً؛ وهو الشعر الذي « يكون انهمارا وتدفقا، ولا يتوقف فيه قائله متعللا بقافية ولا بحر « على نحو ما يقول- ابن رشيق: العمدة 1 / 167، فالشاعر بحضور بديهته وقوة طبعه وغزارة مادته لا تغرب عنه الكلمات، ولا تعوزه الأوزان والقوافي فيطفق منشداً دون تحضير مسبق.
ولقد بيـّـنت مدونة المعجم بعض شعرائها وقد نظم الواحد منهم البيت تلوى الآخر، والمقطوعة تلوى الأخرى دون انقطاع، تحدوهم في ذلك خاصية الارتجال، وأمثلتها تظهر عند أبي سلام وسيف بن سالم المسكري وأبي الصوفي، وهلال بن بدر؛ وشاعر الشرق، ومحمد بن سيف السعدي حينما كانوا ينشدون في المناسبات الاجتماعية والسياسية والوجدانية.
ورغم شيوع هذه الظاهرة عند الأجيال الثلاثة من شعراء المعجم؛ فهي بالتأكيد متباينة الجودة والقيمة، ولا تهمنا كثيراً وسائل الشعراء فيها، بقدر ما يهمنا عبقرية الشعراء وموهبتهم في الخلق والإبداع والابتكار ومعرفة طرائق التعبير ومدى أخذهم بسنن الأقدمين، وإسهامهم في تطور الأدب العربي.
كما إننا لم نعد الأبيات المفردة التي استشهد بها أصحاب المختارات وكتب التراجم والسير شعرا منسجما مع هذه الظاهرة؛ لأنه مقتطف من قصائد مطوّلة، واقتصرنا على الشعر الذي ثبت لنا أنه ممثل لها، وذلك بشهادة الرواة والقراء والشعراء الذين التقينا بهم، وأحيانا اعتمدنا على الأخبار والسير والنوادر التي أوردتها كتب التاريخ عنهم.
ل- كثرة نماذج شعر النزعات الفنية إثباتاً للبراعة في النظم، وأمثلتها تقودنا إلى سطوع بعض النزعات الفنية من مثل الشعر المشجـّر، أو الشعر المحتوي على أبيات ترتد أعجازها على صدورها، والشعر المنتهي في قافيته بكلمة واحدة، ونشير هنا إلى الشعر الذي تكون حروفه غير منقوطة وكذلك إلى الشعر الذي تأتى أبياته مترتبة على نسق الحروف الهجائية، وأيضا الشعر المنظوم بلغة عربية وسواحلية معاً، ولا شك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى حالة من الصنعة والتكلف والضعف، وتغييب الفن الشعري على حساب المعنى أو الموضوع.
م - كثرة القصائد المنسوبة والدخيلة:
نقصد بالقصائد المنسوبة تلك التي نسبت إلى أصحاب الدواوين وهي ليست لهم، وقد تمّ ذلك بشكل عفوي بفعل تضارب الرواية الشفوية التي تداخل فيها الشعر مع مثيله، وأسبابها نلخصها في العوامل التالية:
- أخطاء الرواة، والمحققين والنّساخ وجامعي الشعر، ونجد ذلك كثيراً في الدفاتر والمجاميع.
- طبيعة الشعر التعليمي الذي يستلزم وضع قصيدة السؤال التعليمي بجانب قصيدة الجواب الذي يكون أحياناً من نظم شاعر آخر.
- طبيعة شعر المباسطات الذي يأتي أحيانا سؤاله مصحوباً بردّه دون الإشارة إلى قائله مما يحدث خطأ في النسبة.
- طبيعة بعض قصائد شعر الهجاء الذي يكون المحقق فيها محّملا بوهج رد المهجو، فيضعه بجانب قصيدة الهجاء مما يخلق حالة من الالتباس وسوء التقدير.
ن- كثرة المنظومات الشعرية:
تكشف لنا مدونة المعجم عن كثرة المنظومات الشعرية؛ إذ يبلغ ما جمعناه فيها 256 منظومة مختلفة في الطول والقصر. وتكثر هذه المنظومات عند أغلب شعراء الجيلين الأول والوسط؛ ومردها في اعتقادنا إلى النظام التعليمي قبل عام 1970؛ فقد كانت المراكز التعليمية تولي عنايتها بالشعر فنشأ في أحضانها رواته وحفاظه، وارتبط قول الشعر بطلاب المساجد والجوامع يتنافسون في نظمه وإنشاده، بصرف النظر عن الموهبة والإجادة، ولعله كان في نظرهم علامة فارقة على التفوق في درجات العلوم والثقافة. واصطبغ بنوعية الثقافة التي كانت تزاول في هذه المراكز؛ وهي ثقافة تدور في فلك العلوم الشرعية واللغوية والبلاغية، حيث راح العلماء يتبارون في طول نفسها، واشتهر غير واحد منهم بمنظومة عرف بها تتصدر ترجمته في كل كتاب وهو ما يمكن أن نعتبره امتدادا للمفهوم الذي ساد عصر الضعف مما لا يعد من الشعر بأي حال من الأحوال. ولم يقتصر هذا الضعف على جانب المضمون، وإنما شمل جانب الشكل، فقد أدى تأثر بعض الشعراء بالثقافة التقليدية إلى تجريد الشعر من كل الملامح الجمالية، ولم يبق له من عناصر القصيدة غير أجراس التفعيلة. أمـّا لغته فقد سادتها مصطلحات علوم الآلة والفقه، فقد كانوا يكتبون وهم منغمسون فيها، غير مفرقين بينها وبين لغة الشعر.
