عبد الله العليان
تعرفت على مجلة الحرية اللبنانية في بدايات السبعينات من القرن الماضي، التي كانت المعبرة عن حركة القوميين العرب، وكانت تأتي في قصاصات صغيرة للاطلاع من الجهات المسؤولة، كنت في ذلك الوقت قد عملت في مكتب إعلام ظفار تحت هذا المسمى، وكانت هذه القصاصات تأتي من وزارة الإعلام العمانية على ما اعتقد، إلى المكتب بصلالة، بهدف معرفة ما تكتبه هذه المجلات والصحف، وكنت أقرأ فيها أخبار وتعليقات عن الثورة في ظفار، وعن الأوضاع السياسية في عُمان عمومًا والحرب الدائرة في جنوب البلاد، وتولي السلطان قابوس -رحمه الله- الحكم، وازدادت المتابعة من هذه المجلة السياسية أكثر، بعد التغيير الذي جرى في عام 1968 وتغير اسم الثورة إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، كانت تأتي أيضًا مجلة الهدف الفلسطينية التي أسستها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وترأس تحريرها، الكاتب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني في لبنان، وكذلك جريدة النداء، لسان حال الحزب الشيوعي اللبنانية، التي توالي هذه الثورة أو تتعاطف معها، مع وصول صحف عديدة أخرى أغلبها يأتي من لبنان، بحكم النشاط الكبير في هذا البلد في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والحرية الممنوحة فيه. وتأسيس مجلة الحرية في 1959، وجاء صدورها، بعدما توقفت جريدة "الرأي" الناطقة باسم الحركة في حراكها السياسي غير المنظم، والتي أصدرتها الحركة من الأردن في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وجاءت الموافقة على صدورها، بعد انعقاد المؤتمر الأول للحركة عام 1956 ، وكانت معبرة عن حركة القوميين العرب، وترأس تحريرها القيادي في الحركة محسن إبراهيم، وخلفه لعدة سنوات الكاتب اللبناني المعروف فواز طرابلسي، كان التوجه القومي الظاهري منذ تأسيس الحركة، هو الفكر القومي، والأقرب للنظام السياسي الناصري آنذاك، لكن هذا التوجه شهد انعطافًا كبيرًا في مراحل عدة -سنشير إليها لاحقًا- وأقوى هذه الانعطافات التي تمت في رؤية المجلة وأصحابها، بعد نكسة 1967، وفيها تم إنهاء حركة القوميين العرب فعليًا.
برز التوجه القومي الأكثر حضورًا بعد الوحدة المصرية - السورية عام 1958، كانت أطروحات المجلة ومقالاتها متوازنة مع التوجه الفكري والسياسي الذي انطلق منه مع أهداف هذه الحركة قبل المؤتمر الأول وبعده بعدة سنوات، وهذا التوجه كان ضابطه القيادي الأول د. جورج حبش، وأهم المؤسسيين في حركة القوميين العرب، فمع انهيار الوحدة المصرية / السورية في أواخر 1961، بدأت مجموعة مجلة الحرية، ممثلة في القيادات الثانية في الحركة: محسن إبراهيم، ونايف حواتمة، ومحمد كشلي، تتحدث عن تأثير البرجوازية على سقوط الوحدة المصرية / السورية، وعن تساهل قيادة الوحدة عن هذا الفشل، وخطره على الاشتراكية العلمية، ومع صدور القرارات الاشتراكية التي أصدرها الرئيس عبد الناصر، في عام 1961بعد الانفصال، حصل ارتياحاً لكنه كان ناقصاً في نظرهم ، والسبب أن هذه القرارات الاشتراكية التي أصدرها الرئيس عبد الناصر، خلت من (الصراع الطبقي الجذري)، وجعلت الصراع الطبقي سلميًا وليس حاسمًا مع البرجوازية والرجعية.
