((نتوقع أن توجه عديد من البلدان مواردها لدعم الموازنات الاجتماعية لتعزيز برامج الحماية الاجتماعية أو لتخليق فرص عمل جديدة أو ضمان استدامة وحماية إنتاج العاملين في الاقتصادات غير الرسمية))

تحاول هذه المقالة فهم الخلاصات الاجتماعية لما مر به العالم في عام 2021 وتشخيص أهم التحولات الاجتماعية المتوقعة وكيف يمكن استشراف ما ستؤول إليه المجتمعات في سلوكها المعيش وأنماط تدبير حيواتها في ظل عالم اللايقين الاجتماعي الذي فرضته جائحة كورونا "كوفيد 19" والتداعيات الاقتصادية والصحية اللاحقة لها. لقد حفل العام 2021 بعديد التحولات حيث قضى البشر شطره الأكبر في العراكِ مع فيروس كورونا "كوفيد 19" ومتحوراته الناشئة في ظل أوضاع تفاوتت بين الإجراءات المقيدة والانفراجات الجزئية في مسار تدبير التعامل مع الجائحة، ووجد الناس في مجتمعات العالم أنفسهم مضطرين لخلق حالة من "التكيف الاجتماعي" تمكنهم من تدبير معاشهم من الناحية المادية ومن ناحية وضع إطار جديد لحركتهم الاجتماعية وممارساتهم اليومية وعلاقاتهم ووصلهم المجتمعي، ومن ناحية تدبير وظائفهم وأعمالهم الرسمية وقطاعات الإنتاج التي ينخرطون بها، بما يضمن لهم عيش حياة متوازنة يحققون فيها أبسط متطلبات العيش والعافية النفسية. وفي تقديرنا فإن مقولة "التكيف الاجتماعي" تنقض مقولة "الواقع الجديد". ذلك أن المسارات التي جرت فيها تداعيات الجائحة لم تسمح لأي مجتمع في تقديرنا بالاستقرار على "واقع جديد" واضح ومكتمل الأركان والمعالم ـ على الأقل من ناحية المعيش الاجتماعي ـ على الجانب الآخر برزت قضية التغير المناخي مجددًا إلى الواجهة مصحوبة بعدد من الحوادث المناخية التي شهدها العالم في 2021 ومدفوعة بتحول الملف إلى أحد أجندة المداولات السياسية خصوصًا في عهد الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة، والتفاعلات الإعلامية الواسعة مع مؤتمر COP26. وفي سياق منفصل عادت إلى الواجهة النقاشات بشأن الخصوصية وأمن المستخدمين على الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي بعد الاحتدامات الكبرى التي مرت بها أزمة شركة فيس بوك وما أفرزته من ضرورات لإعادة تصورات "الشركات – الدول – الأفراد المستخدمين" حول مفاهيم خصوصية البيانات وقضاياها الناشئة.

يظهر الحصاد الذي نشره البنك الدولي في مدونته بعنوان "جائحة عدم المساواة" أن أفقر 40% من سكان لم يتح لهم التعافي وتعويض خسائر دخلهم، مما أدى إلى سقوط نحو 100 مليون شخص آخر حول العالم في براثن الفقر المدقع، مع ملاحظة ارتفاع غير مسبوق في مؤشرات فقر التعلم في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل قد يصل إلى 70%، وتظهر المدونة كذلك التداعيات التي فرضتها ظاهرة التغير المناخي والتي يتوقع بحلول عام 2050 أن تؤدي إلى تنقل 216 مليون شخص في داخل بلدانهم، وكشف الحصاد كذلك عن أن ارتفاع أسعار الطاقة أدى بدوره إلى إذكاء ارتفاع تكاليف السلع الأولية الأخرى. وتشير التحليلات المتصلة بواقع المهن والأجور والتي أجريت في عام 2021 إلى وجود فجوات واسعة في الأجور بين الشرائح العمرية وبين الجنسين مما يؤثر بشكل مباشر على مسائل الإنتاجية والأمن الوظيفي واستقرار دورة الحياة بالنسبة للعاملين وخاصة من الشباب في قوة العمل "15-64" عامًا. فقد أظهرت قاعدة بيانات المؤشر العالمي للوظائف "JOIN" أن العمالة من الشباب تواجه أكبر فجوة في الأجور مقارنة بالعمالة الأكبر سناً حيث يحصل العمال في الفئة العمرية من 25 إلى 64 عاماً على أجور أعلى بنسبة 53% من العمال في الفئة العمرية من 15 إلى 24 عاماً.