ويمكن أن نضيف إلى عوامل هذه الكثرة قصر نظرة بعض فئات الشعر إلى شعرهم؛ إذ كان الشعر في تقدير بعضهم من لهو الحديث الذي يلهي عن ذكر الله وأن العلم الصحيح هو علم الشريعة وحده. ومن ثم نشأت في المقابل ظاهرة كثرة المنظومات الدينية التي تتخذ لوناً واحدا هو المدائح الدينية والتغني بمآثر العلماء، والتوسل بأسماء الله الحسنى إضافة إلى الموضوعات التي لا تخرج عن نطاق شعر السلوك، وهذه في تقديرنا وإن وجدت فقليلة.
*- نشير إلى أن هذا المبحث مستلٌ بالتصرف من مدونة المعجم الموسّعة وبالتالي جميع احالاتها التوثيقية وهوامشها توجد فيها، وقد عمدنا أحيانا إلى بعض المقايسات المنهجية واستفدنا من بعض المباحث المشابهة ومن بينها كتاب الدكتور محمد ناصر: الشعر الجزائري الحديث، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني وغيرهما.
وعبر القراءة الأولية لمدونة المعجم الكلية تبدّت لنا نتائج أولية نحسبها مهمة لتكوين خريطة فهم كلية لهذا الشعر ترتكز على ثوابت لا تبعدها كثيرا عن الشعر العربي، ومن هذه النتائج ما يلي:
أ - ارتكازه على ثوابت الثقافة
التقليدية المحافظة:
ارتكز الشعر العُماني على ثوابت الثقافة التقليدية، وقد ارتبطت هذه الثقافة بالتعليم بدءًا من أوائل القرن العشرين حتى قبله، فقد كانت مراكز التعليم متصلة بالوسط الديني؛ فالمساجد و(السبل) والمدارس تعتمد على تدريس القرآن مادة أساسية، وإذا هي تعدّتـه قليلا فهي لم تتعد المواد المستمدة منه كالفقه والبلاغة والنحو، وكان المنهج الذي تدرّس به هذه المواد يعتمد على الحفظ والتسميع والترديد.
إن هذا المنهج وتلك المواد كانا من العوامل التي أدّت بالشعراء الدارسين في هذه المدارس إلى « صدور رؤيتهم للشعر عن هذه الثقافة السلفية المحافظة التي قلّ فيها الاهتمام بالأداء الفني للشعر «مقابل الإحاطة النظمية واتخاذ الشعر خطاب حياة ووسيلة تعليم وتوثيق على نحو ما يقول الدكتور محمد ناصر في كتاب الشعر الجزائري الحديث ص 40.
وإذا كانت هذه النظرة قد أحكمت سيطرتها على الشعراء في ظل فهمهم للشعر، فإنهم وجدوا في شعر المطارحات والمعارضات والإخوانيات والتقاريظ والأسئلة التعليمية وسائر النزعات الفنية وأشكال هندسة النص منهجاً جديداً وأسلوباً يوسّع دائرة اهتماماتهم، ويتيحُ لهم ضرباً من الخروج عن محيط المواد التقليدية، وتصبح المسألة في حسبانهم نوعاً من التجديد منطلقين من حقيقة أن الشعر خطاب حياة.
بيد أن هذا الخروج لم يقتصر في بعده الفني على هذا الحد؛ فقد اضطر الشعراء إلى الخروج من وطنهم إلى أوطان بعيدة تمثلت في زنجبار وبعض مناطق الخليج، فوجدوا في هذين المهجرين متنفساً دفعهم إلى مغايرة ما كان سائدا لديهم ونجم عن ذلك أشكال جديدة وملامح تجديدية توسعت مداركها في فترة الربع الأخير من القلان العشرين وما بعدها.
ومع أن ذلك الخروج المكاني كان واضحًا إلا أن شدة التأثر به لم تكن كبيرة، رغم أن زنجبار كانت تعجُّ بالأفكار الإصلاحية، وكانت أصداء الثقافة الجديدة تجد نقاشاً ومتابعة من قبل المثقفين عبر الصحافة والجمعيات والمدارس بل حتى المسارح وأندية الفنون، ويرجع ذلك إلى أن طبيعة مواد التعليم في هذا المهجر لم تكن تختلف عن الطبيعة السائدة في عُمان، ولذا صَدَرَ الشعراء عن منبعٍ واحد رغم تباين المكان وتفاوت الجغرافيا والناس، وكانت وسائل تعبيرهم التي أقاموا عليها تجربتهم الشعرية تنحو منحى الإصلاح الذي اتخذ شعار العودة إلى الماضي انطلاقا من معطيات النص القرآني الكريم والسنة النبوية الشريفة.
