يحل هذه الأيام من كل عام –إذا استثنينا ما فعلته الجائحة بنا– موسم حفلات التخرج من الجامعات والكليات المختلفة في عُمان. كنتُ ذات يوم طالبة جامعية ولم أستطع الانخراط تمامًا في طقوس هذا الموسم، لكنني لم أكن وحدي، بل طلاب آخرين كثر، يفكرون بأنهم على عتبة حياة جديدة، خارج تقويم الحياة الدراسية وقيودها المختلفة -كم سيكتشفون بأنهم مخطئون مع مرور الوقت- فالحياة في خارج حدود الجامعة ليست مسترخية، ولا تتنعم فيها براتبك الشهري، بينما تكبر وتنضج مستطعمًا لذة العيش والمغامرات الجديدة.

هذه الفترة من العام مناسبة يمكن أن نستدعي فيها الخطاب الأكثر شهرة من خطابات التخرج في الألفية الجديدة، وهو "إنه الماء" لديفيد فوستر والاس، في جامعة كينيون عام 2005 والذي نُشر في كتاب بعد وفاته. يبدأ بافتتاحية يسوقها والاس عبر أمثولة قصيرة، إلا أنه سريعًا ما يقول لنا أن هذا هو المعتاد، أن يبدأ المرء خطابه بحكمة، خصوصًا عندما يأتي هذا الخطاب ممن يفترض أنهم أكبر سنًا وأكثر خبرة في الحياة، لأولئك الشباب الأغرار على عتبة البداية. لكنه يستدرك على الفور: "لستُ السمكة الحكيمة".

في أمثولته تلك يشير والاس إلى يوم تتمشي فيه سمكة عجوز في اتجاه معاكس لسمكتين شابتين، لتسألهم السمكة العجوز عن أخبار الماء؟ الأمر الذي سيستقبله الشباب باستغراب ودهشة كبيرين، عن أي ماء يتحدث؟ كان والاس يريد أن يشير لأهمية البديهيات التي يمكن أن تكون مسألة حياة أو موت، خصوصًا وأن الطلاب عادة ما يضيعون أمام حلقة مفرغة من الأفكار المجردة التي تحول دون رؤيتهم للواقع أمامهم، ولما ينبغي أن يفعلوه من أجل أن يعيشوا حياتهم بشكل أفضل، فالجامعة لا تعلمنا أننا مقبلون على عيش ما يسميه والاس "يومًا تلو الآخر" أي حياة البالغين المضجرة والكئيبة التي ستعيد نفسها كل يوم بعد التخرج عندما نحصل على فرصة عمل.

لا نفكر كطلبة في الجامعة، وعندما نفكر لا نستطيع التصريح بأننا نعتقد أننا مركز الكون يقول والاس: "نحن نادرًا ما نتحدث عن هذا النوع من الإحساس الطبيعي والأساسي بمركزية ذواتنا لأن هذا الأمر يعتبر من المنفرات الاجتماعية بالرغم من أننا نتقاسم هذا الإحساس في أعماقنا" وعوضًا عن ذلك نكون كائنات ممتلئة بأنفسها وبيقينها الشخصي، فلا يعود هنالك ما نشك فيه، وليس لدينا وعي نقدي بخصوص أنفسنا وقناعاتنا. وعندما نفعل ذلك، نفعله بآلية وبدائية تؤكدان مركزية ذواتنا فحسب "مشاعري الملحة يجب أن تكون المحدد الأساسي لأولويات العالم."

