(ثمة انسدادات جوهرية تقف اليوم أمام الإطار المادي العاري من سياسة القيم الحقيقية في سياسات الدول الكبرى، وسيبدو ذلك واضحاً كل الوضوح في القانون الدولي، الذي هو أضعف القوانين تنفيذاً من حيث الالتزام)

منذ أن نزعت الحداثة السحر عن عالم المسيحية الأوربية قبل أربعة قرون كانت قد نزعت في طريقها إلى ذلك؛ البراءةَ عن أمور كثيرة تتصل بفعل الدين في المجال العام. وكانت السياسة جزءا أصيلا من تلك المجالات التي نزعت عنها الحداثة مفهوماً رعوياً أبوياً طالما أضمر في عباءته القديمة شروراً كثيرةً باسم تلك الأبوية المزعومة.

ومنذ أن أطلق الفيلسوف البريطاني توماس هوبز مقولته الشهيرة: «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» كانت السياسة هي المقصود الرئيسي بتلك المقولة، وعلى ضوء تلك المقولة كانت الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة التي وضع على ضوئها اسماً أسطورياً دالا على حيوان خرافي كلّي القدرة: «الليفاثانان» لكتابه المؤسس في علم السياسة جزء من ذلك الوعي المختلف لفكرة إدارة التناقضات الإنسانية التي يتعين على السياسة الاضطلاع بها بعيداً عن عناية السماء في العصور الحديثة لأوروبا والعالم.

والحال فيما كانت الحداثة تعيد إلى الإنسان ثقةً بوكالته الإنسانية للاضطلاع بشؤونه في ترتيب الوضع الإنساني؛ كانت الحداثة السياسية هي الجزء الصلب من تلك الوكالة. لقد كانت إحدى علامات الحداثة السياسية الكبرى للعالم الحديث هي اتفاقية «وستفاليا» في العام 1648 التي أنهت الحروب الدينية لأوروبا، وفككت الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى دويلات دنيوية تقوم السياسة فيها على «أساطير» قومية تجعل الواقع هو الأسطورة الأكبر في ترتيب الأحداث والعلاقة مع القوانين الصارمة لذلك الواقع.

لهذا ستبدو اليوم؛ القيم المركزية لحقوق الإنسان (تلك التي طالب بتأطيرها تأطيراً أصلياً مستقلاً في السياسة الدولية؛ مفكرون وفلاسفة إنسانيون كبار من أمثال الفيلسوف الأمريكي المعاصر نعوم تشو مسكي) ليست وضعاً مستقلاً بذاته في وعي راسمي السياسات للدول الكبرى، كالولايات المتحدة، وإنما تأتي مؤطرةً بحدود تقاطع المصالح التي تقتضيها المواءمة مع تلك الحقوق بحيث تبدو كما لو أنها مستقلةً ولكنها في الحقيقة ليست كذلك! لقد بدا واضحاً، بحسب مفكرين آخرين منهم؛ وائل حلاق، أن تلك النظرة التشيئية والتجزيئية القائمة في أصل النظام العلماني لإدارة السياسة الحديثة تعتبر مأزقاً عكس انفصاله عن الأخلاق اليوم الكثير من الأزمات البنيوية في عالم السياسة. لكن، في الوقت نفسه، سيظل الأساس المادي للحداثة وفلسفته القائمة على نزع القداسة عن الدين هو الأصل الذي يستحيل عليه أن يعيد الأخلاق بمعناها الإنساني المطلق إلى عالم السياسة بالرغم من الأسس الأخلاقية التي لا يرى فيها العقل الفلسفي الحديث تناقضاً أصلياً (من حيث الإمكان لا من حيث الفعل) كما هو في إدارة سياسيات عالم اليوم انطلاقاً من الأساس المادي للحداثة السياسية! إن سياسيات عالم اليوم، فيما هي تختبر وتقع في تناقضات كبيرة، وتتفاجأ بأوضاع جديدة شلت قدرة العلم شبه المطلقة في الوعي الإنساني الحديث؛ مثل وباء كورونا، ربما ستعيد تفكيراً فلسفياً جديداً في كثير من الأسس التي تحكمها.

وفيما كانت السياسة عبر فكرة الدولة الحديثة منذ اتفاقية «وستفاليا» قد سكَّنَتْ أحوال الاضطراب التي عصفت بالمجتمعات الأوربية طوال القرون الوسطي عبر حروب الإمبراطوريات الدينية لأوروبا، سيظل الإشكال الرئيسي قائماً في اعتبار السياسة مجالاً مادياً بحتاً للمصالح وعارياً، في الوقت ذاته، من الأخلاق والقيم، إلا فيما يعرف بسياسة القيم، التي ترهن قيم حقوق الإنسان بمنظومة تلك المصالح القومية للمواطنين في سياسات الدول الكبرى.

ثمة انسدادات جوهرية تقف اليوم أمام الإطار المادي العاري من سياسة القيم الحقيقية في سياسات الدول الكبرى، وسيبدو ذلك واضحاً كل الوضوح في القانون الدولي، الذي هو أضعف القوانين تنفيذاً من حيث الالتزام، كما أن نظام «الفيتو» الذي ظهر عشية تكوين المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لا يزال اليوم يمثل تعويقاً أساسياً للكثير من قيم العدالة الإنسانية حين تتضارب مع المصالح السياسية للدول الخمس الكبرى صاحبة حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي! هناك اليوم مَنْ يدرك تماماً الحاجة إلى نظام سياسي عالمي جديد، لكن في الوقت نفسه فيما يظل هذا الإدراك قائماً على قناعات فلسفية إنسانية راسخة، سيبدو الطريق للوصول إليه غامضاً على نحوٍ ربما يستدعي تفكيراً فلسفياً خارج الإطار المادي للحداثة السياسية، وفيما قد يعني هذا الأخير خروجاً عن الأقانيم المادية للحداثة، سيكون الإشكال قائماً حيال الحيرة الكبرى للعقل الفلسفي الحديث!