إن هذه الثقافة التي سادت الشعر في عُمان لاسيّما عند الجيل الأول لا تختلف بأي حال من الأحوال عن الثقافة الماثلة التي عمـّت البلاد العربية جميعها، «واتخذت من المحافظة أسلوباً، ومن العودة إلى الدين منهجاً، وكان شعارها لا يصلح آخر هذه الحياة إلا بما صلح به أولها» على نحو ما نجد في سائر الأشعار العربية التي نمثل بها بما أورده الدكتور محمد ناصر في كتابه السابق، ص45 عن الشعر الجزائري.
لقد تركت الثقافة التقليدية بصماتها في أساليب الكتابة الشعرية، فقد طبعتها بطابع القوة والجزالة، وأصبحت النصوص الدينية مصدرا مهما من مصادر التجربة الشعرية وظهرت على أنماط متعددة من التناصات والتعالقات الفنية في بنية القصائد.
ب- انغراسه في تربة الأدب
القديم، واستيحاؤه قلبا وقالبا
يوازي الشعراء العُمانيون أقرانهم الشعراء العرب في عنايتهم بالأدب القديم، ونعني به هنا شعر المراحل والعصور التاريخية المعروفة جاهليًّا وإسلاميًّا وأمويّا وعباسيًّا، وكان تأثرهم به تلبية لدواع اجتماعية وأخرى دينية وثالثة ذوقية، وكان الأدب العربي من أكثر المصادر التي وضعت بصمتها في الشعر العماني شأنه طبعاً بنظائر في الأقطار الأخرى، فساعدته على الازدهار وأشاعت في ثناياه عددا من الرؤى الطريفة والصور المستحدثة، ومغزى هذا التأثر يكمن في أمرين:
الأول: اهتمام الشعراء بكل ما يمتُ إلى التراث الأصيل بصلة؛ فهم يرون أن الشعر لا يتطور إلا بتطور لغته، ومن ثم فمنبع هذا التطور هو الشعر العربي القديم ممثلا في نصوص المعلقات وأمثالها.
الثاني: حالة العزلة الثقافية التي عاشها الشعراء العُمانيون في بعض مراحلهم جعلتهم يقصرون أنظارهم على الأدب القديم، فجاء إنتاجهم متأثرا إلى أبعد الحدود بالمصدر الذي استقوا منه إبداعهم؛ فأغلب الشعراء درسوا في الجوامع والمساجد ومدارس القرآن، ولم يسعفهم الحظ أن يتلقوا تعليمهم في مدارس نظامية إلا بعد عام 1970م.
إن الارتباط بالقديم لم يقتصر على اقتفاء النماذج الشعرية عند الفحول، بل تعدَّاه إلى الخلق والابتكار فيها؛ حيث كان الأدب بفروعه وعلومه المتعددة ضرورة لكل من يريد نظم الشعر والإجادة فيه، وكانت متطلبات كتابة الشعر مقرونة بحفظ الأراجيز ونظم الشعر التعليمي، والمعرفة بالنحو والصرف والعروض والبلاغة والتاريخ والأمثال والقصص والأخبار مما أسهم في خلق ذائقة شعرية مكنت الشعراء من الارتباط بالقديم وحافظت على الكيان الشعري قويًّا مزدهراً.
ج- تأثره بمدرسة التجديد
في الشعر العربي:
تظهر بعض قصائد المعجم تأثر جيل الوسط من الشعراء العُمانيين بمدارس التجديد التي تأتي مدرسة البعث والإحياء في مقدمتها، فقصائد شوقي وحافظ والبارودي والرصافي والزهاوي، والجواهري وعمر أبو ريشه والشابي والأخطل الصغير ونزار قباني وغيرهم تلقي بظلالها على قصائد أبي سلام، وهلال بن بدر وعبدالله الخليلي وعبدالله الطائي وهلال السيابي ومحمد رضا المسقطي وأحمد بن عبدالله الحارثي وغيرهم. فهؤلاء الشعراء قد تجاوزوا مرحلة الانعتاق التقليدي وصرامته؛ لأن أغلبهم قد تلقى العلم في مدارس تقليدية شبه منفتحة، وكانت تصلهم مصادر الشعر العربي من كل مكان، مما أتاح لهم فرصة التفاعل معها بحفظها وتشطيرها وتخميسها وقراءتها بالطريقة العمانية (طريقة إنشاد الشعر). ولعل سبب هذا الإعجاب يعود إلى امتلاء هذه القصائد بالمضامين القومية التي تتوق إلى الاستنهاض والثورة، والوحدة ولم الشمل، وإجلال اللغة وتقديس الدين، وحب التاريخ، والحلم بالحرية. وهذه المواضيع أخذوا يتأثرون بها؛ لكونها تعالج مضامين واقعهم، وتلامس أذواقهم، وتثير مشاعر لواعج العروبة والإسلام فيهم، كما أنها ترسّخ الرصانة الشعرية والإجادة اللغوية والبيان الجميل في تجاربهم .