ومن هذا المنطلق بدأ النقد يأخذ طريقه من مجموعة مجلة الحرية .. ومع نايف حواتمة بالأخص، لكنه جاء خافتًا ومتأرجحًا بين بعض كتابها ، لكن ليس عنيفًا بالقياس لما حدث منها بعد نكسة عام 1967، وكان لتأثير القيادة التقليدية لحركة القوميين العرب، قدرتها في ضبط النقد الحاد الذي تراه ليس في مصلحتهم في الظرف الراهن آنذاك، تجاه التجربة الناصرية ووقوفها معهم، وأن كان النقد تطّور بشكل ملحوظ، في الأعوام التي تلت هذه القرارات بين الفترة والأخرى، لكن حرب 1967، وخسارة العرب لهذه الحرب، بدأت مجلة الحرية، تبرز نقدها العنيف لنظام جمال عبد الناصر، وتتهمه بأنه نظام فاشل، بغياب الحزب الاشتراكية العلمي، والصراع الطبقي، ومن التهم أيضًا أنه برجوازي صغير، وأن أجهزة الاستخبارات، هي التي تدير هذا النظام ولا يعرف عنه الرئيس عبد الناصر، ويذكر د. جورج حبش في مذكراته (صفحات من مسيرتي النضالية) أنه قابل الرئيس عبد الناصر بعد نكسة 1967، فيقول: "شعرت أنه من الضروري أن أوضح وجهة نظري في الانتقادات التي كانت تكتبها مجلة الحرية عن الجمهورية العربية المتحدة وطبيعة نظامها. وهنا ذكرت له ـ كما يقول جورج حبش ـ أن المقصود من الانتقادات طبيعة بنية النظام. وليس قيادة عبد الناصر وشخصه ، وأننا نحمل للرئيس أعمق مشاعر الاحترام والتقدير.
وكان جواب عبد الناصر أنه لا يعير أهمية للانتقادات التي توجه إليه عادة من الأعداء ومن الصحافة بوجه عام ولكنه يتألم فعلاً حين تأتي هذه الانتقادات من الأصدقاء".
برزت مجلة الحرية بعد نكسة 67 وكانت أكثر وضوحًا في تبني الماركسية / اللينينية، وراديكالية في نقدها وتجييشها للصراع الطبقي في المجتمعات العربية وهي مجتمعات محافظة ، وليس هناك إقطاع أو طبقية بالقياس للمجتمعات الغربية في ظل الرأسمالية المتوحشة، وجاءت الأفكار الاشتراكية، المعتدل منها والعنيف لنقضها وكان تأثيرها كبيرًا في تراجع التوحش الرأسمالي في الغرب الليبرالي ، وليس معقولًا أن ننقل التجارب دون أن ننظر للواقع وحياته وثقافته، واستخدام القضاء على البرجوازية والرجعية إلى آخر المفردات المعروفة، والحسم في التطبيق الاشتراكي الجذري، وامتد النقد إلى فروع حركة القوميين العرب في دول أخرى، وبعد رحيل الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن، بعد حسم الصراع مع جبهة التحرير الوطني التي يترأسها عبد القوي مكاوي، والجبهة القومية التي يترأسها قحطان الشعبي والتي كانت تنتمي إلى حركة القوميين العرب آنذاك، بدأت مجلة الحرية في التحرك للتطبيقات التي ستحسن الصراع الطبقي، في مجتمع اليمن الجنوبي سابقاً، خاصة في حضرموت، ويروي الرئيس اليمن الجنوبي السابق، علي ناصر محمد في مذكراته) ذاكرة وطن.. جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967ـ 1990)، تحدث عما قام به نايف حواتمة، من أفكار عن الاشتراكية العلمية في اليمن الجنوبي الخارج وهو لتوه خارج من ظروف جديدة ـ وقد سبقت لذلك مجلة الحرية ـ من كتابات و طرح فكرة الصراع الطبقي وأهميته في اليمن الجنوبي الحديد بعد الاستقلال، فيقول :"يتحدث نايف حواتمة -وفق رؤية الأخير- عمّا حدث في حضرموت، وكأنها دولة منفصلة بذاتها عن جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، سواء في القضايا الداخلية، أو في السياسة الخارجية، لا عن محافظة من محافظات الجمهورية ينبغي أن تخضع لسلطة الدولة المركزية، مثلها مثل بقية المحافظات. إنّ حديث نايف حواتمة يعطي انطباعًا على غير ما ذهب إليه في تقييمه هذا، مفاده أنّ الرجل قد غيّر أولوياته النضالية وأصبح تحرير فلسطين يمرّ عبر تطبيق النهج الاشتراكي في اليمن الجنوبية. ومدخله وحسب قناعته (النظرية) إلى ذلك، ما جرى في محافظة حضرموت؟!! ". ص (122).
