يتوسع العلم الإنساني عبر آفاق لانهائية، لكنها تنطوي، في الوقت ذاته، على نسبية في الإدراك تعكس حدود العلم في الزمن لتحدد الطريقة التي يعيش فيها البشر أطوار حياتهم في صيرورة أساليبها بما يجعلهم باستمرار يتصورون معها أن حدود تلك الأساليب هي أرقى ما توصلوا إليه في زمنهم، لكن دائماً ما يكون ذلك الرقي رقياً بالنسبة لماضي أجيالهم السابقة، التي هي بدورها أجيال كانت تعيش أزمنتها باعتبارها حدوداً عليا لأنماط العيش بالنسبة للسابقين! هكذا سنجد أن الاطراد الذي يدفع البشر لتحسين مستويات حياتهم في المستقبل هو المحفز الوحيد الذي يجعلهم قابلين للتطور بلا حدود للطموح الإنساني.

مع ثورة المعلوماتية والاتصال والأجيال المتعددة للذكاء الاصطناعي، بدأت طفرات التطور تتسارع بقوة رهيبة ومختلفة عن الوتائر التي سبقت الثورة الرقمية. فأصبح البشر يعيشون مع العلم وكشوفاته في العالم الرقمي ما يجعلهم قادرين اليوم على تخيل المستحيل في غدٍ! إن هوية البشر ومعدنهم الكريم يثبت مع مرور الزمن أن هذا الإنسان هو الكائن الوحيد في الكون الذي يستطيع صنع المعجزات.

فكثير من الصناعات والتقنيات والآليات التي لو قُدِّرَ لأسلافنا الأولين أن يشاهدوا أثرها اليوم لما صدقوا أنها من صنع البشر، لكن القدرات الكامنة في العقل الإنساني قدرات لا تحدها الآفاق مهما توسعت.

هكذا، فيما يمكننا اليوم أن لا نتنبأ بما سيحدث بعد 10 سنوات في ذات الجيل الذي نعيش فيه، فإننا أيضاً قد نتوقع معجزات صغيرة في عالم الذكاء الاصطناعي قد لا تخطر أبداً على وعينا.

ولعل الأمثولة التي يطرحها العلم الإنساني وتطوره اللانهائي تتمثل اليوم في تلاشي حدود الأشياء التي كانت تحدد هويات الخواص والصفات، وقدرة العلم اليوم على اختبار الخيال بوصفه حدوداً للمعرفة ذاتها ! إن قوة الخيال البشري هي التي تهدي اليوم آفاق المعرفة إلى مدارك لانهائية من القدرة على خوض التجارب وارتياد مجالات ربما لم تخطر على قلب بشر.

ففيما نحن ندرك اليوم أننا قد بلغنا تطوراً مذهلاً في اللحظة التاريخية الراهنة، فهذه اللحظة ذاتها كانت هي التي توحي لأجيال سابقة طبيعة الذروة التي كانوا عليها في لحظتهم الزمنية بالنسبة للأجيال الماضية.

لكن ما لا يمكن المراهنة عليه إلا من نافذة الخيال هو تصور العالم بعد 50 عاماً أو 100 عاماً من لحظتنا التاريخية الراهنة.

لقد كان رهان العلم باستمرار منذوراً للقيمة النفعية التي تمليها أخلاقيات الضمير البشري للعلماء، بصورة عامة، فمن حيث هوية العلم النافعة للبشر لا يختلف اليوم اثنان على ذلك، لكن من حيث بعض النزعات البشرية التي تضمر الشرور ستنعكس هوية العلم في توظيفات ضارة في خدمة الطموح غير المشروع لقوة الشر المُوَجِّهَة للعلم عند بعض البشر في هذا العالم.

كما أن التوجيه المادي للحداثة وأصولها التي نقضت الدين عبر قطيعة ناقمة كانت نتاجاً لصيرورة المسيحية الأوربية، لعب دوراً كبيراً في التوظيفات الضارة لمخترعات المعرفة التي خدمت شرور الإنسان في العالم الحديث؛ منها الأسلحة الذرية والنووية التي لا تزال تهدد مصير العالم.

الإنسان كائن مطلق في امتداده النوعي، وإن كان محدوداً في ذاته كفرد، وهذا النزوع للمطلق هو الذي يقود طموحه الجسور عبر المواهب والروح والإبداع.

يستطيع الإنسان اليوم تنسيباً مثالياً للعالم الحديث لكن الهوية المادية لأصول التفكير الذي ماز الحداثة الأوربية لا يزال يلقي بظلاله على طبيعة وهوية العلم حتى يومنا هذا.

لا يمكن اليوم التنبؤ بمفاجآت المعرفة العلمية لمستقبل العالم لأنها أصبحت أقرب إلى حدود الخيال، وفي هذا الصدد سنجد أن كثيراً من الخيال الذي يخطفه إلهام الشعر في بعض نصوص الشعراء سيكون مفاجئاً لكثيرين حين يعبَّر خيال شعري ما عن حالة تنبؤيه واقعة أو حدث في المستقبل، وذلك يدلنا على مدى قوة الخيال البشري الذي له قدرة على تجاوز قوانين العلم، لكن إذا أصبح العلم اليوم يتاخم الغموض كما تصوره ميكانيكا الكم في تفسيراتها الغريبة للعالم وفي تنبؤاتها ومبادئها التي طرحت «الحقيقة» كموضع للسؤال، سيكون مستقبل العالم الذي ينتظر أجيالنا اللاحقة مختلفاً اختلافاً كبيراً عن واقعنا الراهن، فإذا كانت أجيالنا اليوم تشهد توالياً مدهشاً في أجيال الذكاء الاصطناعي بفعل الثورة الرقمية؛ فإن ما ينتظر الأجيال اللاحقة سيكون أكثر غرابةً في الخيال والإدهاش!