د-: تنوع شخصيات شعرائه:
إلى جانب نزعتي التقليد والتجديد المتداخلة مع المؤثرات العامة في التجربة يتضح لنا تنوّع شخصية الشعراء تبعا للمؤثرات الواقعية والنفسية، التي قصدنا بها المحيط الخاص بكلِّ شاعر من المنشأ إلى المربى إلى الأسرة إلى الانتماء. وعلى هذا النحو فنحن نجّمل هذا التنوع في شخصية شعراء المعجم كما يلي:
أولا: الشاعر القاضي: وهو من ارتبطت شخصيته بمهنة القضاء الشرعي؛ وتنقل على إثرها بين المحاكم المختلفة في سائر مناطق السلطنة، ووضحت في شعره أحكام القضاء وأشكال الخصومة والتقاضي وثيمات العدل، وبدا في شعره حازماً صارماً لا يلين ولا يتضعضع أي لا يفسح لعاطفته الظهور المطلق.
ثانيا: الشاعر الفقيه: وهو الذي عرف طيلة حياته بالضلوع في التعليم الديني، والمعرفة بأحكام الدين، وأوكلت إليه مهام الفتوى والاجتهاد والتحقيق. وعادة ما يكون هذا الفقيه صاحب مؤلفات، ومنظومات في الفقه والسير والآداب.
ثالثا: الشاعر المؤرخ: هو الذي ألـّـف في علم التاريخ، وعرف مؤرخا أكثر منه شاعرا. ويغلب على شعره اتجاه الرصد والتوثيق وتدوين الأحداث.
رابعا: الشاعر المعلم: هو الذي امتهن التعليم بفرعيه التقليدي والنظامي، وتخرجت عليه أجيال كثيرة تدين له بفضل ريادة الاكتشاف. وأكثر قصائده تكون في نزعة الشعر التعليمي.
خامسا شاعر البلاط: وهو الذي يسود في شعره غرض المدح السياسي لدرجة أصبح لا يعرف إلا بولائه المطلق لبلاط السلطنة أو «لبرزات» الإمامة.
سادسا: الشاعر الثائر؛ وهو الذي ارتبطت شخصيته بالثورة والاستنهاض، فكثرت في شعره الدعوة إلى النضال والمطالبة بالتغيير والسعي إلى الإصلاح وأغلب قصائده تنحو منحى التنديد والوعيد ونجد في شعره رفع سقف الخطاب والهتافات الثورية.
سابعا: الشاعر المثقف؛ وهو الذي تظهر قصائده ثقافة موسوعية تتصل بكافة مجالات المعرفة الإنسانية، ويقوم بتوظيفها في شعره فيما يعرف اصطلاحا «بالتناص». وأغلب هذا النمط من الشعراء يكثر لدى الجيل الجديد ممن يكتبون القصيدة « الجديدة »، أو يوّظفون مفردات التاريخ والدين والأعلام رامزين بها إلى معان أكثر بعدا من معناها الأصلي.
ثامنا شاعر القبيلة: وهو الذي حصر شعره في الفخر القبلي وتناول قضايا القبيلة وعاداتها وقيمها وتقاليدها، وفق ايديولوجيتها وسننها، ولم يخرج من دائرتها الضيقة إلا نادرا.
هـ - تباين انتماء شعرائه جغرافيّا:
تظهر المدونة توزع الشعراء داخل السلطنة وخارجها، وليس من باب المصادفة - فيما نحسب - أن يتركز هؤلاء الشعراء على مناطق بعينها، وأن تكون مناطق معينة محتوية على شعراء أكثر من غيرها، فالأمر طبيعي يتعدى الأحكام القيمية ليتصل بأسباب حضارية وأخرى بيئية، وقبل أن نتناول هذه الأسباب نشير إلى أن توزيع الشعراء جغرافيا جاء على النحو الآتي:-
أولا: المناطق التي يكثر فيها الشعراء: وهي: الداخلية (31.5%)، مسقط (21.6) %.
ثانيا- المهاجر العُمانية التي يكثر فيها الشعراء: وأهمها (زنجبار) بنسبة (14.4%) دول الخليج العربي بنسبة (3% ).
ثالثا: المناطق التي يقل فيها عدد الشعراء: وتتمثل في بعض مناطق الساحل العماني: وتصل نسبة الشعراء في هذه المناطق أدنى حد لها؛ فهي لا تتعدى نسبة 1.4 % من شعراء المعجم.