والإشكالية التي طرحها نايف حواتمة القيادي في حركة القوميين العرب، منذ انعطافها اليساري الماركسي، أن حواتمة، ينقل التجارب الخارجية، دون أن يدرك الفارق البيّن بين ظروف تلك الأفكار، والواقع المعاش، كما يرى علي ناصر محمد فيقول:" ولا بأس في أن يختبر قراءاته النظرية تلك في التطبيق العملي على ساحة الجنوب، ليكون حقل التجارب المناسب والمفتوح لأفكار كهذه، دون أدنى مراعاة لأولويات أهل الحقل وأصحابه الشرعيين، وهم بالتأكيد ليسوا بأولئك النفر الذين تعاملوا بشطط (ثوري) مع تلك الشطحات الفكرية المدمرة التي لا يتقبلها الواقع كمحافظة حضرموت المحافظة!". ص (123). كما تحدث الرئيس علي ناصر محمد في هذه المذكرات، عن لقائه في ليبيا عام 1970، وحديثه عن التجربة التي جرت في اليمن الجنوبي بعد التطبيقات الاشتراكية، وما ساهمت فيه ـ وكان لمجلة الحرية دور سلبي في ذلك ـ فيقول علي ناصر محمد :" أنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر علَّق ساخراً على هذه التأميمات في لقاء جمعني وإيّاه في طرابلس الغرب عام 1970م، متهماً القيادة الجنوبية بأنها تزايد على مصر وعلى سياستها الداخلية والخارجية، وذلك ردّاً على اتهامات علي سالم البيض لمصر بأنها دولة برجوازية ودولة مخابرات، واتهام عبد الناصر بأنه برجوازي صغير، فقال عبد الناصر:إنّ مصر أمّمت قناة السويس، وأنتم أمّمتم السينما الصيفية بالمكلا... وضحكنا جميعًا." ولا شك أن مجلة الحرية، سارت على منهجها الذي لا يتناقض مع فكر بدأ هاجسه بعيداً عن الفكر القومي الذي تبناه الفريق المؤسس بحسب الظاهر، وهذا ما تم منذ صدور العدد الأول للمجلة في عام 1960، ويذكر الباحث السوري محمد جمال باروت، في كتابه (حركة القوميين العرب: النشأة ـ التطور ـ المصير)، لقد بدأت مجلة الحرية في الخروج على الرؤية التي اتفق عليها في المؤتمر الأول، لكن حصل تغيير في النهج حيث:"تبنى المشرفون على هذه المجلة خطًا نظريًا تناول الانفصال بمنظور طبقي، وأعتبر الحدث نتاجاً للموقف المعادي الذي اتخذته طبقة الإقطاعيين والرأسماليين والبرجوازيين تجاه الوحدة والاشتراكية، فاجأ هذا المنظور الكوادر التقليدية لـ"للحركة" التي اشتمت منه روائح ماركسية غريبة عن لغة الحركة المحصورة بلغة قسطنطين زريق وساطع الحصري والحكم دروزة ونبيه أمين فارس وعلي ناصر الدين وهاني الهندي.. الخ بالقدر نفسه الذي تحولت فيه الحرية إلى خبز إيديولوجي لقواعد الحركة". ولذلك بعد النكسة مباشرة، استخدمت مجلة الحرية عدتها الفكرية اليسارية الحادة في نقد التجربة القومية التي مضت، وأنهتها بالطلاق الثلاث، وبالانقلاب على الحركة تماماً، دون أن يتم مناقشة كيفية الخروج من واقع الحركة إلى الواقع الجديد الراديكالي بمناقشة موضوعية ومنطقية ، لكل المتغيرات والتحولات السياسية في ذلك الوقت، وهذا لم يتم، لكن الثقافة الحركية في حركة القوميين، مثلما أرسته مثل هذه القرارات :(نفذ ثم ناقش)! وفي رواية د.غازي القضيبي الشهيرة (شقة الحرية)، على ما يجري في هذه الحركات السياسية ـ ولو أنها جاءت على شكل رواية ـ لكنها تحكي واقعًا تأكد حصوله وظهر لكل متابع للانقسامات والانقلابات على بعضهم البعض، فتقول القصة على لسان فؤاد:"هذه الحركة حزب فيه كل ما في الأحزاب من صراعات، وأجنحة متناحرة، ومؤامرات صغيرة وكبيرة. القيادة الجماعية التي تتباهى بها الحركة قد توجد في أذهان أتباعها لكنها لا توجد في الواقع. في نهاية المطاف، يتخذ "الحكيم" الدكتور جورج حبش، كل القرارات الرئيسية. الروح الديمقراطية التي تتغنى بها الحركة لا توجد، كل شيء بالتعيين. في كل مرة يعترض عضو فيها على قرار ما يقال له أن المبدأ هو"فذ ثم ناقش". ما فائدة المناقشة بعد التنفيذ؟!". وحتى الذين كانوا يلتقون مع مجلة الحرية في الفكر والتوجهات السياسية ذاتها، انتقدوا ما تطرحه هذه المجلة من مقالات وتحقيقات ومتابعات، وكانت الشكاوي كثيرة، سواء من منظمات ، أو تيارات، أو حتى حكومات.
