(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).. الآية الكريمة تقرر أن القرآن امتداد لخط النبوات الطويل الذي سبقه، وهي كذلك تكثّف رحلة التكوين المعرفي لدى الإنسان، فلا معرفة تبدأ من الصفر، بل هي ثمرة لما غرسه المتقدمون. وفي الدراسات الآثارية يعتبر العثور على ألواحهم ثروة لا تقدّر بثمن، فقد كانت الكتابة مدخلًا لفهم الحضارات القديمة، ومنها عرفنا ما يتعلق بها من لغة ودين وسياسة وثقافة وعلاقات ووشائج. فالفعل الحضاري مترابط، إنه قصة واحدة ذات فصول؛ آخذ بعضها بحجزة الآخر.

ومن يسلك سبيل البحث الحضاري عليه أن يهتم بالألواح التي أثبت الأولون فيها معارفهم، وأرّخوا عليها أيامهم، ودوّنوا بها أسماء ملوكهم وعظمائهم، ورصّعوا فيها معتقدات أديانهم وآداب ملاحمهم. وهذا ما آمنتُ به منذ اليوم الأول الذي وضعت فيه قدمي على طريق البحث عن حضارة سَلّوت المفقودة، التي لم يتبقَ منها على السطح إلا أطلال تنهشها الأيام بمخالبها، ولكن يكفي ما بقي أن يشير إلى عظمتها وجليل أثرها في المنطقة، وهو ما بدأنا نكتشفه، ونتتبع أثره يومًا بعد يوم، ونسجّله في دفاتر العلم، ونرصده بعدسة التوثيق، راجين الله أن نضع خارطة أولية للحضارة العمانية الأولى. والتي أصبحنا مقتنعين بوجودها، ومطلعين على أهم معالمها؛ كالمدن والمعابد والأسوار والقبور والقصور، وقد أنتجنا عام 2018م فيلمًا وثائقيًا عن معبد «ني صلت» بإخراج حمد القصابي وعلي البيماني.

وبدأنا إدراك أبعاد هذه الحضارة، حيث تشكّل الألفية الثالثة قبل الميلاد مرتكز تأسيسها، وتتمدد من رأس الحَدِّ شرقا إلى خَصَب شمالاً، متخذة سلسلتي الحجر الشرقي والغربي عمودا فقريا لها، تنساح أضلاعها من جهة باتجاه البحر، وتتمدد نحو الصحراء من الجهة الأخرى، بل بدأنا رصد شيء من اللغة التي كان أولئك القوم يتكلمون بها، ونشرتُ بذلك بحثا أوليا في مجلة «لسان العرب»؛ التي يرأس تحريرها عالم اللغة السومرية الدكتور عبدالمنعم المحجوب.

ثلاثة مواسم معتدلة الطقس.. من أكتوبر حتى مارس؛ من العمل المتواصل في البحث عن حضارة سَلّوت وفحص بواقيها، التي شاركني فيه ابني عبدالرحيم:

الموسم الأول (2019/2020م).. استكشفنا عمان بعمومها، حتى عرفنا جغرافية الحضارة وامتدادها الزمني، وأهم معالمها وخصائصها.

الموسم الثاني (2020/2021م).. وضعنا أيدينا على مركز ثقل هذه الحضارة، وهي مدينة كَدم، التي تضم الجزء الأكبر من ولاية الحمراء، وجزءًا من ولاية بَهلا، يلفها سور يبلغ طوله حوالي 25 كم، اكتشفناه لأول مرة، ونشرت بذلك مقالاً: «كَدم.. أقدم عاصمة في عمان». وحددنا مركزها الإداري الذي يضم حوالي تسع رسمات؛ كبيرة ومتوسطة الحجم، على صفائح الجبال وصخورها المتناثرة؛ ما نخاله صورًا لحكام كَدم، واكتشفنا لوحات صخرية بها كتابات ورسمات متنوعة، ووصلنا إلى ما نحسبه كهوفًا تعبدية. كما تتبعنا أفلاج المنطقة الزراعية وسدودها، التي يشير النظر الأولي إلى أن أصولها ترجع إلى نشأة كَدم في الألفية الثالثة قبل الميلاد.

الموسم الثالث (2021/2022م).. وفيه انضم إلينا خالد الوهيبي وأحمد عارف، شرعنا بمرحلة التصوير والتوثيق لمعالم كَدم، والتي سيعقبها تصنيف الصور وتبويبها؛ نوعًا وزمنًا، ثم تحليلها وقراءتها. وكل ما في هذه المدينة مهم، لكنه يتعرض للاعتداء السافر والتدمير الماحق، وقد نبّهت عليه في مقال «وحش المحو ينهش حضارتنا»، ولا زلت أستحث المسئولين على حماية هذه الآثار العظيمة، كما أدعو المنقبين والباحثين في الآثار أن ييمموا وجوههم شطرها، والتي حافظت على وجودها حوالي خمسة آلاف سنة، قبل أن تسفيها رياح العمران العقيم فلا ترى لها أمتاً.

كل ما بقي من أوابد حضارة سَلّوت مهم، ويأتي في أعلى سلم الأهمية الرسمات والكتابات التي تحتفظ بها جدر الجبال وصفائح الصخور، أما الرسمات فهي كثيرة ومنتشرة، ومع صعوبة تحليلها.. يمكن تقديم قراءة تأويلية لها بطريقتين:

الأولى: مقارنة الرسمات الموجودة لدينا بالرسمات المدروسة من الحضارات المجاورة، فكثير منها رموز دينية واجتماعية مشتركة، وبهذه الرموز يمكننا وضع تصور عن دلالاتها بغية الوصول إلى توصيف عام لأنظمة حضارتنا.

