عبدالله العليان

في خضم المسار الفكري لحركة القوميين العرب ـ وبعض الحركات الأخرى ـ التي جاء قيامها في ظروف نكبة فلسطين في عام 1948، ورفعت شعار الوحدة والثأر من الاحتلال، ومن هنا لاقت شعبية كبيرة في تلك المرحلة، عندما أنشأت (كتائب الفداء العربي)، وقامت ببعض العمليات القليلة من داخل الأراضي السورية، لكنها لاقت صدى مهمًا، وحققت سمعة من أصحاب التوجهات القومية بين الشباب في لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، وعندما قامت ثورة 23 من يوليو 1952، لم تكن هناك روابط معها في البداية، لكن بعد الحرب الثلاثي على مصر عام 1956، وصمود مصر في هذه الحملة العسكرية من قبل بريطانيا وفرنسا، وإسرائيل، بسبب تأميم قناة السويس، وانسحاب القوات الغازية بعد الإنذار الأمريكي لهم، بدأت الأنظار تتجه لمصر على المستوى العربي، وتم اعتباره نصرًا سياسيًا مهمًا بعدم الرضوخ لشروط الدول الغازية، خاصة من الحركات السياسية، منها حركة القوميين العرب.

وبعد الوحدة المصرية - السورية اقتربت حركة القوميين العرب من القيادة الوحدوية، ورأت أن المصلحة تتطلب التقرب من مصر، والاستفادة من شعبية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبدأ التواصل بينهما -كما أشرنا في المقالات السابقة- لكن هذا التقارب لم يصمد كثيرًا بعد انفصام الوحدة بين مصر وسوريا، عام 1961، وانتقدت مجلة الحرية الناطقة باسم حركة القوميين العرب، على اعتبار أن الانفصال سببته البرجوازية في سوريا، وأن القيادة الوحدوية، لم تتخذ موقفًا حازمًا من البرجوازيين والرجعيين، ولم يطبق الصراع الطبقي وجعله سلميًا، وبدأ الفكر اليساري، يطل من حركة القوميين العرب، من خلال مجلة الحرية.

بدأت مصر تعيد المراجعة مع حركة القوميين العرب، لكنها لم تقطع الصلة السياسية أو اللقاءات مع قياداتها، ويذكر د.جورج حبش في مذكراته (صفحات من مسيرتي النضالية)،أنه التقى بالرئيس جمال عبد الناصر في عام 1965، وقال: "كان لقاؤنا مع عبد الناصر يستهدف بحث تطورات مسيرة الكفاح المسلح في جنوب اليمن، وكذلك فكرة بداية الكفاح في منطقة عُمان، وتحديدًا في ظفار حيث تم تأسيس "جبهة تحرير ظفار". في هذا اللقاء -كما يضيف د. حبش- لم أكن وحدي، بل كان معي الرفيق هاني الهندي والرفيق محسن إبراهيم. لم أعد أذكر بالضبط الموضوعات التي نوقشت في هذا اللقاء، ولكن ما أذكره أن عبدالناصر أبدأ ارتياحه إلى لنمو ظاهرة الكفاح المسلح وأحال التفاصيل إلى الجهات المختصة (..)، أما موضوع ظفار فقد طلب إلينا أن نبحث فيه مع السيد زكريا محيي الدين، فذهب الرفيق محسن إبراهيم مع محمد الغساني الذي كان يرافقنا للقاء السيد زكريا محي الدين نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت. فتم الاتفاق على بدء العمل المسلح.. لكن بشيء من عدم الحماسة والمراهنة على إمكان نجاح هذا الموضوع".