ويذكر الكاتب فواز طرابلسي، في كتابه (صورة الفتى بالأحمر)، وهو عبارة عن سيرة سياسية للكاتب نفسه فيقول:"نشرت في ـ مجلة ـ "الحرية" تحقيقاً مطولاً عن زيارتي، وبعد صدور الحلقات الأولى، فوجئت بأن قيادة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي قررت منع أعداد "الحرية" التي نشرت التحقيق، من دخول المنطقة المحررة من ظفار، وزارنا وفد من الجبهة للبحث في الأمر مثيراً نقطتين :هي الاعتراض على النقد الذي وجهُته لـ"التطرف اليساري" للجبهة على توهمها إمكان تركيب مشروع لتحرير كامل الخليج العربي (..) أما الاحتجاج الثاني فكان على إثارتي المسألة القبلية لأن الحديث عنها، حسب زعم الوفد، يقسّم الشعب الثائر ويصرف الاهتمام عن الصراع الطبقي".. وللحديث بقية.
تعرفت على مجلة الحرية اللبنانية في بدايات السبعينات من القرن الماضي، التي كانت المعبرة عن حركة القوميين العرب، وكانت تأتي في قصاصات صغيرة للاطلاع من الجهات المسؤولة، كنت في ذلك الوقت قد عملت في مكتب إعلام ظفار تحت هذا المسمى، وكانت هذه القصاصات تأتي من وزارة الإعلام العمانية على ما اعتقد، إلى المكتب بصلالة، بهدف معرفة ما تكتبه هذه المجلات والصحف، وكنت أقرأ فيها أخبار وتعليقات عن الثورة في ظفار، وعن الأوضاع السياسية في عُمان عمومًا والحرب الدائرة في جنوب البلاد، وتولي السلطان قابوس -رحمه الله- الحكم، وازدادت المتابعة من هذه المجلة السياسية أكثر، بعد التغيير الذي جرى في عام 1968 وتغير اسم الثورة إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، كانت تأتي أيضًا مجلة الهدف الفلسطينية التي أسستها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وترأس تحريرها، الكاتب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني في لبنان، وكذلك جريدة النداء، لسان حال الحزب الشيوعي اللبنانية، التي توالي هذه الثورة أو تتعاطف معها، مع وصول صحف عديدة أخرى أغلبها يأتي من لبنان، بحكم النشاط الكبير في هذا البلد في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والحرية الممنوحة فيه. وتأسيس مجلة الحرية في 1959، وجاء صدورها، بعدما توقفت جريدة "الرأي" الناطقة باسم الحركة في حراكها السياسي غير المنظم، والتي أصدرتها الحركة من الأردن في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وجاءت الموافقة على صدورها، بعد انعقاد المؤتمر الأول للحركة عام 1956 ، وكانت معبرة عن حركة القوميين العرب، وترأس تحريرها القيادي في الحركة محسن إبراهيم، وخلفه لعدة سنوات الكاتب اللبناني المعروف فواز طرابلسي، كان التوجه القومي الظاهري منذ تأسيس الحركة، هو الفكر القومي، والأقرب للنظام السياسي الناصري آنذاك، لكن هذا التوجه شهد انعطافًا كبيرًا في مراحل عدة -سنشير إليها لاحقًا- وأقوى هذه الانعطافات التي تمت في رؤية المجلة وأصحابها، بعد نكسة 1967، وفيها تم إنهاء حركة القوميين العرب فعليًا.
