- 1 -

يرصد بعض الباحثين في إطار دراسة فن السيرة الذاتية، وبحث أسباب انتشارها، في وقتٍ تطغى فيه الرواية مثلًا على القابلية للقراءة والبحث عنها، أن بعض السير الذاتية المعاصرة تعد فعلًا من أكثر السرود مقروئية وانتشارًا؛ لأنها توثق مسارات حياة بعض الشخصيات في عمقها البعيد، وتتسم بالجرأة والصراحة والبوح الذاتي الذي يحملُ انكسارات الذات ومصاريعها وهزائمها، ولحظات الفشل والألم والعذاب الشخصي، وتكشف عن بعض أو كل مساحات الضعف والصغائر التي خايلت الكاتب، وسيطرت على بعض تفكيره أو سلوكه في حركته العامة إزاء الآخرين أيًا كانت مواقعهم أو مكانتهم.

إن كتابة الذات ومصائرها في الحياة بوح عاصف، لا يبالي بالمحرمات السياسية أو الأخلاقية، ولا يأبه بالتقاليد والأعراف، ومن ثم يعكس تجربة الوجود الذاتي إزاء الوجود الموضوعي بكل ضوابطه وقيوده ومساحاته.

- 2 -

لويس عوض تلميذ نجيب من تلامذة العميد الدكتور طه حسين، درس على يديه وتتلمذ في مدرسته الليبرالية الجامعة، تخرج في جامعته الحرة التي تقدس الحرية، وتشرب قيمة ومعنى الجامعة والبحث العلمي وحق الطلاب في المعرفة والنقد. كتب وهو في شرخ الشباب سيرة ذاتية أولى عن أيام بعثته التي قضاها طالبا للدكتوراه ونشرها بعنوان «مذكرات طالب بعثة» وكانت بأكملها مكتوبة بالعامية المصرية!

ورغم أن لويس عوض كان من الذين تمت الإطاحة بهم في مذبحة أساتذة الجامعة عام 1954، فإنه سار على درب أستاذه طه حسين في موسوعية التحصيل والجمع بين الأصالة والمعاصرة في تكوينه الثقافي، ثائرا على الجمود داعيا إلى التجديد وتنسم ريح الشمال، وقرر أن يكون إسهامه الثقافي شاملا محيطا مستوعبا لكل مناحي النشاط الإنساني، أدب، فكر، تاريخ، فلسفة، ترجمة..

ولا غبار في اعتبار مكانة لويس عوض وتقدير أدواره وما ترك من كتب ومؤلفات تقترب من الخمسين كتابا إن لم تزد عليها بقليل.

- 3 -

من بين أشهر السير الذاتية التي كتبها أعلام الفكر والأدب والثقافة المصرية والعربية؛ تكاد تنفرد سيرة لويس عوض التي نشر الجزء الأول منها في العام 1987 (قبل وفاته بثلاثة أعوام) بعنوان «أوراق العمر ـ التكوين» بأنها وصفت بالأجرأ والأكثر خرقًا للتابوهات والمحظورات الثلاثة الشهيرة؛ السياسية والدينية والجنسية معًا!

بإجماع أغلب النقاد تقريبا فإن «أوراق العمر» من أعمق ما كتب في مجال السيرة الذاتية، أو كما وصفها الناقد الدكتور صلاح فضل "سيرة من أقوى وأعمق وأنضر ما كُتب من سيرٍ ذاتية في الأدب العربي كله".

وقد توقف د.صلاح فضل أمام الخواص الجوهرية والأسس الحقيقية في هذه السيرة الثقافية الفكرية الاجتماعية لـ لويس عوض، من أبرز هذه الخواص أنه كان مثقفًا ليبراليًا من الطراز الأول، خصوصًا أنه تتلمذ على يد الدكتور طه حسين، وسلامة موسى، وتأثر بفكرهما، كما كان لديه شغف شديد بالثقافة الأوروبية، وقد عصمته ليبراليته من أن ينخرط في التيار الذي انخرط فيه المتحررون من أمثاله، وهو التيار الماركسي، لافتا إلى أن عوض بدأ مبدعاً متمرداً، وكتب ثلاثة كتب قبل أن يكمل عامه الـ30، كل منها يعتبر ثورة؛ هي: ديوان «بلوتو لاند وقصائد أخرى» الذي قال في مقدمته إنه سيكسر رقبة البلاغة العربية، ليخرج عن كل الأعمدة الشعرية سابقًا الشعر الحر بسنوات، والكتاب الثاني؛ هو «مذكرات طالب بعثة» الذي كتبه بالعامية المصرية، ودوّن فيه تجربته عندما أوفد في بعثة دراسية، ولم يستطع نشره إلا بعد 20 عامًا؛ لأنه لم يجد ناشراً يقامر بسمعته ويطبع كتاب العامية.

أما الكتاب الثالث؛ فهو رواية «العنقاء» التي تعتبر الأهم لديه، وهي ذات قيمة توثيقية، لكنها لا تضارع أعمال كتّاب من جيل عوض، مثل نجيب محفوظ وغيره.