ولا شك أن اللقاء تم دون أن يحرز الوفد النجاح المأمول بحسب إشارة الحكيم في هذه المذكرات، وهذا ربما بسبب الانعطاف السياسي الذي بدأ منذ الانفصال إلى اليسار وانتقادات إليها من الحركة، وازداد بعد صدور القرارات الاشتراكية في يوليو 1961، التي جعلت قضية الصراع الطبقي تتم سلميًا، وهذا مما زاد التباعد في النهج السياسي والتلاحم كما يسميه القيادي محسن إبراهيم، وانتهى هذا التقارب إلى الانقطاع التام، بعد نكسة 1967، التي أشرنا إلى ما حدث من توجهات ماركسية / لينينية في المقال السابق، وقد أشار إلى ذلك بعض القيادات، في مقابلات وأحاديث تلفزيونية، بخصوص التحول إلى ما أسموه بالاشتراكية العلمية، ومن هؤلاء القيادي في الحركة قبل تأسيس الحركة الثورية الشعبية م/عبد الرحمن النعيمي في بعض مذكراته التي نشرها بمجلة الوسط البحرينية، وكذلك الناشط السياسي البحريني عبدالنبي العكري، في كتابه (التنظيمات السياسية في الخليج العربي).

يذكر د. عبدالغفار شكر أحد القياديين في هذا التنظيم، في كتابه (الطليعة العربية التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر " 1965 ـ 1986)، أن عبد الناصر وجد إعاقات في قضية الوحدة، بسبب التحزب السياسي والفكري، عند بعض الحركات الشعبية، ويقصد ربما حزب البعث، وحركة القوميين العرب، وهذا ما قاله الرئيس عبد الناصر في حواره مع مجلة المحرر اللبنانية، يقول: "قصية الوحدة تمر في أزمة، ومن الواجب على جميع الوحدويين دراسة أسباب هذه الأزمة، للعمل على مواجهتها. والسبب الأول لهذه هو تعدد المنضمات التي نرفع شعارات الوحدة وتنادي بها، ولا يمكن أن تقوم وحدة عربية دستورية إلا إذا تحققت الوحدة السياسية أو وحدة العمل السياسي بين الذين يعتنقون الوحدة ويدينون بالاشتراكية. لقد لاحظت أنه بدلًا من أن تلتقي المنظمات التي تنادي بالوحدة عند هذا الهدف، فإن بعض الحزبيين كانوا يركّزون على الحزب وينسون الوحدة، ويعملون من أجل السلطة، ويخلقون بالتالي نزاعًا تضيع معه قضية الوحدة".

وهذه الإشارات في حديث الرئيس عبد الناصر، تبرز عدم الارتياح لبعض التوجهات الحزبية من حزب البعث، ومن حركة القوميين العرب أيضًا، وهذا ما أشار إليه أيضا الكاتب د.عبد الغفار شكر، في بعض فصول الكتاب المشار إليه آنفًا، ويتحدث عن الآثار التي أعقبت نكسة 1967، فيقول بدأت الجمهورية العربية المتحدة وبأسلوب سري:" من خلال إطار سياسي كبير وعلني، هو أمانة الشؤون العربية في الاتحاد الاشتراكي العربي. واتخذ تحرك الأمانة مسارًا تكتيكيًا يتفادى الاصطدام المباشر مع القوى المناوئة خصوصًا القوميين العرب والشيوعيين وحزب البعث". إذن أصبحت الحركة مناوئة للنظام الناصري بحسب الكاتب، بدلاً من مقولة "الالتحام بالناصرية" وهذا بلا شك بدأ مؤشراً لدى القيادة المصرية آنذاك، أن الحركة اتجهت اتجاهًا مغايرًا للتوجه القومي منذ الانفصال، ومن هذه الرؤى الجديدة للحركة في مهاجمة الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر نفسه، وهذا ما عبر عنه محسن إبراهيم في كتاباته، من أن هذا الاتحاد لا يعتبر "تنظيمًا طلائعيًا حزبيًا عقائديًا ثوريًا بمعنى يحمل أيديولوجيا". وهذا تم التعبير عنه كثير في كتابات بعض أعضاء الحركة نفسها، والذي تمت تسميته بـ (اليساري الطفولي)! لكن الجميع سار في نفس الانعطاف اليساري، بما فيهم د. جورج حبش!.