أمّا الأسباب التي تحكم هذه الكثرة وتلك القلة، فإننا نقدّمها استنتاجاً من الجداول السابقة؛ فهي وحدها لم تكن تفجر شعراً، أو تخلق شاعرا لولا مصادفتها نفوساً ذات حساسية مرهفة تتصل وتتفاعل مع أكثر المؤثرات إثارة، كما أنها نسبية، وتختلف من شاعر إلى آخر، وأهم هذه الأسباب ما يلي:
تعتبر المنطقة الداخلية مرتعا خصبا، وبيئة ساعدت على تجمّع الشعراء؛ لأنها بيئة استقرار ساعدت المؤسسات السياسية الحاكمة على إذكائها طوال التاريخ عبر صقل مواهب الشعراء باتخاذ طرق التعليم التقليدي الذي أخلصت له، كما أنها تعدّ من أكثر مناطق السلطنة حيوية، فنزوى عاصمة، ومركز روحي، كما أنها بيئة فقه ودين أكثر صرامة من غيرها، وعندما نقول ذلك فإننا نفرق بين زميلاتها الست، سمائل وبهلا وإزكي وأدم والحمراء وبدبد؛ إذ كان نصيبها من الشعراء أقل منها، ويرجع ذلك إلى كونها كما يقول أحمد بن سليمان الكندي في بحثه المنشور في حصاد ندوة « نزوى عبر التاريخ ط1 ، 2001 ، ، ص 136 : « عاصمة ولا يخفى حال العواصم ، فإن بيئاتها عادة لا تساعد على الهدوء الذي يسمح للقرائح أن تسبح في عالم الخيال، فترسم لوحاتها الفنية، فسكان العواصم غالبا ما يكونون مشغولين بصخب الحياة ومتاعبها، والاهتمام بالنواحي الاقتصادية والسياسية» وقد تكون هذه المدن عرضة لمنغصات الدهر التي تستهدف تدمير ما هو حضاري وفكري، وهذا المناخ - في أحايين كثيرة - لا تنمو فيه الشاعرية بخلاف ما تنمو في المدن المستقرة ذات الطبيعة الخلابة من مثل سمائل التي تعدّ مركزاً مستقراً أكثر انفتاحاً واتصالا وقربا من مسقط العاصمة مصدر التمدن وجذب الشعراء.
أمّا طبيعتها الفاخرة فلها الدور في إلهام الشعراء وصقل مواهبهم، ويكفي أن نستشهد بقول أمير البيان أحد شعرائها واصفاً دور طبيعتها في تنمية موهبته. يقول في مقدمة ديوان وحي العبقرية 1/ 8: « خرجت وبرفقتي عشرون راكبا من خيرة الرجال ...أما مطايانا فكانت من خيرة الإبل.. خرجنا بها نشق الوادي الخصيب من سمائل، وقد تفجّر بينابيع الّري وعقدت الترع منه للبلاد، وكان وسطه مفعما بالماء العذب الذي فضل عن حاجات البلد، وكانت أخفاف الإبل تقدح الحجر تارة وتطيش بالماء تارة أخرى جامعة بذلك بين ضدين لا يعيشان مجتمعين: الماء والنار. ومنذ ذلك اليوم بدا لي أن أقول الشعر وأنا أنظر إلى الماء المنساب، وإلى القسم الآخر المتحجر في صحون الأودية، وقد انعكست به زرقة السماء وخضرة الشجر ولكني كنت مبتدئا ولا أملك الكافي من الآلة لهذه الصناعة .....»
و- ظهور الأسرة
الشعرية فيه:
يتبيـّن لنا من خلال مدونة الشعر أن 194 شاعراً يشكـّـلون نسبة33.9 % يرتبطون بأسر يتسلسل فيها الشعر أباً عن جد، وأحياناً يصل التسلسل إلى أربعة أجيال متتالية دون انقطاع، وعندما نقول بتسلسل الشعر لا نؤمن قطعاً بفكرة وراثته، وإنما نقدّم ظاهرة بدت لنا عندما استقرأنا أسماء الشعراء وأنسابهم، وقصارى ما نقوله فيها أنها عصارة بيئة ثقافية وتعليمية اعتمل تأثيرها على الأجيال المختلفة، إذ لعب التعليم التقليدي دورا كبيراً في إذكائها، خاصة عندما يكون الجد أو الأب معلما فيطلب من أبنائه أو أحفاده أن ينظموا له سؤالا في الفقه أو تقريظا لكتاب أو تأريخا لمناسبة، وكل ذلك تنمية لمواهبهم الشعرية وتدريبا لهم على نظم الخطاب.
وتتبدى هذه الظاهرة في شكلين من العلاقة هما:
أ - العلاقات الأسرية المباشرة:
وهي التي يرتبط الشعراء فيها عبر الأجيال الثلاثة بعلاقات أسرية متواترة تبدأ من الجد فالأب فالأبناء فالأحفاد. ويكون الشعر متواصلا مع هذه الحلقات دون انقطاع.
ب- العلاقات الأسرية غير المباشرة:
وهي التي تنبتر فيها بعض الحلقات الأسرية، فينقطع الشعر عن جيل لفترة قصيرة، لكنه سرعان ما يعود في الجيل الذي يليه، وقد تحوّلت العلاقة بينهما من الأبوة والبنوة إلى الأخوة أو الخؤولة أو قرابة أبناء العم وأبناء الخال أو الجد من الأم ومن ذلك من العلاقات الأسرية.
