في المخيلة الشعبية العُمانية حكاية ناقة رأت حُوارَها تدهسه سيارة أمام عينيها ما أدى إلى نفوقه. حزنت الناقة على هذه النهاية الفاجعة لفلذة كبدها، ولأنه ليس ثمة أكثر حقدًا من جَمَل كما يقول المثل العربي، فقد لَبدت تلك الناقة في الطريق نفسه الذي وقع فيه حادث الدهس لأسابيع، إلى أن لمحت السيارة ذاتها التي دهستْ حُوارَها، فاعترضت طريقها فجأة بطريقة انتحارية أدت إلى حادث مريع أفضى إلى موتِهما معًا؛ السائق والناقة!.

كيف ميزت الناقة السائق؟، هذا ما لم تقله الحكاية. بالتأكيد إن وصم الجمل بالحقد لم يأتِ من فراغ، فلقد سمعنا حكايات كثيرة عن انتقاماته، لكن هذا لا ينفي أن الإنسان يُسقِطُ خصاله السيئة أحيانًا على كائنات أخرى. فهو أيضًا كائن انتقامي بامتياز، ولا يغرنك بورخيس بزعمه أن "النسيان هو الانتقام الوحيد".

بيد أن من تابع حكاية انتقام القرود التي وقعت قبل نحو أسبوعين في قريتين قريبتين من مدينة ماجالجون الواقعة في وسط الهند، سيتأكد أن الإنسان ـ رغم كل ما يفعله بالطبيعة وكائناتها ـ كائن لطيف مقارنة بالكائنات الحية الأخرى. تقول الحكاية التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية إن مجموعة من الكلاب "تكالبتْ" على أحد صغار القِرَدة فقتلتْه، فكان أن غضبت القرود غضبًا شديدًا وقررت الانتقام. شرعت، وبشكل شبه يومي لأكثر من شهر، في اختطاف الجِراء الصغيرة للكلاب القاتلة وإلقائها من أعلى البيوت أو الأشجار، بل إنها في إحدى المناطق قضت على جميع الكلاب، لكن الأدهى والأمرّ والأكثر رعبًا أنها بدأت بمهاجمة أطفال البشر؛ ولا أدري هل لأن البشر آذوها حقًّا، أم أنه مجرد احتجاج على إطلاقهم صفة الوفاء على الكلاب!.

انتقام القرود هذا حدث بعد أقل من ثلاثة أشهر من مهاجمة قطيع فِيَلة في أواخر سبتمبر الماضي مجموعة سياح كانوا يحاولون دخول حديقة كروجر في جنوب إفريقيا، وهذا بدوره يحيلنا إلى انتقام الفِيَلة الذي أثبتته دراسة علمية أجراها قبل نحو خمسة عشر عامًا باحثون في مشروع «أمبوسيلي» لأبحاث الفيلة في كينيا؛ إذ تتحدث الدراسة عن حالة صحية تنتاب هذه الحيوانات العملاقة تسمى «توتر ما بعد الصدمات» وتصيبها بعد تعرضها إلى حوادث مخيفة في صغرها، ولذلك تنتقم عندما تكبر بمهاجمة قرى إفريقية صغيرة. بل إن جويس بول مدير مشروع "أمبوسيلي" توصّل إلى خُلاصة مفادها أن هذه الفِيَلة «ذكية بما فيه الكفاية، وتتمتع بذاكرة عميقة تؤهلها للانتقام».

وإذا كان عدد غير قليل من الحروب الانتقامية التي خاضها البشر كانت بسبب حيوانات، كما هي حال حرب البسوس (بسبب ناقة)، وحرب "داحس والغبراء" (بسبب فرسَيْن سبق أحدهما الآخر)، وحرب الكلب الضال بين بلغاريا واليونان في النصف الأول من القرن العشرين، فإنه لم يحدث على حد علمي أن نشبتْ حرب بين حيوانات بسبب إنسان. سيقول قائل: ولكن هل تنشب أصلًا حروب انتقامية بين الحيوانات؟. والإجابة، نعم. وقد تذكرتْ وسائل الإعلام في خلفية خبرها عن قرود الهند المنتقِمة في أواخر2021 حرب غومبي الشهيرة التي وقعت في متنزه غومبي ستريم التنزاني" في الفترة ما بين عامي 1972 و1976 بين فصيلتين من الشمبانزي. أربع سنوات من الانتقام والانتقام المضاد ولا أحد يعرف سبب هذه الحرب!.

نخلص من هذا كله إلى أن كل كائن حيّ جُبِل على حبِّ ومكافأة من يحبه، والانتقام ممن يسيء إليه. لا تسري هذه القاعدة على القرود والفِيَلة والجِمال وجميع الحيوانات فحسب، بل حتى الطبيعة نفسها. وعندما أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ صرخته المدوية في خطابه أمام قمة المناخ في 22 إبريل من هذا العام (2021): "إن عدم احترام الطبيعة ومخالفة قوانينها لا يؤديان إلا إلى انتقامها منّا" فإنه لم يكن يتحدث من فراغ. ولقد رأينا كيف ضاقت بنا الطبيعة ذرعًا فأمطرتنا أمراضًا وأعاصير وبراكين وزلازل وحرائق غابات، وكوارث، لا تكاد تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى.

أكثر من ذلك فإنه حتى جسم الإنسان ينتقم منه إن هو أساء إليه، ولن ينفعه تشدقه بأن هذا جسدي وأنا حرّ فيه، فكم من كَبِد عاقبتْ صاحبَها مدمن الكحول بالتليّف، وكم من رئة عاقبت معذِّبها المدخن الشرِه بالسرطان، ولنقسْ على ذلك جميع الأمراض. بل إنه حتى النفس تعاقب صاحبها الذي يُرغمها على تقبّل ما لا تُريد. وخير من عبّر عن هذا بوريس باسترناك في روايته "دكتور زيفاجو": "صحتك تتأثر إذا اضطررتَ يومًا بعد يوم أن تقول عكس ما تحسّ، أن تنحني أمام ما تكره، أن تفرح بما لا يجلب لك إلا الشؤم. جهازنا العصبي ليس خُرافة. إنه جزءٌ من جسدنا وروحِنا، يُوجَد في مكانٍ ما داخلنا، كالأسنان في فمنا، لا يُمكن التعدّي عليها باستمرار دون عقاب".

_______

سليمان المعمري مذيع وكاتب وروائي عماني