وفيما يتعلق بالتحولات الاجتماعية المتوقعة في العام 2022 تظهر أغلب التحليلات تفاؤلًا نسبيًا يأتي مصاحبًا بتوقعات التعافي والنمو الاقتصادي الذي تتوقعه أغلب التقارير والمؤشرات والتحليلات في هذا الصدد، وفي تحسن التعامل مع الجائحة عبر توسيع نطاق الطعوم والسيطرة على المتحورات الجديدة وظهور مقاربات علاجية متصاحبة مع فهم أكثر توسعًا لطبيعة الجائحة الحالية ووعي مدني أكثر مسؤولية في التعاطي معها. وفيما يتعلق بالسياق الرقمي كتب ثيو تزانيديس من جامعة غرب استكلندا أن العام 2022 قد يحفل بالمزيد من الخصوصية والجودة وتعديلات الخوارزمية على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فرص نمو الذكاء الاصطناعي في خدمات الغذاء والموارد البشرية وأن التحول الرقمي في أنماط العمل قد يؤدي إلى إزالة 75 مليون فرصة عمل حالية مع توليد 133 مليون وظيفة جديدة.

وفي تقديرنا فإنه ولبناء مقاربات أكثر واقعية للتعاطي مع التحولات الاجتماعية المنتظرة في 2022 في ضوء ما عايشته مجتمعات العالم في 2021 فإن من الأهمية بمكان إيلاء مسائل الحماية الاجتماعية موضع أقصى في سلم السياسات والأجندة العامة مع ضرورة حاسمة لمراجعة شبكات الأمان الاجتماعي وتهيئتا بشكل أكثر مرونة لخدمة الفئات الأكثر احتياجًا أو الأكثر عرضة للمخاطر. هناك حاجة ماسة كذلك إلى إعادة تصور مسائل الأمان الوظيفي وإعادة بنائه من ناحية "التشريعات – نظم الدعم – الثقافة العامة – مسؤوليات أطراف الإنتاج". وفي تقديرنا فإن القضايا التي جاءت إلى الواجهة في 2021 ومنها مسائل "الصحة النفسية – العنف الأسري – تغير المناخ – الاقتصادات التضامنية..." وغيرها من المفاهيم ستواصل صعودها بشكل أكبر للوعي العام لتجد لذاتها تجذرا في المناقشات المجتمعية. نتوقع كذلك أن توجه عديد من البلدان مواردها لدعم الموازنات الاجتماعية سواء تلك المتصلة ببرامج الحماية الاجتماعية أو تلك الموجهة لتخليق فرص عمل جديدة أو ضمان استدامة وحماية إنتاج العاملين في الاقتصادات غير الرسمية. إنسانيًا قد ما عايشناه في 2021 وفي معظم فترات الجائحة الناس إلى إعادة تصورهم بشأن الآخر. قد تبدو مفاهيم التضامن والتسامح والإيثار والرغبة في بقاء المجتمع أكثر تبلورًا خلال الأعوام المقبلة. واتصالًا بذلك كشف مسح أجرته "إبسوس" وطبق على عينة من 22000 شخص من مختلف دول العالم عن توقعاتهم أن يصبح مجتمعهم أكثر تسامحًا نتيجة أحداث العامين الماضيين. هذا الشعور هو الأقوى في الصين ، حيث يتوقع 83٪ زيادة التسامح في عام 2022 وتتفاوت النسبة بين المجتمعات ولكنها تظل في المتوسط نسبة متفائلة. وفي المجمل يبقى ما ذكر مجرد تنبؤات متفرقة تتباين علمية رصدها واستشرافها من سياق لآخر. إلا أن الإرادة البشرية دائمًا تبقى هي محور التغيير المجتمعي مهما كانت العوارض والمتغيرات والتحولات.

• مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع