هناك قيمتان مركزيتان تؤطران النموذج التنموي العُماني الجديد فيما يتصل بسياسات العمل، يمكن أن نقرأ ذلك من خلال أدبيات خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021 – 2025) ومجمل المراجعات الراهنة التي تجري حول أنظمة العمل وسياساته والتشريعات الناظمة له. الأولى تتصل بإعلاء قيمة العمل في ذاتها كما يتجسد في الخطاب السياسي. والثانية في إيجاد المقومات التي تنظم إعلاء قيمة الإنتاجية. يعنينا في هذه المقالة التركيز على الطرق التي يمكن من خلالها إعلاء قيمة «الإنتاجية» كقيمة مهنية من خلال الوسائط الاجتماعية أو السياسات العمومية وحين نتحدث عن الوسائط فإننا نقصد الأدوار التي يمكن أن تقوم بها المؤسسات في إحداث تحول في ترسيخ هذه القيمة وفي نمط المعتقدات والتصورات والسلوكيات المتصلة بها وفي تهيئة الممارسات المناسبة لها وإرسائها في النظام المؤسسي والاجتماعي.

إن أحد التدخلات التي يمكن أن تكون في سبيل ذلك هو فيما تسميه عالمة الاقتصاد ليزا هاركر بـ «سياسات العمل الودود للعائلة»، حيث ترى هاركر أنه للوصول إلى سياسات عمل تراعي التوازن بين متطلبات الإنتاجية المهنية وبين الالتزام بمتطلبات الرعاية الأسرية ومجمل الالتزامات البيتية وصولًا إلى «الرفاه الأسري» بوصفه قيمة داعمة لجودة الحياة فإن هذه السياسات يجب أن تتمحور في نظر هاركر حول الآتي:

1- أن تتوخى هذه السياسات تمكين العاملين من التوفيق بين احتياجات العائلة ومتطلبات العمل.

2- أن تساند هذه السياسات المساواة الجندرية وتضع في الاعتبار قدرة الرجال والنساء على أداء الأدوار العائلية والاهتمامات البيتية بكفاءة عالية.

3- أن يجري العمل وفق هذه السياسات وفق شروط مرضية تفي بالجانب الأكبر من احتياجات العاملين.

4- أن تكون هذه السياسات ودودة تجاه العائلة ويتوافر فيها التوازن بين مطالب أرباب العمل والعاملين من جهة والاحتياجات الخاصة الشخصية التي لا يرد ذكرها في عقود العمل مع المستخدمين من جهة أخرى.

ما الذي يدفعنا للحديث اليوم عن ضرورة التفكير في مثل هذه السياسات؟ في الواقع حفلت العقود الأخيرة بحديث موسع عن مركزية دور التوازن بين سياسات العمل والسياسات الأسرية فظهرت مصطلحات من قبيل «التحول الثاني» و«المجاعة الزمنية» - كما تسميها آري هوشيلد- في إشارة إلى عدم قدرة أنماط العمل الحالية وخاصة في المجتمعات الإنتاجية على إتاحة الفرصة للعاملين لأداء واجباتهم الأسرية بالشكل الملائم وبالطريقة التي تمكنهم بالوصول بأسرهم إلى حالة «الرفاه الأسري» ثمة متغيرات ديموغرافية على الجانب الآخر تدفع باتجاه هذه المسألة منها تنامي السكان في قوة العمل حول العالم وميل الأسرة إلى أنماط الأسر النووية عوضًا عن زيادة مشاركة المرأة في أسواق العمل وفي بيئاته المختلفة. شهدت بعض المجتمعات كذلك تحولًا ملحوظًا في الهياكل العمرية مما يجعل من الضرورة بمكان حين النظر إلى محورية دور العامل بوصفه رأس مال بشري واستثماره وتوظيفه التوظيف الأمثل في خدمة عمليات التنمية يجب أن يأخذ في الاعتبار كافة الظروف التي من شأنها أن تهيئ للعناصر البشرية الحياة الاجتماعية المتوازنة والمستديمة.