الثانية: فهم المنطق الداخلي للرسمات، فواضعوها لم يرسموها عبثًا، وإنما من خلال رؤيتهم للحياة، وممارستهم اليومية لسلوكهم، فكل أعمال الحضارة ينتظمها خيط مغزول من بيئتها، فقراءة طبوغرافية المنطقة يساعد على فهم رسماتها.

وبالجمع بين الطريقتين.. يمكن اكتشاف العديد من خفايا الحضارة البائدة، وما إن تمسك بطرف منها حتى تسلك في دروب خارطتها شيئًا فشيئًا.

وإن كانت الرسمات لغزًا معمى لمن لم يهتدِ إلى فهمها سبيلًا؛ فإن الخطوط الكتابية أشد طلسمةً، لأنها غالباً يصعب مقارنتها بالخطوط الأخرى؛ لتعدد اللغات في استعمال حروف مشتركة. ولأن الكتابة هي نطق مرسوم برمز، فمهما بلغت من كفاءة قراءة النص القديم؛ فسيظل اجتهادك مشوبًا بالتخريص، لذهاب التصويت نسيًا منسيًا، فلا ينفع التأويل كثيرًا كالرسمات، فلكل حرف عند قوم نطق محدد ومعنى معين. ثم إن الخطوط قليلة مقارنة بالرسمات المنبثة في عمان، فحتى تعثر على خط واحد عليك أن تبذل جهدًا مضنيًا، وتبحث في أماكن عديدة، تصعد خلالها عقاباً وتنزل وهادًا، وقد تجد الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين، ونادرًا ما تجد أسطرًا. وكثير من هذه الخطوط قد مال بها الزمان للانطماس؛ فشحب بعضها وتآكل الآخر.

إن فك رموز الكتابة العمانية القديمة، والقدرة على قراءتها؛ سيكون إنجازًا كبيرًا في ميزان العلم والحضارة، فبه نتمكن من فهم مراد الأولين مما خلّدوه على صفا الحجارة، ونبصر حقبة من تأريخنا كانت ظلامًا دامسًا. ويضع حضارتنا في مصاف الحضارات القديمة الكبرى، التي غدت بالإمكان قراءة آثارها ومعرفة عناصرها والوقوف على أحداثها وشخوصها وأديانها، بالعثور على ما سُطِّر على الألواح والآنية والصخور والجدران. وأما فائدتها المعاصرة فلا تخفى، حيث ستصبح محجاً للسياحة، ومقصدًا لمن أراد دراستها، وفتحًا علميًا لن يغلق بابه، وموردًا اقتصاديًا لا يجف نهره.

والخطوط في عمان.. حتى الآن لم تخضع للدراسة المسحية والتحليل العلمي، وهناك جهود رائعة قام بها مستكشفون عمانيون وغيرهم، ولا يزال الطريق طويلاً، والعقبة كأداء. ويصب عملنا في البحث عن حضارة سَلّوت في المصب العلمي لهؤلاء. وما نطمح إليه هو أبعد من ذلك، فما وضعناه نصب أعيننا أن نقوم بمسح شامل للخطوط القديمة على طول الخارطة العمانية، ثم توثيق كل الرُقُم الصخرية بالصور المربوطة بإحداثياتها الرَّقَمية على جغرافية الأرض، ثم دراستها دراسة علمية موضوعية، بتصنيفها؛ لغويًا وزمنيًا وجغرافيًا، ثم ترجمة ما نقتدر عليه من نقوش لا تزال محافظة على شكلها بوضوح. ونرجو من هذا العمل أن يحدث قفزة نوعية على المستوى الحضاري والوطني، لاسيما.. إن وجدنا الدعم له، وهو ما يمدنا بالأمل لقراءة جانب من تأريخنا الذي نظنه قد أفل نجمه.

الكتابات الصخرية في عمان تنقسم إلى مجموعتين:

- الكتابة العربية الحديثة، ظهرت في عمان مع دخولها الإسلام، وبحسب تتبعنا لم توجد قبله، فعمرها أقل من 1400عام.

- الكتابة «المسندية»، كُتب بها قبل الإسلام، وظلت مستعملة لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وهي منتشرة في ربوع عمان، من خَصَب حتى ظفار، وقد اكتشفنا في مدينة كَدم وحدها حتى الآن حوالي 20 نقشًا، مما قد تمثّل فصلًا علميًا مهمًا. وهذا يجعلنا نتساءل: هل كتب العمانيون بـ«المسند» بدايةَ العهد الإسلامي؟

إن أملنا لا يقف عند حدود الخطوط المتفرقة بين الجبال، بل نطمح أن نجد ألواحًا فخاريةً وحجريةً مدونًا عليها حوادث الأزمنة السحيقة وعلومها، وأديانها ومعابدها، وأسماء ملوكها وحروبها. فإن حضارة مركزية كحضارتنا يبعد ألا توجد لها ألواح مدونة، فالأمل قائم، ولا أراه إلا متحققًا مع بذل الجهود في التنقيب وحفريات الآثار.

•باحث عماني متهم بالقضايا الفكرية والتاريخية ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».