برز التوجه القومي الأكثر حضورًا بعد الوحدة المصرية - السورية عام 1958، كانت أطروحات المجلة ومقالاتها متوازنة مع التوجه الفكري والسياسي الذي انطلق منه مع أهداف هذه الحركة قبل المؤتمر الأول وبعده بعدة سنوات، وهذا التوجه كان ضابطه القيادي الأول د. جورج حبش، وأهم المؤسسيين في حركة القوميين العرب، فمع انهيار الوحدة المصرية / السورية في أواخر 1961، بدأت مجموعة مجلة الحرية، ممثلة في القيادات الثانية في الحركة: محسن إبراهيم، ونايف حواتمة، ومحمد كشلي، تتحدث عن تأثير البرجوازية على سقوط الوحدة المصرية / السورية، وعن تساهل قيادة الوحدة عن هذا الفشل، وخطره على الاشتراكية العلمية، ومع صدور القرارات الاشتراكية التي أصدرها الرئيس عبد الناصر، في عام 1961بعد الانفصال، حصل ارتياحاً لكنه كان ناقصاً في نظرهم ، والسبب أن هذه القرارات الاشتراكية التي أصدرها الرئيس عبد الناصر، خلت من (الصراع الطبقي الجذري)، وجعلت الصراع الطبقي سلميًا وليس حاسمًا مع البرجوازية والرجعية.
ومن هذا المنطلق بدأ النقد يأخذ طريقه من مجموعة مجلة الحرية .. ومع نايف حواتمة بالأخص، لكنه جاء خافتًا ومتأرجحًا بين بعض كتابها ، لكن ليس عنيفًا بالقياس لما حدث منها بعد نكسة عام 1967، وكان لتأثير القيادة التقليدية لحركة القوميين العرب، قدرتها في ضبط النقد الحاد الذي تراه ليس في مصلحتهم في الظرف الراهن آنذاك، تجاه التجربة الناصرية ووقوفها معهم، وأن كان النقد تطّور بشكل ملحوظ، في الأعوام التي تلت هذه القرارات بين الفترة والأخرى، لكن حرب 1967، وخسارة العرب لهذه الحرب، بدأت مجلة الحرية، تبرز نقدها العنيف لنظام جمال عبد الناصر، وتتهمه بأنه نظام فاشل، بغياب الحزب الاشتراكية العلمي، والصراع الطبقي، ومن التهم أيضًا أنه برجوازي صغير، وأن أجهزة الاستخبارات، هي التي تدير هذا النظام ولا يعرف عنه الرئيس عبد الناصر، ويذكر د. جورج حبش في مذكراته (صفحات من مسيرتي النضالية) أنه قابل الرئيس عبد الناصر بعد نكسة 1967، فيقول: "شعرت أنه من الضروري أن أوضح وجهة نظري في الانتقادات التي كانت تكتبها مجلة الحرية عن الجمهورية العربية المتحدة وطبيعة نظامها. وهنا ذكرت له ـ كما يقول جورج حبش ـ أن المقصود من الانتقادات طبيعة بنية النظام. وليس قيادة عبد الناصر وشخصه ، وأننا نحمل للرئيس أعمق مشاعر الاحترام والتقدير.
وكان جواب عبد الناصر أنه لا يعير أهمية للانتقادات التي توجه إليه عادة من الأعداء ومن الصحافة بوجه عام ولكنه يتألم فعلاً حين تأتي هذه الانتقادات من الأصدقاء".
