الهدوء فن لا يتقنه أغلب الناس، و نحن أحوج ما نكون للهدوء في حالة مواجهة النقد؛ وكما أن للنقد مهاراته وأساليبه، فلتلقي النقد كذلك مهارات وأساليب قد تغيب عن كثير منا أوان تعرضنا للنقد. فما هي هذه المهارات ؟ وهل نحتاجها فعلا ؟
إن بدأنا بالإجابة على السؤال الثاني سنقول: نعم نحتاجها أفرادا و مسؤولين و مؤسسات .
نحتاجها لأسباب عديدة تتمثل في الآتي :
النقد أداة لقياس درجة التأثير؛ حيث لا يمكن أن تتعرض للنقد وأنت سلبي في ثباتك غير الفاعل، لكنك تنتقد حين تتحرك لتعمل، فتخطئ وتصيب، تتميز فتبدع، أو تحاول فتكبو أنت، أو تكبو دون أهدافك الوسائل، وليس في ذلك أي غرابة؛ إذ تدعو الحركة للأثر، ويدعو الأثر للقراءة، وتحتمل القراءة تأويلات مختلفة بحسب المتلقي، ومن المنطقي حينها أن يسعدني أنا أوأنت (محدث هذا الأثر) كل ما خلّف العمل المنجز من قراءات وتأويلات و رؤى، دون أن نفترض – يقينا – صدورها بأسلوب واحد نرضى عنه ونسعد به، لكن المأمول أن تكون كلها محفزة على التعديل في العمل، والتطوير في السبل، والتنمية في الذات .
استمرار التعامل مع النقد بأشكاله يورث القدرة على التعامل معه بالضرورة، على أن نمتلك الهدوء عند تلقي النقد، لنعبر سطح التلقي للنص الناقد إلى عمق الفكرة المتضمنة داخل النقد، فليس عليك أن ترد على النقد بانفعال، ولا بغبطة، لكن عليك شكر مرسل النقد أيا كان أسلوبه، تعزيزا لهدوءك أنت أولا أمام انفعال اللحظة، وتسكينا لانفعاله هو أمام نشوة الإرسال، هجوما كان أو إطراءا، ثم حسن التعامل مع الفكرة بعد ذلك، بتعزيزها إن تبين لك تميُزها و جِدّتُها، أو مناقشتِها إن تبين لك قصورُها و غرابتُها .
وليس الهدوء في تلقي النقد بالأمر الهين إلا على متمرسٍ ثابتِ الجأش؛ إذ من الصعب على المرء فصل مادة النقد عن مرسلها أو عن متلقيها دون جعلها شخصية، نتلقى النقد – إن تضمن رفضا أو مساسا بمشروعنا فكرة أو منجزا - فنفكر في شخص المرسل وأسباب رغبته في النيل منا ومما وضعنا من أثر، أو حتى من صمتنا عن الأثر، ونرسل النقد فنفكر في شخص المنقود، فنتناوله بالتركيز دون الفكرة أو المشروع المنجز أو المسكوت عن إنجازه، على أن الهدوء مهارة رائعة نحتاجها مفتاحا للنجاح والتوازن وتفعيل ما حولنا من أفكار ونقاشات.
حين لا نملك مهارات تقبل وتفعيل النقد مضمونا محفزا إيجابيا فنحن نغلق الباب دون الكثير من مكملات الجهد، و ممكنات الفكر في تكاملية اختلافه، إذ يوضح النقد ما قد يكون استغلق علينا، وقد يحرّك مكامن طاقاتنا الفكرية الإبداعية لتحدي المُنجز الحالي لمأمول أفضل و أرحب و أجمل .
ومن المؤسف أن تحملَ ذواتُنا العاملة بإخلاص و جهد هشاشةً تجاه النقد و تلقيه، إذ يجدرُ بالذاتِ العاملةِ المبدعة أن تتحلى بالصلابةِ و المرونةِ في تلقي النقد بأشكاله، ثم التمكن من تحويله لطاقات خلّاقة لمتغيرات إيجابية مبدعة، لكن هشاشة مجابهة النقد قد تفضي بالفرد ثم المؤسسة (التي تقوم بالضرورة على مجموعة من الأفراد) إلى الانكفاء على الذات، وعدم القدرة على التطور الملازم للديناميكية القائمة على الاختلاف والحركة في تفعيل أشكاله، كما أنها تفضي للعزلة، أو للاستهداف من قبل المنتقدين لما قد يلمسونه من ضعف المقاومة و قصور التلقي .
ما أجمل أن نبدأ بترويض ذواتنا لتقبل النقد، بداية بدوائرنا الفردية وتعاملاتنا اليومية أسريّا واجتماعيا، فنزرع في أطفالنا مرونة تقبل النقد دون شعور بالنيل من ذواتنا وأفكارنا ، مرورا بدوائرنا الوظيفية مهما كانت صفتنا الوظيفية مرؤوسين أو رؤساء، وختاما بدوائرنا المؤسسية التي تجْمُلُ وتكْمُلُ باستيعاب النقد واحتوائه وتفعيله لما فيه خير الوطن ومواطنيه ومقيميه .
ولعلّ تراكم الخبرات مع تراكم النقد يفضي بنا إلى هذه المهارات المأمولة في فن النقد وتلقيه، كما ينأى بنا عن التشخيص والتجريح، نقدا فاعلا بنّاء، واستقبالا فاعلا بنّاء.