إن مقاومة هذا التمركز على الذات والتحرر منه - التحرر الذي لا يحدثنا عنه أحد، فهنالك الحديث عن الحرية الفردية وتحصيل الرفاهية، لكن قدرتنا على الخروج من أنفسنا والالتفات لما هو حولنا، أمر صار العالم الذي نعيش فيه لا يوليه أهمية، العالم الذي ينبغي أن تصعد فيه على جثة أخيك من أجل الحصول على مجدك الشخصي أو المال الوافر، دون أن تشعر بأي ذنب حيال ذلك- يحتاج إلى الإرادة وبذل الجهد، لا أحد يتوقع منك أن تفعل ذلك بشكل آلي. تذكرتُ هنا مرة لحقتُ فيها سيارة وأنا أغادر مواقف البناية، كنتُ أمر بوقت عصيب للغاية، وأشعر بالغضب، وبعد أن قطعت مسافة، عدتُ أدراجي للمواقف لأترك رقمي على زجاج السيارة الأمامي، لأتكفل بإصلاح ما فعلته، كنتُ في المسافة التي قطعتها أفكر في مسؤوليتي تجاه ما حدث، في العالم الذي قد يفعل فيه الناس أشياء لا يتحملون فيه المسؤولية، ولم أستطع إلا أن أعود للمواقف وأواجه عاقبة ما فعلت.

يكتب والاس: "إذا ما تعلمت حقًا كيفية إيلاء الاهتمام فستدرك أن هنالك خيارات أخرى. ستكون قادرًا على مواجهة وضعية استهلاكية جحيمية بطيئة وحارة ومزدحمة وإدراك أنها تجربة مقدسة مليئة بالمعنى مفعمة بالقوة ذاتها التي ولدت منها النجوم: الحب والرفقة والتوحد الباطني الذي يكمن في عمق الأشياء." يؤمن والاس بأننا جميعًا نعبد شيئًا ما، وربما يكون لدينا القرار حول ما نريد عبادته من أشياء هذا العالم. فإذا عبدت الأموال لن تشبع، وإذا عبدت جسدك سترى نفسك بشعًا، وإذا عبدت ذكائك ستشعر بأنك غبي. لقد تحولنا في عالم هذا اليوم إلى كائنات مليئة بالغضب والإحباط والشره وتقديس الذات. فيما الحرية الحقيقية تكمن على حد تعبير والاس: "في الاهتمام والإدراك والانضباط والقدرة على رعاية الآخرين والتضحية من أجلهم مرارًا وتكرارًا." وذلك من خلال طرق بسيطة تعيدنا للفكرة البديهية: "إنه الماء".

من المهم جدًا أن نتبنه لمسألة "بذل الجهد" و"الإدراك" إذ أن والاس يواجه هنا تلك الطبقات المتراكمة فوق بعضها البعض في عالمنا المعاصر التي تجعل من "اللاوعي" و"الوضع الافتراضي" أكثر انحيازًا لتمركز ذواتنا وشعورنا بأننا محور كل شيء.

سيكتب توم بيسيل في نيويورك تايمز بعد الخطاب بأربع سنوات، عن دهشته من خطاب والاس هذا، عندما اختار البساطة ولونها ببعض المتاهات بين الحين والآخر عندما وجه أسئلة من نوع: "فكر في الأمر هل كنت في أي وقت من حياتك خارج المركز المطلق للعالم" والوحدة الأساسية لحياة البالغين:" أسياد ممالكنا الصغيرة" يقول بيسيل كان العنوان صادقًا ومضحكًا ودافئًا بلا هوادة، ومن الواضح أن العنوان كان من عمل رجل حكيم ولطيف للغاية. على الرغم من ذلك، كان هناك شيء آخر عند الحواف - الإحساس الخافت ولكن الواضح بأن والاس قد مر بظلام شديد، لا يزال هذا الظلام متشبثًا به، ولكن ها هو، اليوم، قد تغلب عليه، وقد نجح في ذلك. ويشير بيسيل هنا إلى انتحار والاس، ان التفكير بهذا مخيف للغاية، أن يكون هذا الإنسان اللطيف الذي دعا لكل هذه اليقظة تجاه الآخرين والعالم من حولنا غير قادر على مواصلة العيش. يُذكر أن والاس جاء على ذكر الانتحار في الخطاب وقد قال: "أغلب المنتحرين يموتون -فكريًا- قبل ضغطهم على الزناد بوقت طويل".