برزت مجلة الحرية بعد نكسة 67 وكانت أكثر وضوحًا في تبني الماركسية / اللينينية، وراديكالية في نقدها وتجييشها للصراع الطبقي في المجتمعات العربية وهي مجتمعات محافظة ، وليس هناك إقطاع أو طبقية بالقياس للمجتمعات الغربية في ظل الرأسمالية المتوحشة، وجاءت الأفكار الاشتراكية، المعتدل منها والعنيف لنقضها وكان تأثيرها كبيرًا في تراجع التوحش الرأسمالي في الغرب الليبرالي ، وليس معقولًا أن ننقل التجارب دون أن ننظر للواقع وحياته وثقافته، واستخدام القضاء على البرجوازية والرجعية إلى آخر المفردات المعروفة، والحسم في التطبيق الاشتراكي الجذري، وامتد النقد إلى فروع حركة القوميين العرب في دول أخرى، وبعد رحيل الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن، بعد حسم الصراع مع جبهة التحرير الوطني التي يترأسها عبد القوي مكاوي، والجبهة القومية التي يترأسها قحطان الشعبي والتي كانت تنتمي إلى حركة القوميين العرب آنذاك، بدأت مجلة الحرية في التحرك للتطبيقات التي ستحسن الصراع الطبقي، في مجتمع اليمن الجنوبي سابقاً، خاصة في حضرموت، ويروي الرئيس اليمن الجنوبي السابق، علي ناصر محمد في مذكراته) ذاكرة وطن.. جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967ـ 1990)، تحدث عما قام به نايف حواتمة، من أفكار عن الاشتراكية العلمية في اليمن الجنوبي الخارج وهو لتوه خارج من ظروف جديدة ـ وقد سبقت لذلك مجلة الحرية ـ من كتابات و طرح فكرة الصراع الطبقي وأهميته في اليمن الجنوبي الحديد بعد الاستقلال، فيقول :"يتحدث نايف حواتمة -وفق رؤية الأخير- عمّا حدث في حضرموت، وكأنها دولة منفصلة بذاتها عن جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، سواء في القضايا الداخلية، أو في السياسة الخارجية، لا عن محافظة من محافظات الجمهورية ينبغي أن تخضع لسلطة الدولة المركزية، مثلها مثل بقية المحافظات. إنّ حديث نايف حواتمة يعطي انطباعًا على غير ما ذهب إليه في تقييمه هذا، مفاده أنّ الرجل قد غيّر أولوياته النضالية وأصبح تحرير فلسطين يمرّ عبر تطبيق النهج الاشتراكي في اليمن الجنوبية. ومدخله وحسب قناعته (النظرية) إلى ذلك، ما جرى في محافظة حضرموت؟!! ". ص (122).
والإشكالية التي طرحها نايف حواتمة القيادي في حركة القوميين العرب، منذ انعطافها اليساري الماركسي، أن حواتمة، ينقل التجارب الخارجية، دون أن يدرك الفارق البيّن بين ظروف تلك الأفكار، والواقع المعاش، كما يرى علي ناصر محمد فيقول:" ولا بأس في أن يختبر قراءاته النظرية تلك في التطبيق العملي على ساحة الجنوب، ليكون حقل التجارب المناسب والمفتوح لأفكار كهذه، دون أدنى مراعاة لأولويات أهل الحقل وأصحابه الشرعيين، وهم بالتأكيد ليسوا بأولئك النفر الذين تعاملوا بشطط (ثوري) مع تلك الشطحات الفكرية المدمرة التي لا يتقبلها الواقع كمحافظة حضرموت المحافظة!". ص (123). كما تحدث الرئيس علي ناصر محمد في هذه المذكرات، عن لقائه في ليبيا عام 1970، وحديثه عن التجربة التي جرت في اليمن الجنوبي بعد التطبيقات الاشتراكية، وما ساهمت فيه ـ وكان لمجلة الحرية دور سلبي في ذلك ـ فيقول علي ناصر محمد :" أنّ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر علَّق ساخراً على هذه التأميمات في لقاء جمعني وإيّاه في طرابلس الغرب عام 1970م، متهماً القيادة الجنوبية بأنها تزايد على مصر وعلى سياستها الداخلية والخارجية، وذلك ردّاً على اتهامات علي سالم البيض لمصر بأنها دولة برجوازية