هناك العديد من السياسات التي يمكن نقاشها في هذا الصدد منها واقع إجازات الأمومة وإجازات الأبوة مقطوعة الأجر – مدفوعة الأجر بالإضافة إلى إمكانية تخصيص أماكن لرعاية الأطفال في بيئات العمل عوضًا التحول إلى أنماط العمل المرن والعمل عن بعد بالنسبة للأزواج ما بعد إنجاب الأطفال وغيرها من السياسات التي تحفل بها المراجعات للتجارب سواء على مستوى الحكومات- الشركات حول العالم. لكن يبقى السؤال المحوري: ما هي المحورية التي يمكن في ضوءها اختيار التدخلات المناسبة من السياسات الموجهة لهذا التوازن وفي تقديرنا فإن ذلك يحتم علينا في المقام الأول دراسة ثلاثة مفاهيم أساسية حول المجتمع في عُمان (ملامح ثقافة العمل لدى الفرد العُماني- المحددات المؤثرة على إنتاجية الفرد العُماني- مدى كفاءة سياسات التوازن الراهنة بين العمل والأسرة) ونحن نعتقد أن هذه الثلاثة حقول المهمة والمحورية في تصميم أي سياسات للعمل ما زالت حقول خصبة غير مراكمة للبحث والتنقيب والمعلومات والتقصيات والأبحاث التحديثات حول التغيرات التي تطرأ عليها وهي من السياقات الحساسة جدًا للبحث في الدول التي تنشد رفع كفاءة العاملين في مقابل الحفاظ على استقرارهم الأسري والاجتماعي.

فحين نتحدث عن ملامح ثقافة العمل فنحن هنا نرمي إلى فهم (المتعقدات- التصورات- الأفكار- الدوافع- المؤثرات- الأنماط- الممارسات- العادات- السلوكيات) التي تؤطر نمط العمل بالنسبة للفرد العُماني في بيئات وقطاعات العمل المختلفة وهذا ليس ضربًا من التنظير كما يعتقد البعض بل هو ضرورة معرفية محلة لتصميم سياسات عمل قائمة على الأدلة وسياسات عمل مرتبطة بتأشير النتائج. وما ينسحب على هذا المحور ينسحب على محور المحددات المؤثرة على إنتاجية الفرد العُماني ونقصد بها المحددات (المعرفية- الفكرية- الاقتصادية- الأسرية- الاجتماعية- الثقافية) التي تؤثر على مفاهيم الإنتاجية والممارسات المتصلة بها وكيف تتغير عبر الزمن وعبر دورة التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الطارئة على الدولة والمجتمع بشكل عام. وهو ما ينسحب أيضًا على فهم كفاءة السياسات الراهنة المحققة للتوازن بين الأسرة والعمل ومدى قدرتها في الأوضاع الراهنة على تحقيق هذا التوازن ودفع العاملين مع توسع شرائحهم وتنوعهم الجندري وقطاعات عمل على الوصول بأسرهم إلى (الرفاهية الأسرية). هذه ثلاثة حقول إن وجهنا إليها البحث والتنقيب الدوري في تقديري فإن من شأن ذلك أن يوفر لنا الآتي:

- فهم «العمل/ الانتاجية» بوصفها معطيات متحركة عبر الزمن والثقافة والمتغيرات.

- توفير الدعامة المعلوماتية والمعرفية لتصميم سياسات العمل والبنى التشريعية المتصلة به.

- معرفة «الوكزات: التدخلات السلوكية» و «التدخلات السياساتية» المناسبة للوصول لأعلى مفاهيم الإنتاجية وإعلاء قيمة العمل.

- تحقيق التوازن المناسب بين المقاصد الاقتصادية الكبرى للعمل وبين إيجاد مجتمع متوازن تتوفر له مقومات جودة الحياة باعتباراتها المتكاملة والمتسقة.