يا من هواهُ أعزهُ وأذلني

كيف السبيلُ إلى وصالِكَ دلني

رائعة الإمام السيد سعيد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت.1810م)، ثاني أئمة عُمان في الأسرة البوسعيدية، كيف لها أن تكون شبه مجهولة في موطن شاعرها وتسافر إلى جميع الأنحاء بغير جوازها العُماني؟، فتجوب أطراف الدنيا مسافرة كالطير المهاجر، تتلقفها الآذان والقلوب وتخترق الأفئدة عبر حناجر المطربين العرب، إعجاباً بجزالة كلماتها وروعة بنيانها الشعري. نص خالد مات في وطنه وعاش في غيره! ذلك إن هذا النص الخالد كان يفترض أن يكون عموداً من أعمدة الغناء العُماني تتناقله الأجيال وتتربى على جمالياته النظمية والنغمية الأجيال كرمز من رموز الثقافة والهوية العُمانية في الغناء العربي.

وهكذا عندما نتحدث عن هذا النص والتيه الذي أصابه، نحن أيضا نتحدث عن أحوال الموسيقى والغناء وما أصابهما والمشتغلين فيهما من تعسف وقهر في القرون الماضية، وكيف أن تلك الأسباب أدت إلى إضعاف القوة الناعمة العُمانية. ولكن رغم هذا قد يقول قائل: إن التقصير تجاه هذا النص وأمثاله سببه الموسيقيون العُمانيون أنفسهم !، وهذا فيه بعض الحقيقة وليست كلها، ذلك إن إخراج الفن الموسيقي من المعادلة الثقافية في الماضي جر معه الشعر وأشياء كثيرة أخرى إلى المصير ذاته، لإن فن السماع أو الغناء مقترن بالشعر منذ بداية الكلمة إلى نهايتها.. سنة الله في خلقه. فعناصر الثقافة كالجسد الواحد "إذا اشتكى" عنصر منها نالت بقية العناصر من ذلك نصيبا.

القصيدة (أي قصيدة) لا بد لها من لحن مطرب.. فالقصائد لم تخلق إلا للغناء، وأول الشعراء مغنّون، والعكس صحيح. وقصيدة " يا من هواه " كان فيها لحنها الذي لم يستخرجه أحد من قبل ولعل محاولتنا المتواضعة في موشح " يا من هواه " قبس من لحنها السري الذي كان يردده المطربون في خلوة طربية بعيدة عن الآذان والأعين المتربصة بالفن والجمال قمعاً وتنكيلاً.

قبل أكثر من عشرين عاما وأثناء إعداد رسالة الماجستير تعرفت على رائعة السيد سعيد في كتاب الشيخ والمؤرخ نور الدين السالمي "تحفة الأعيان في سيرة أهل عُمان"، وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف أن هذا النص لشاعر عُماني. من هنا أزعم إنني مكتشف له، فألزمت نفسي منذ ذلك الوقت بإعادة إحيائه لأنني أعتقد أنه كان يتغنى به في زمان صاحبه، فتزينت به رسالتي الماجستير وهكذا بدأت علاقتي بهذه التحفة الشعرية.

غنى هذا النص "يا من هواه" الكثير من المطربين في اليمن والخليج والعالم العربي ولا يزال ينال الاهتمام. صنع له العديد من الألحان، ولكن في الغالب كان يكتفي المطربون بمطلع القصيدة كموال.. ومن الجدير بالاهتمام إن الفترة التي عاش فيها الإمام سعيد كانت فترة انتشار الغناء العودي على يد عدد من رواد الشعر والغناء اليمني المهاجرين والجوالين والذين لا تزال نصوصهم وألحانهم يتوارثها المطربون جيلاً بعد آخر كإرث مشترك في الجزيرة العربية. ومن أشهرهم: المطرب والشاعر يحيى عمر (ت.حوالي. 1739)، والمطرب والشاعر خو علوي؛ زين العابدين عبدالله بن العلوي الحداد الذي توفي حسب رواية الباحث الفرنسي جان لا مبير في بلدة الصير جلفار/ رأس الخيمة (حوالي 44-1745) وغيرهم من المطربين الجوالين براً وبحراً في أرجاء المنطقة طولاً وعرضاً ومنها عُمان.

ولأن تاريخ الموسيقى العُمانية لا يزال مجهولا، ونعثر بين الحين والآخر على ومضات تثير الأسئلة أكثر مما تقدم إجابات، أود في هذا السياق أن أنوه للمهتمين بأن سيرة شاعرنا الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي بحاجة إلى دراسة أكاديمية والبحث عن أشعاره وإعادة تقييم المعلومات المكتوبة عنه في بعض مصادر التاريخ العُماني.