ودولة مخابرات، واتهام عبد الناصر بأنه برجوازي صغير، فقال عبد الناصر:إنّ مصر أمّمت قناة السويس، وأنتم أمّمتم السينما الصيفية بالمكلا... وضحكنا جميعًا." ولا شك أن مجلة الحرية، سارت على منهجها الذي لا يتناقض مع فكر بدأ هاجسه بعيداً عن الفكر القومي الذي تبناه الفريق المؤسس بحسب الظاهر، وهذا ما تم منذ صدور العدد الأول للمجلة في عام 1960، ويذكر الباحث السوري محمد جمال باروت، في كتابه (حركة القوميين العرب: النشأة ـ التطور ـ المصير)، لقد بدأت مجلة الحرية في الخروج على الرؤية التي اتفق عليها في المؤتمر الأول، لكن حصل تغيير في النهج حيث:"تبنى المشرفون على هذه المجلة خطًا نظريًا تناول الانفصال بمنظور طبقي، وأعتبر الحدث نتاجاً للموقف المعادي الذي اتخذته طبقة الإقطاعيين والرأسماليين والبرجوازيين تجاه الوحدة والاشتراكية، فاجأ هذا المنظور الكوادر التقليدية لـ"للحركة" التي اشتمت منه روائح ماركسية غريبة عن لغة الحركة المحصورة بلغة قسطنطين زريق وساطع الحصري والحكم دروزة ونبيه أمين فارس وعلي ناصر الدين وهاني الهندي.. الخ بالقدر نفسه الذي تحولت فيه الحرية إلى خبز إيديولوجي لقواعد الحركة". ولذلك بعد النكسة مباشرة، استخدمت مجلة الحرية عدتها الفكرية اليسارية الحادة في نقد التجربة القومية التي مضت، وأنهتها بالطلاق الثلاث، وبالانقلاب على الحركة تماماً، دون أن يتم مناقشة كيفية الخروج من واقع الحركة إلى الواقع الجديد الراديكالي بمناقشة موضوعية ومنطقية ، لكل المتغيرات والتحولات السياسية في ذلك الوقت، وهذا لم يتم، لكن الثقافة الحركية في حركة القوميين، مثلما أرسته مثل هذه القرارات :(نفذ ثم ناقش)! وفي رواية د.غازي القضيبي الشهيرة (شقة الحرية)، على ما يجري في هذه الحركات السياسية ـ ولو أنها جاءت على شكل رواية ـ لكنها تحكي واقعًا تأكد حصوله وظهر لكل متابع للانقسامات والانقلابات على بعضهم البعض، فتقول القصة على لسان فؤاد:"هذه الحركة حزب فيه كل ما في الأحزاب من صراعات، وأجنحة متناحرة، ومؤامرات صغيرة وكبيرة. القيادة الجماعية التي تتباهى بها الحركة قد توجد في أذهان أتباعها لكنها لا توجد في الواقع. في نهاية المطاف، يتخذ "الحكيم" الدكتور جورج حبش، كل القرارات الرئيسية. الروح الديمقراطية التي تتغنى بها الحركة لا توجد، كل شيء بالتعيين. في كل مرة يعترض عضو فيها على قرار ما يقال له أن المبدأ هو"فذ ثم ناقش". ما فائدة المناقشة بعد التنفيذ؟!". وحتى الذين كانوا يلتقون مع مجلة الحرية في الفكر والتوجهات السياسية ذاتها، انتقدوا ما تطرحه هذه المجلة من مقالات وتحقيقات ومتابعات، وكانت الشكاوي كثيرة، سواء من منظمات ، أو تيارات، أو حتى حكومات.
ويذكر الكاتب فواز طرابلسي، في كتابه (صورة الفتى بالأحمر)، وهو عبارة عن سيرة سياسية للكاتب نفسه فيقول:"نشرت في ـ مجلة ـ "الحرية" تحقيقاً مطولاً عن زيارتي، وبعد صدور الحلقات الأولى، فوجئت بأن قيادة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي قررت منع أعداد "الحرية" التي نشرت التحقيق، من دخول المنطقة المحررة من ظفار، وزارنا وفد من الجبهة للبحث في الأمر مثيراً نقطتين :هي الاعتراض على النقد الذي وجهُته لـ"التطرف اليساري" للجبهة على توهمها إمكان تركيب مشروع لتحرير كامل الخليج العربي (..) أما الاحتجاج الثاني فكان على إثارتي المسألة القبلية لأن الحديث عنها، حسب زعم الوفد، يقسّم الشعب الثائر ويصرف الاهتمام عن الصراع الطبقي".. وللحديث بقية.