"الخطاب.. هو منظومة معرفية ظاهرها اللغة، وباطنها الاجتماع بكل مكوناته، واللغة هي بالأساس فعل اجتماعي، ولولا الاجتماع لما نشأت اللغة، لذلك.. فإن مفهوم الخطاب بُحِثَ في علوم اللغة الاجتماعية والنفسية أكثر مما دُرِس في علم اللغة استقلالاً"، أوردت هذا المفهوم للخطاب في بحثي «خطاب الكراهية والمعالجة العمانية»، والذي ألقيته في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، في أكتوبر 2019م، وكان هذا آخر اشتغالي على النطق السامي في حياة مؤسس الدولة العمانية الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد، طيّب الله ثراه، واليوم.. بمناسبة العيد الوطني المجيد الحادي والخمسين، وهو العام الثاني لاستواء مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده على عرش السلطنة، أشتغل لأول مرة على النطق السامي في مرحلة النهضة المتجددة، وبما أنها إكمال للمرحلة السابقة، وتحديث في معطياتها، وخطابها عروة وثقى من الرؤية الحكيمة والمتزنة لخطاب التأسيس؛ فإن قراءتي لخطاب جلالته هي أيضاً امتداد لتلك القراءة، وهذا أمر تفرضه الموضوعية العلمية، فنحن في نهضتنا المتجددة لا نشهد انفصاماً عن المرحلة التأسيسية التي افتتح بها السلطان قابوس طوراً جديداً في تأريخ الدولة والمجتمع بعمان، فقد أكد جلالة السلطان هيثم هذا الارتباط الوثيق بـ"السير على نهجه القويم، والتأسي بخطاه النيّرة، التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل. والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه، هذا ما نحن عازمون -بإذن الله وعونه وتوفيقه- على السير فيه والبناء عليه، لترقى عمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها، وسهر على تحقيقها، فكتب الله له النجاح والتوفيق".

وفقاً لمفهوم الخطاب، واستنطاقاً لدلالته الموضوعية؛ فإن السلطان هيثم عَبْر نطقه السامي انطلق من الواقع العماني ببنيته المتمثلة في الدولة الحديثة، فالخطاب.. ليس لغة تلفظ ولا رسالة تلقى فحسب، وإنما هو منظومة اجتماعية تنطق بالأهداف التي يصبو إليها المتكلم بغية تحقيقها، وعندما ننظر إلى واقعنا نجد أن مفردات حراكنا الاجتماعي تأسست في عهد زاخر بالعطاء، حيث شيّدت مؤسسات الدولة دون سابق وجود، بل الإنسان ذاته ثمرة ذلك العهد المجيد، ولذا.. نرى الحكمة التي سلكها جلالة السلطان هيثم؛ عندما جعل عهده الزاهر امتداداً لذلك العهد الفخم؛ فخر كل عماني، ونسج خطابه بنول خطابه المقتدِر على التعبير عن كل جوانب الدولة؛ كتأسيس بنيتها، والتوجه إلى الشعب بالشفافية والمحبة، والإبانة عن العلاقات الخارجية للسلطنة، الناجحة بكل المقاييس، حتى عُدّت عالمياً مدرسة متميزة، بحل المشكلات التي تعترض البلاد، والإسهام في معالجة الأزمات التي تعاني منها المنطقة والعالم.

تأتي ميزة خطاب النهضة المتجددة باستناده إلى تجربة عميقة وناجحة، وهو خطاب يوجِّه الأمة العمانية إلى تقدير المنجز الذي حققه الأسلاف، وتعظيم الاستفادة منه، وعدم البدء من الصفر. إن الوشيجة الوطنية التي يتمتع بها خطاب جلالة السلطان هيثم هي ما تُرسِّخ الولاء في الشعب، إنه الوفاء في أعلى ذراه وأبهى تجلياته، وسيؤتي أكله كل حين بالعطاء والإنجاز بإذن الله، إنه خطاب التأسيس لمرحلة قادمة من عمر الدولة، يقول النطق السامي: "ما كان لبلادنا عُمان أن تحقق كل ذلك لولا القيادة الفذة للمغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور رحمه الله، والأسس الثابتة التي أقام عليها بنيان هذه الدولة العصرية، والتفافكم حول قيادته، واعتزازكم بما أنجزناه جميعاً تحت قيادته الحكيمة".