ح- كثرة هجرة الشعراء:
تظهر لنا مدونة المعجم ظاهرة هجرة الشعراء العُمانيين على أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الهجرة الدائمة: وهي التي تمت إلى شرق أفريقيا في بداية القرن العشرين وجذورها تمتد إلى القرن الأول الميلادي، وكانت بدوافع حضارية، وقد بلغ الشعراء الذين عاشوا في المهاجر الأفريقية 39 شاعراً أغلبهم من شعراء الجيلين الأول والوسط.
النوع الثاني: الهجرة شبه الدائمة: وهي على نمطين: الأولى داخلية بين مدن عُمان المختلفة ولاسيّما العواصم والمراكز الإدارية، واحتوت نزوى على 75% من هجرة شعراء الجيلين الأول والوسط، بينما استقطبت مسقط نسبة 62% من شعراء الجيل الجديد.
والثانية خارجية: وهي التي جرت بين سلطنة عُمان ودول الخليج العربي المجاورة؛ وقد فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية وأشهر من قام بها في بعض مراحل حيواتهم: عبد الله الطائي، والشيبة السالمي ’ ومحمد بن سعيد المخلدي، وحمد بن عيسى الطائي وحمد بن مبارك المعشري وعباس العصفور، ومحمد رضا المسقطي على سبيل المثال لا الحصر.
النوع الثالث: الهجرة المؤقتة: وهي التي كانت إما بشكل قسري كما هي حال الشاعرين عيسى بن صالح الطيواني، وأبي سلام الكندي - اللذيّن نفاهما الإنجليز إلى الهند، أو عن رغبة وطواعية كالهجرات التي تمت إلى مصر والمغرب عام 1992، وقام بها بصورة جماعية عدد من شعراء الجيل الجديد ثم عادوا بعد حين.
ط- تفاوت حجم قصائده
بين الطول والقصر:
لقد أفضى بنا النظر في معجم الشعراء العُمانيين إلى الوقوف على ظاهرة تفاوت حجم القصائد وتباينها بين الطول والقصر، وعندما نقدّم هذه الظاهرة فإننا نؤكد على وجودها في الشعر العربي قديما وحديثا؛ فقد أشار إليها ابن رشيق في العمدة 1/ 162 نقلا عن الخليل بن أحمد الفراهيدي حين قال: يطول الكلام ويكثر ويوجز ويختصر ليحفظ ، وعلى ذلك ففي مقدور الشعراء إتيان أي نوع منهما، فمن قدر على القصائد الطوال فهو قادر بلا ريب على المقطعات، والحال نفسها تنطبق على الأبيات، فمن استطاع نظم الأبيات القليلة مع إبداع وتميز، فهو مستطيع الأبيات الكثيرة، فالشاعر إذا قطع ورجّز فهو الكامل على حد قول ابن رشيق في كتابه العمدة 1/ 164.
إن هذه الظاهرة تتضح لنا بجلاء حين نعود إلى ملاحق المعجم لنكتشف أن قرابة سدس عدد القصائد (أي أكثر من سبعمائة وخمس وسبعين قصيدة) يبلغ متوسط أبياتها أكثر من ستين بيتا، والباقي يتراوح عددها بين عشرين بيتا وخمسة أبيات، فما أسباب هذا التباين؟
إننا أمام عدة تفسيرات لها، بعضها يعود إلى طبيعة التجارب نفسها والبعض الآخر يعود إلى طبيعة مصادر الشعر وكثير منها ترجع إلى طبيعة الشعراء أنفسهم.
فمدونة المعجم الرئيسة زمانها قرن كامل، وطبيعي أن يكون فيها هذا التفاوت خاصة أنها تضم قرابة مائتي شاعر. أمـّا طبيعة مصادر الشعر فكما عرفنا سلفا؛ بأننا جمعنا هذا الشعر من مصادر مختلفة أهمها كتب التاريخ والفقه والتراجم والسير ومن مصادر أخرى شفوية، ومن الطبيعي أن يكون أصحاب هذه المصادر قد قصـّروا واختصروا وأحيانا أطالوا هذه القصائد تبعاً لحاجة مؤلفاتهم المختصة وطبائعهم النفسية.
إن اتهامنا أصحاب هذه المصادر ببخس الشعراء حقوقهم وغض الطرف عن أشعارهم الكثيرة لا يعني أبدا أننا نقصد القول: إن كل مقطوعة من الشعر العُماني هي في الأصل قصيدة مطولة شذبّت وبترت، فلعل الكثير منه جاء فعلا أبياتا قليلة؛ لأن أصحابه في الأساس مُقـِـلّون، أو لأن مقامات القول والإنشاد كانت تدعو إلى التقصير لا إلى التطويل؛ فالتقصير أولج في المسامع وأجود في المحافل « على حد قول ابن رشيق في العمدة 1/ 162.