- 4 -

يحلل جابر عصفور سيرة لويس عوض «أوراق العمر» بنيويا، ويعتبرها مثالا دالا في هذا المجال؛ إذ تمتزج تقنيات السيرة الذاتية الأدبية بالسيرة الذاتية التاريخية، بل ينكسر المبدأ البنيوي الذي يوقع التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، فيظل المؤلف هو السارد، لكن تتعدد الشخصيات في الوقت الذي تتعدد أقنعة السارد الذي يحدثنا عن ذكريات طفولته في الفصول الأولى بطريقة تختلف عن حديثه عن «ريا وسكينة» في الفصل الخامس، أو عن «أدهم الشرقاوي» في الفصل السادس، أو عن «مرجريت فهمي» في الفصل السابع، وذلك كله قبل أن يقوده الاسترجاع إلى توثيق تجليات «العنف السياسي» وجمعياته المختلفة، الأمر الذي يجاور بين الحضور المتعدد للمؤلف المؤرخ، والمؤلف المفكر، والمؤلف الناقد الأدبي، والمؤلف الأديب.. وفي الوقت نفسه يجاور بين أكثر من طراز لإحالة الميثاق المرجعي، فنقرأ فصولًا تنتسب إلى كتب التاريخ بمعنى أو غيره، سواء في إشاريتها المرجعية المباشرة، أو في توثيقها الوقائع بالاعتماد على أرشيف العصر المتمثل في الدوريات القديمة، والمصادر شبه المجهولة، كما نقرأ فصولًا تنتسب إلى الدرس الاجتماعي الذي يمزج التحليل الثقافي بالوقائع الأنثروبولوجية، في سعيه إلي اكتشاف الدلالة الاجتماعية...وفي أثناء ذلك كله لا تغيب هموم الذات الفردية عن الحضور في كل مستوى من مستويات علاقاتها بتعاقب واقعها الذي حَاولَتْ الكشف عنه؛ تاريخيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيا..والنتيجة هي «أوراق عمر» متعددة الأبعاد والوظائف والمستويات والإشارات، وأهم من ذلك «أوراق عمر» تدفعنا إلى إعادة اكتشاف دلالة الأوراق في علاقتها بالأزمنة الخاصة والعامة، لكن من منظور أكثر رحابة يدفعنا، في النهاية، إلى إيثار التسليم بفكرة الحدود المرنة التي لا تنغلق فيها مبادئ التصنيف على قواعد ثابتة، قواعد قد ترضي العقل المنطقي الصارم في شكليته، لكنها لا تستجيب إلى انفساح مدى التنوع الدال للنماذج التي تنقض هذه القواعد الثابتة في الواقع المتعين الذي يمور بالتنوع والاختلاف...

- 5 -

لماذا كانت الأجرأ في تاريخنا الأدبي والثقافي؟ الإجابة قد تطول؛ لكن تكفي إشارات دالة على مظاهر وتجليات من هذه الجرأة التي تمثلت في الصراحة والمصارحة الشديدة (بعض أفراد أسرته اعتبرها تجاوزا ووقاحة!) في نقد الذات والأسرة والطبقة الاجتماعية؛ يقول مثلا عن نفسه:

«عيون آل عوض أجمعين لا يمرّ خالج في القلب ولا فكرة في العقل إلا وتراه ناطقاً في العيون.. قالت لي خالتي الفلاحة، وأنا وهي وحدنا في الحقول ليلًا، ألا ترى القمر جميلًا. انظر! تذكرت الروايات عن جدي الذي كان يعد فرق النجوم وهو يمشي وسط الحقول وحده. ربما كان في أسرتنا مسٌّ مما يصيب الشعراء وأهل الفن!».

أو وهو يقول عن أسرته:

«نحن آل عوض، لنا بعض الخصائص النفسية والأخلاقية المشتركة: إننا لا نكذب، لا نعرف كيف نكذب.. لا ننتظر شيئاً من الناس ولا نعطي شيئاً للناس إلا للمستحقين، وإذا أحببنا أو احترمنا أعطينا الكثير دون مقابل، إننا دعاة احتجاج ورفض ولسنا دعاة شغب أو عدوان أو صراع، لا أظن أني وجدت (عوضياً) يقيم وزناً للمال».

«ليس في أسرتنا سوى محام واحد، وليس فيها قضاة أو وكلاء نيابة أو ضباط جيش أو بوليس أو عمال فنيون، أما التجار فقلة نادرة. أغزر مهنة فيها هي الهندسة ثم الطب ثم أستاذية الجامعة في العلوم أو الآداب. بعبارة أخرى نحن لا نشتغل بضبط المجتمع ولكن نشتغل بخدمته وزيادة إنتاجه».

وفي الكتاب أسرار عائلية خاصة ودقيقة، كما في كل عائلة وأسرة، وفيه اعترافات صريحة وواقعية بحياة شاب يتعلم الحياة والحب والجنس، ويفكر في السياسة والدين. وهو يقود خطانا للتعرف على كل هذه الزوايا، التي يصر مجتمعنا على أن يخفيها في الظلام أو وراء بيت العنكبوت.

إن «أوراق العمر»، كما يرى المرحوم علاء الديب، سيرة ضخمة حرة وثورية يقترح فيها على المفكرين والدارسين في الاجتماع والتاريخ والسياسة، عشرات الموضوعات للدراسة والتحقيق الجديد الآن، بعد أن توافرت وسائل بحث ومناهج ودراسة وتحليل جديدة..