رغم أن عنوان الكتاب ("مدخل جانبي إلى البيت") يوحي أن أمل السعيدي ستدخل بضيوفها/ قرائها إلى بيتها من "مدخل جانبي"، ما يشي بأننا لن نرى من البيت إلا جزءًا يسيرا مما تسمح به المضيفة، إلا أننا بمرور الوقت واستمرار القراءة سنكتشف أننا توغلنا في كل غرف البيت، ودهاليزه المظلمة، وشاهدنا الأسرّة العلوية والسفلية، بل وتمكنا حتى من قراءة بعض رسائل الأم الحميمة التي تخفيها في صندوق أسفل الدرج.

"يأتي البيت إلى الدنيا ليس عندما ينتهون مـن بـنائـه، وإنما عندما يبدؤون بسكناه"، هكذا يؤكد الشاعر قيصر باييخو في إحدى قصائده، وهكذا كانت الطفلة أمل التي لم تتجاوز سنواتها العشر بعدُ متلهفةً لدخول البيت الذي انتُهي من بنائه منذ فترة: "متى سننام في هذا البيت الجديد؟". لكن لقاءها الأول بالبيت كان "غائبًا، وغريبًا، وصادمًا، كما سيكون دائمًا"، إذ دخلته لأول مرة وهي نائمة، ولم تصحُ إلا على رائحة طلائه الجديد التي نفذتْ إليها فأيقظتها في منتصف الليل، وتركتْها في حالة اغتراب عن هذا المكان الجديد، هذا الاغتراب الذي سيلازمها لاحقًا أينما ذهبت، وستُمضي حياتها بحثًا عن بيت الطفولة المفقود؛ البيت الذي لا يوجد إلا في خيالها، "لم يكن هذا البيت مكانًا لأي شيء"، هكذا تكتب أمل، ولعلها لهذا السبب حولته من مجرد مكان صغير إلى زمن شاسع، متمترسة خلف عبارةٍ لرولان بارت في كتابه "جماليات المكان" صدّرتْ بها كتابها "إن المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفًا، هذه هي وظيفة المكان". كل ما حدث في حياة الساردة مما يستحق الذكر مؤرَخٌ ببيت الطفولة هذا؛ الأفعى التي قتلتها أمها في أيام البيت الأولى، الفواق الذي أصاب الطفلة الصغيرة بعد ذلك بأسابيع، والذي لم يذهب للمفارقة إلا بالذعر الذي سبّبه اتهامُها ظلمًا بكسر مصباح واجهة البيت الأمامية، اضطرارها للمشي كيلومترًا ونصف يوميًّا حتى تصل إلى الحافلة التي تقلها للمدرسة، تسجيلها الاحتجاج الأول على تركها وحيدة في البيت باقتلاع أعواد الأشجار الرفيعة من تربتها، وتحملها لتبعات هذا الاحتجاج بعد ذلك بربطها في عمود خشبي في رابعة النهار في عز الصيف، موت الجدة، وغيرها من التفاصيل الرهيفة التي صنعتْ حياة كاملة في هذا البيت.

وإذا كانت "كـل الأمكنة المأهولة حقًّا تحمـل جوهـر فكرة البيت" كما يقول باشلار في الكتاب ذاته، فقد حملت أمل السعيدي بيتها معها أينما ذهبت،"فاركةً عينيها المليئتين بالغبار وهي تمشي في بلاد الآخرين" إذا ما استعرنا لغة سركون بولص، سواء وهي تشرب قهوتها الصباحية في شقة صغيرة في مسقط، أو تقابل جبلا ورديًّا باهتًا في رحلة تخييم، أو تسخن سمنًا في مطبخ سكنها الجامعي في الكويت، أو تنظر من نافذة قطار في ألمانيا إلى قرميد المنازل الذي رسمتْه في الطفولة ظنًّا منها أن هذا هو ما يعنيه البيت، قبل أن يصدمها الواقع: "ليست لدي غرفة واحدة في كل بلادي، لي أماكن مؤقتة عديدة، لي انتقال مستمر، وليس لديّ أبدًا نفسي".

أنصتتْ أمل السعيدي برهافة لصوتها الداخلي وهي تكتب كل هذه التفاصيل دون أن تتوقف كثيرًا أمام الشكل الكتابي الذي سيحويها، "بصراحة لا أهتم بهذا الموضوع، وأجد بأن الأدب تجاوزه منذ وقتٍ طويل"، هكذا تجيب عن سؤال موقع "جدليّة" عن تصنيف كتابها. وهي إجابة ذكرتني بسخرية صالح العامري في كتابه "فرجار الراعي" من الأجناس الأدبية التي يمكن أن تؤطر كتابة الأديب: "فمثلا لماذا لا يمكن القول "كتابة ذيل القندس" بدل "كتابة قصة قصيرة"، أو "اللعاب المتساقط من براثن ضفدعة أو خيشوم مجنون" بدل رواية"؟. لكن أمل تعترف أن إجابتها تلك "تضمر حسدًا وغيرة وعجزًا عن كتابة نوع أدبي تقليدي"، بل إنها على عكس سخرية العامري من الرواية ترى أن كتابها هذا كان يُمكن أن يُعدَّ رواية "لو أننا كنا في مكان أكثر انفتاحًا على التجنيس الأدبي" وتبرر هذا الرأي بأن البيت هو الشخصية الرئيسة في هذا الكتاب، مثلما كان اللون الأبيض في كتاب "الأبيض" للكورية هانغ كانغ، الذي نافس بالمناسبة على جائزة مان بوكر في الرواية، كما تحرص أمل على تذكيرنا.

غير أن "مدخل جانبي إلى البيت" لن يزيده قدرةً على إدهاش القارئ وإمتاعه، تصنيفه رواية أو "ذيل قندس" أو "خيشوم مجنون"، ولن يُنقِص عدم تصنيفه شيئًا من جماله الأدبي. يكفي أنه أذاب المسافة بين كاتبة شابة والعالم، كاتبة اختارت أن تكتب نفسها كما هي، بصدقٍ حاد ودون رتوش، مؤمنة أن هذه وحدها طريقتها الناجعة في التعرف على أسماء الأشياء.