أمـّا ما يعود إلى طبيعة الشعراء، فمرده إلى أن الواحد منهم قد يوجز ويقصر في غرض بعينه ويطيل ويسهب في غرض آخر، ولم نر شاعرا قط ضبط عدد أبيات قصيدته قبل نظمها، وإنما طبيعة المضمون الشعري، وحضور البديهة عند أكثرهم أسباب للإطالة والتقصير.
إن وجود هذه الظاهرة في معجم الشعر العماني لا يعني كونها مختصة في غرض بعينه، فمن غير الجائز أن نعتبر أغراضا بعينها لا تصلح فيها إلا المقطوعات وأخرى لا تصلح فيها إلا المطولات، وإذا أكدنا ذلك فإننا ننفي ارتباط الظاهرة بالغرض. ونحن إذ نقدّمها هنا، فإنما نقدّم ظاهرة شكلية بدت لنا معالمها في مدونة دراستنا، وأمثلتها كثيرة؛ فمنها مطولات الشعراء الفقهاء والقضاة والمؤرخين الذين ينظمون قصائد الأدعية والتوسّليات والإلهيات، ووصف الرحلات والأراجيز التي يصل عدد أبياتها آلاف الأبيات.
وفيما يتعلق بالمقطوعات، فنماذجها كثيرة أيضاً؛ نلتقى ببعضها في شعر النقوش، وشعر الأحاجي والألغاز، وشعر الإخوانيات والشعر التعليمي، والتأريخ بالشعر والتقاريظ، وبعض قصائد الهجاء والعتاب التي غالبا ما تكون مخمسّة. أمّا كتّابها فهم من جيلي الوسط والجديد.
ي- وضوح ثنائية/ ازدواجية التعبير الشعري فيه:
تعتبر ازدواجية التعبير الشعري محصلة حتمية ونتيجة فعلية للنقلة الحضارية التي عاشها الشعراء في المجتمع الجديد (مرحلة النهضة الحديثة) وما ترتب عليها من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية أسهمت في خلق ظروف نفسية أخذت تؤثر في طبيعة الشعراء، ونجم عنها أن الجيل القديم أتيح له أن يعيش المرحلة الحديثة دون أن يكون قد كـيـّف نفسه لتقبلها بطريقة طبيعية، ومن ثم لابدّ له أن يظل وفيا لتقاليده التي ظلت تعيش في أعماقه، وتفرض عليه قوتها، حتى وهو يمارس الحياة الجديدة في أشكالها المتطورة. من هنا فإننا نلاحظ أن الجيل القديم من الشعراء عاش جنبا إلى جنب مع الجيل الجديد ويكتب النمطين معاً دون مواربة. ولعل أقرب مثال على ذلك الشاعر عبدالله الخليلي الذي ساير جمهور الشعراء بديوانه « على ركاب الجمهور» بعد أن كان مخلصاً لأسلافه الشعراء زهاء سبعين عاماً.
ك- بروز ظاهرة إنشاد بعض قصائده دون سابق روية:
توحي ظاهرة إنشاد الشعر في جوهرها العميق بأن الشعراء العُمانيين جرّبوا أصعب أنواع الشعر صنعاً؛ وهو الشعر الذي « يكون انهمارا وتدفقا، ولا يتوقف فيه قائله متعللا بقافية ولا بحر « على نحو ما يقول- ابن رشيق: العمدة 1 / 167، فالشاعر بحضور بديهته وقوة طبعه وغزارة مادته لا تغرب عنه الكلمات، ولا تعوزه الأوزان والقوافي فيطفق منشداً دون تحضير مسبق.
ولقد بيـّـنت مدونة المعجم بعض شعرائها وقد نظم الواحد منهم البيت تلوى الآخر، والمقطوعة تلوى الأخرى دون انقطاع، تحدوهم في ذلك خاصية الارتجال، وأمثلتها تظهر عند أبي سلام وسيف بن سالم المسكري وأبي الصوفي، وهلال بن بدر؛ وشاعر الشرق، ومحمد بن سيف السعدي حينما كانوا ينشدون في المناسبات الاجتماعية والسياسية والوجدانية.
ورغم شيوع هذه الظاهرة عند الأجيال الثلاثة من شعراء المعجم؛ فهي بالتأكيد متباينة الجودة والقيمة، ولا تهمنا كثيراً وسائل الشعراء فيها، بقدر ما يهمنا عبقرية الشعراء وموهبتهم في الخلق والإبداع والابتكار ومعرفة طرائق التعبير ومدى أخذهم بسنن الأقدمين، وإسهامهم في تطور الأدب العربي.
كما إننا لم نعد الأبيات المفردة التي استشهد بها أصحاب المختارات وكتب التراجم والسير شعرا منسجما مع هذه الظاهرة؛ لأنه مقتطف من قصائد مطوّلة، واقتصرنا على الشعر الذي ثبت لنا أنه ممثل لها، وذلك بشهادة الرواة والقراء والشعراء الذين التقينا بهم، وأحيانا اعتمدنا على الأخبار والسير والنوادر التي أوردتها كتب التاريخ عنهم.