لقد اتخذت هذه المرحلة عنواناً لها «النهضة المتجددة»، مما يقتضي أن يكون خطابها ديناميكياً، يبعث كل حرف منه الروح في الدولة، وتزرع كل دلالة فيه الهمة في النفوس، ويبني كل مضمون منه الفاعلية في المؤسسات، وهذا أمر لازم لهذه المرحلة، فالسلطنة واجهت أزمات اقتصادية حادة، كجائحة كورونا كوفيد19 والركود الاقتصادي العالمي وانهيار أسعار الوقود، كما أن العالم يشهد تحولاً جذرياً، ليس على مستوى العلاقات السياسية والأنظمة الإدارية فحسب، وإنما في جذور بنيته الفكرية وتركيبته الاجتماعية، كل هذا.. يستدعي أن يكون الخطاب إلى الأمة مفعماً بالحيوية، دافعاً بها إلى مواصلة الطريق وعدم الركون إلى الدعة، وقد أدركت «رؤية عمان 2040م» ذلك، فوضعت له أسسه وآليات تحقيقه، يقول جلالته حفظه الله: "إننا ماضون بعون الله على طريق البناء والتنمية، نواصل مسيرة النهضة المباركة، كما أراد لها السلطان الراحل رحمه الله، مستشعرين حجم الأمانة وعظمتها، مؤكدين على أن تظل عمان الغاية الأسمى في كل ما نقدم عليه، وكل ما نسعى لتحقيقه، داعين كافة أبناء الوطن دون استثناء إلى صون مكتسبات النهضة المباركة، والمشاركة الفاعلة في إكمال المسيرة الظافرة".

إن العمدة في تحقيق ذلك.. عقول الشباب المستنيرة، وقلوبهم التي لا تملّ، وسواعدهم التي لا تكلّ، وبدونهم.. المجتمع يهرم والدولة تضطرب والمنجزات تنحسر، فتوجه جلالته أعزّه الله إلى أبنائه بنطقه المستثير للهمم والموقظ للعزائم، فقال: "إن الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب وسواعدها التي تبني، هم حاضر الأمة ومستقبلها، وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها".

إن خطاب جلالته حفظه الله يرتكز على رؤية واضحة، ويبتغي أهدافاً محددة، فهو لم ينطق بالأماني الأثيرة للنفس، بل انطلق من أسس علمية قابلة للتطبيق، من خلال «رؤية عمان 2040» التي أشرف على وضعها بنفسه، وهي تأتي بعد «رؤية عمان 2020»، وهذا يعني.. أن هناك خبرة مختزنة في الرؤية الحالية، والتي ترتكز على ثلاثة أسس؛ هي:

- إدراك الواقع الذي تمر به البلاد، وتقدير الأوضاع العالمية من حولنا.

- العزيمة والإصرار على تحقيق التنمية، بالاعتماد على أبناء الوطن.

- الطموح الذي يتجاوز تحقيق الأهداف المحلية إلى التأثير العالمي.

يقول أدام الله مجده: "إننا نقف اليوم، بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين، على أعتاب مرحلة مهمة من مراحل التنمية والبناء في عمان، مرحلة شاركتم في رسم تطلعاتها، في الرؤية المستقبلية «عمان2040»، وأسهمتم في وضع توجهاتها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجسد الرؤية الواضحة، والطموحات العظيمة، لمستقبل أكثر ازدهاراً ونماءً، وإننا لندرك جميعاً التحديات التي تمليها الظروف الدولية الراهنة، وتأثيراتها على المنطقة وعلينا، كوننا جزءاً حياً من هذا العالم، نتفاعل معه، فنؤثر فيه ونتأثر به".

وعمان.. ليست خارج نطاق السنن الاجتماعية، فقد يصيبها ما يصيب غيرها من المعوِّقات التي تؤثر على الإجراءات الإدارية للدولة؛ فيبطئ من سيرها، ويوهن من عزيمة القائمين عليها، ولذلك.. يعمل جلالته جاهداً على تخطي هذه المعوقات، وهي ليست سطحية، وإنما طالت عمق الجهاز الإداري للدولة، فتوجه بعنايته السديدة إلى الاهتمام بالأمر، وعمل على معالجة المشكلة من جذورها، بتحديث التشريعات، وإعادة بناء هيكلة الدولة، وتطبيق الحوكمة؛ بما تقتضيه من نزاهة ومساءلة ومحاسبة، يقول جلالته: "إننا عازمون على اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئ وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤيتنا وأهدافها".

إن النطق السامي لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله يحتاج إلى دراسة متأنية وإجالة نظر وتمثّل على أرض الواقع، وهذا ما أدعو إليه، حتى نواكب تطلعات نهضتنا المتجددة، ونسير على هدي توجيهات جلالته الحكيمة، ونحقق اللحمة الوطنية؛ قيادةً وشعباً، وبإذن الله.. سأخصص دراسة وافية عن خطاب جلالته ونهجه في إدارة الدولة، ومواصلته طريق الرقي، حتى نصل العهد السعيد بالمجد التليد.