والإشكال الآخر الذي وتّر العلاقة بين قيادات حركة القوميين العرب، والنظام الناصري، بروز حركة فتح التي تمّثل التيار العروبي في الحركة، بقيادة ياسر عرفات، ويذكر الباحث السوري، شمس الدين الكيلاني في بحثه (حركة القوميين العرب في الإقليم السوري)، ضمن الكتاب المشترك (الأحزاب والحركات القومية في الوطن العربي)،مركز دراسات الوحدة العربية، أن بداية العلاقة مصر بحركة القوميين العرب، كانت، إذ بدأت بصورة أقوى مع قيام الوحدة المصرية/ السورية، لكن كما أشرنا آنفاً، ظهر لبعض القيادات المصرية والمقربين منها، أن الحركة بدأت توجهًا مغايرًا للتوجه القومي القريب من مصر الناصرية، واقتربت من اليسار الماركسي، كان تفكير: "عبد الناصر قبل في خريف 1967، يقلب الرأي فيمن يختار شريكا فلسطينيا في مرحلة إزالة آثار العدوان (..)، ثم وصل إلى القناعة الجازمة بخروج أحمد الشقيري لانتهاء الصلاحية، وبقيت المفاضلة بين جورج حبش وياسر عرفات. وقف سامي شرف وفتحي الديب وأمين هويدي مع الأول، وانحاز محمد حسنين هيكل إلى الثاني...اندفع حبش وصحبه أكثر وأكثر في هجومهم المتصاعد على عبد الناصر مع تبينهم لانحيازه إلى خصمهم (فتح) أواخر عام 1967... وانطلقت الحركة بشقيها اليساري والأقل يسارية، لدرجة "أن وصلت الأحوال بجورج حبش أن هاجم عبد الناصر بالاسم في خطاب له في البدّاوي ـ بلبنان ـ أوخر 1970". أما نايف حواتمة، فكان موقفه أشد من جورج حبش، وصل به الأمر إلى الإساءة الشخصية لعبد الناصر بعد 1967، لا تليق عملها عند الاختلاف السياسي، وتبرز (الطفولة اليسارية) بحق!.

وهذه المواقف السلبية من هذه القيادات، من أجل فرض سياسات وتوجهات، قد لا يراها الآخرون مقبولة أو ناجحة، وتأتي بنتائج عكسية، وقد أتت عليهم بالفعل، فقد تراجعت هذه السياسات الأيديولوجية وانقلبت عليهم، بسبب المواقف غير العقلانية تجاه سياسات لم تتصف بالحكمة وحتى إلى نقض مواقفهم الفكرية تماما..

وآخر هذه المواقف الفكرية، جاءت من القيادي السابق في حركة القوميين، والذي تحول آنذاك إلى أحد الراديكاليين الماركسيين، بعد انتهاء الحركة، وأنشأ منظمة العمل الشيوعي بعد ذلك في لبنان، ومنذ عام 1990، كما يذكر الكاتب صقر أبو فخر بدأ: "محسن إبراهيم يشدّد على ضرورة إعادة النظر في المفاهيم والأفكار التي اعتنقتها منظمة العمل الشيوعي، ولا سيما الماركسية. وفي المؤتمر الرابع في عام 2018، تخلت المنظمة عن الماركسية، وأبقت على اشتراكيتها، فرأت، كما رأى محسن إبراهيم "أن التاريخ لم يحكم للماركسية، كمشروع للتغيير الاجتماعي، بالنجاح، بل حكم عليها بالفشل. لذا، لا محل اليوم لتقييد اشتراكيتنا بقيد الالتزام الكلي بالماركسي".

وينقل شمس الدين الكيلاني عن أحد قياديي حركة القوميين العرب (جورج كتن)، أن الحركة: "لم تنتبه طوال عملها السياسي إلى أن توفر القوة للمجتمع لمواجهة الاستحقاقات الخارجية والداخلية... فقد ركزت في الخمسينات على أن القوة تأتي من نظام ثوري.. يجند المواطنين في صفوفه ويُخضعهم للنظام المركزي داخله ولطاعة القيادات ويثقفهم بأفكاره ويدفعهم للمعركة حسب استراتيجيات وضعها قياداته العليا.. وأجلت الديمقراطية لصالح الوحدة ثم لصالح الاشتراكية وتحرير فلسطين... فأدى التأجيل إلى تراكم الهزائم والكوارث والتراجعات".