نستغرق في العالم الرقمي شيئًا فشيئًا، وتتلبس الأرقام مصطلحات مختلفة بين «ثورة رقمية» و«مواطن رقمي» و«مهاجر رقمي» وحتى «إنسان رقمي»، ورغم تدخل الأرقام في تفاصيلنا وتمكنها من مفاصل واقعنا إلا أننا ما زلنا نهمل الأرقام والإحصاء ونجهل إمكانات تفعيلها وممكنات طاقتها.

وما اعتناؤنا بالأرقام ودلالتها إلا في جزء منها، حيث يُعنى أحدنا –مثلا- بعدد المتابعين وعدد المعجبين، وهو ليس بالأمر السيئ إن قابل ذلك عناية بالمحتوى وحرص على رفع مستواه لمضاعفة عدد المتابعين يمكنها خلق مصدر دخل له أو لمجموعة حوله إن اتسعت الدائرة، كما أن له دلالته السلبية إن تضمن محتوى هزيلًا أو رسائل سلبية.

فما دلالة الأرقام؟ وأين يقع الإحصاء من قراراتنا اليومية؟ سواء كانت هذه القرارات فردية حياتية، وظيفية، أو حتى قرارات مصيرية مؤثرة اقتصاديًا واجتماعيًا إن كان متخذها مسؤولًا إداريًا لم يضع للإحصاء اعتبارًا أو أهميةً؟

لا ينبغي أن يهمل الإحصاء وهو العلم المَعني بتطوير ودراسة طرق جمع وتحليل وتفسير وعرض البيانات، وأهميته تشمل كل التخصصات، ويتم تطبيقها في جميع المجالات العلمية والعملية، وطالما كانت المحفز للكثير من الأسئلة البحثية لتطوير أساليب الحياة ونظريات الواقع المعاش.

ارتبط مصطلح «إحصاء» بعلم السياسة، حيث اهتم به الحكام لحاجتهم إلى معلوماتٍ حول الأراضي والزراعة والتجارة والسكان؛ لتقييم إمكاناتهم العسكرية وثرواتهم وضرائبهم وغيرها من جوانب السلطة. ولا شك أن الوسائل الرقمية والذكاء الصناعي يسهمان في تطوير وسائل الإحصاء الحديثة، لكنهما لا يلغيان أهمية الإحصاء ودلالة الأرقام.

حينما نتذكر اليوم مراقبة عدد المشاهدات ودلالتها، كما نتذكر عدد المتابعين ونسبة التسويق، وإمكانية الإفادة من كل ذلك دعائيًا وإعلاميًا لا ينبغي أن نهمل عوامل أخرى كأعمار المشاهدين، وأوقات المشاهدة، فلكل رقم من هذه الأرقام دلالة واجبة التمحيص والدراسة.

ينبغي الاهتمام والعناية بتزايد أعداد المؤثرين اجتماعيًا، وضرورة متابعة ما يقدمونه من محتوى فكري ثقافي، قد يرقى لتشكيل رسائل ماتعة نافعة توفر الكثير من الوقت والجهد على أفراد وأسر ومؤسسات كثيرة، كما يمكن أن تهدم ما بني في كل هذه الدوائر عبر عقود، ليقوّض منجزها في لحظة قد تكون متابعة عابرة لجيل كامل.

وبعيدًا عما يقدّم في وسائل التواصل الاجتماعي، يعمق الإحصاء وعي المتلقي بماضيه وواقعه، ومستقبله إن تابع بحرص وقرأ بتأمل ما حوله من إحصائيات وأرقام ليشارك في وضع قرارات مستقبلية مؤثرة مجتمعيًا.

الأرقام لغة الإقناع المثلى، بدونها تبدو أفكارنا غامضة غير محددة. كما يسهم الإحصاء كعلم مؤثر في القدرة على التنبؤ وتقدير الآتي في رسم السياسات وحسن التخطيط، فضلا عن اختزال التفاصيل وتلخيصها، بداية من مشاريعنا الشخصية، مرورًا بإحصائيات المؤسسات الحكومية، وصولا لإحصائيات الميزانية العامة وحصص الإنفاق ووسائله.

وفي معرض الحديث عن أهمية علم الإحصاء وجدواه، ينبغي التأكيد على ضرورة الحرص على مصداقية وشفافية الإحصائيات ودقتها؛ إذ أن صنع الإحصائيات الوهمية كذلك صار شائعًا، روّج له من أدرك تمامًا أهمية هذه البيانات في رفع منسوب الصحة في الأقوال والتصريحات والقرارات، فنجد الكثير من مكذوب الإحصاء الذي ينبغي معه تحري المعلومة من استقراء الواقع ودراسته.

ولما عرف متخذو القرارات وواضعو الخطط أهمية الإحصاء ركزوا على ضرورة إنشاء مراكز إحصائية بحثية تتحمل مسؤولية دقة المعلومات وصحة البيانات التي تستقى من هذه المراكز لتشكيل أرضية ثابتة لوضع الخطط و اتخاذ القرارات وبناء الخطط المستقبلية بناء على استقراء وتحليل ومقارنات إحصائية دقيقة.

حياتنا التي نعيش ملأى بالكثير من الإحصاء، كما أنها تتأثر وتؤثر في هذه الإحصائيات، لذلك فإنه من الخطل إهمال تأثيراتها وتحمل تبعاتها، ولعل من المشاركة الفاعلة تتبع ما حولنا من إحصاءات وأرقام مؤثرة لها دلالاتها التي لا تخفى في حيواتنا وعلاقاتنا ومستقبلنا، ولعل فكرتنا التي نطرحها أو رأينا الذي نجهر به بحاجة إلى تتبع ما حولنا من أرقام وإحصاءات لنرفد إعلانه ونشره وتأثيره.

لن تكلفنا متابعة الإحصائيات الكثير من الوقت، لكنها يقينا ستكلفنا كثيرًا من الخسائر حال إهمالها وتهميشها، خصوصًا حينما نكون نحن أنفسنا مادتها أو هدفها.