ل- كثرة نماذج شعر النزعات الفنية إثباتاً للبراعة في النظم، وأمثلتها تقودنا إلى سطوع بعض النزعات الفنية من مثل الشعر المشجـّر، أو الشعر المحتوي على أبيات ترتد أعجازها على صدورها، والشعر المنتهي في قافيته بكلمة واحدة، ونشير هنا إلى الشعر الذي تكون حروفه غير منقوطة وكذلك إلى الشعر الذي تأتى أبياته مترتبة على نسق الحروف الهجائية، وأيضا الشعر المنظوم بلغة عربية وسواحلية معاً، ولا شك أن هذه الظاهرة تؤدي إلى حالة من الصنعة والتكلف والضعف، وتغييب الفن الشعري على حساب المعنى أو الموضوع.
م - كثرة القصائد المنسوبة والدخيلة:
نقصد بالقصائد المنسوبة تلك التي نسبت إلى أصحاب الدواوين وهي ليست لهم، وقد تمّ ذلك بشكل عفوي بفعل تضارب الرواية الشفوية التي تداخل فيها الشعر مع مثيله، وأسبابها نلخصها في العوامل التالية:
- أخطاء الرواة، والمحققين والنّساخ وجامعي الشعر، ونجد ذلك كثيراً في الدفاتر والمجاميع.
- طبيعة الشعر التعليمي الذي يستلزم وضع قصيدة السؤال التعليمي بجانب قصيدة الجواب الذي يكون أحياناً من نظم شاعر آخر.
- طبيعة شعر المباسطات الذي يأتي أحيانا سؤاله مصحوباً بردّه دون الإشارة إلى قائله مما يحدث خطأ في النسبة.
- طبيعة بعض قصائد شعر الهجاء الذي يكون المحقق فيها محّملا بوهج رد المهجو، فيضعه بجانب قصيدة الهجاء مما يخلق حالة من الالتباس وسوء التقدير.
ن- كثرة المنظومات الشعرية:
تكشف لنا مدونة المعجم عن كثرة المنظومات الشعرية؛ إذ يبلغ ما جمعناه فيها 256 منظومة مختلفة في الطول والقصر. وتكثر هذه المنظومات عند أغلب شعراء الجيلين الأول والوسط؛ ومردها في اعتقادنا إلى النظام التعليمي قبل عام 1970؛ فقد كانت المراكز التعليمية تولي عنايتها بالشعر فنشأ في أحضانها رواته وحفاظه، وارتبط قول الشعر بطلاب المساجد والجوامع يتنافسون في نظمه وإنشاده، بصرف النظر عن الموهبة والإجادة، ولعله كان في نظرهم علامة فارقة على التفوق في درجات العلوم والثقافة. واصطبغ بنوعية الثقافة التي كانت تزاول في هذه المراكز؛ وهي ثقافة تدور في فلك العلوم الشرعية واللغوية والبلاغية، حيث راح العلماء يتبارون في طول نفسها، واشتهر غير واحد منهم بمنظومة عرف بها تتصدر ترجمته في كل كتاب وهو ما يمكن أن نعتبره امتدادا للمفهوم الذي ساد عصر الضعف مما لا يعد من الشعر بأي حال من الأحوال. ولم يقتصر هذا الضعف على جانب المضمون، وإنما شمل جانب الشكل، فقد أدى تأثر بعض الشعراء بالثقافة التقليدية إلى تجريد الشعر من كل الملامح الجمالية، ولم يبق له من عناصر القصيدة غير أجراس التفعيلة. أمـّا لغته فقد سادتها مصطلحات علوم الآلة والفقه، فقد كانوا يكتبون وهم منغمسون فيها، غير مفرقين بينها وبين لغة الشعر.
ويمكن أن نضيف إلى عوامل هذه الكثرة قصر نظرة بعض فئات الشعر إلى شعرهم؛ إذ كان الشعر في تقدير بعضهم من لهو الحديث الذي يلهي عن ذكر الله وأن العلم الصحيح هو علم الشريعة وحده. ومن ثم نشأت في المقابل ظاهرة كثرة المنظومات الدينية التي تتخذ لوناً واحدا هو المدائح الدينية والتغني بمآثر العلماء، والتوسل بأسماء الله الحسنى إضافة إلى الموضوعات التي لا تخرج عن نطاق شعر السلوك، وهذه في تقديرنا وإن وجدت فقليلة.
*- نشير إلى أن هذا المبحث مستلٌ بالتصرف من مدونة المعجم الموسّعة وبالتالي جميع احالاتها التوثيقية وهوامشها توجد فيها، وقد عمدنا أحيانا إلى بعض المقايسات المنهجية واستفدنا من بعض المباحث المشابهة ومن بينها كتاب الدكتور محمد ناصر: الشعر الجزائري الحديث، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985، وكتاب العمدة لابن رشيق القيرواني وغيرهما.