تشكل كراسي البحث العلمي التي تُسخرها وتمولها الدول بأسماءها ومرجعياتها في الجامعات والحاضنات الأكاديمية المشهودة حول العالم أحد وسائل القوة الناعمة، وتأثير الدبلوماسية العامة، حيث تعمل هذه الكراسي على مد جسور التعاون الثقافي والعلمي والبحثي ووضع البلد (الممول) على خارطة الأكاديميا والفعل العلمي في العالم من خلال الأنشطة التي تقوم بها والتي لا تقتصر على إجراء البحوث الأكاديمية وإنما تتوسع لإقامة المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش المتقاطعة بالإضافة إلى استحداث مقررات أكاديمية تخص شؤون منطقة البلد (الممول) أو تعالج قضاياه أو تبحث في سياقات التنمية واتجاهاتها بما يخدم تعزيز الرؤى الوطنية للبلد (الممول) استفادة من الممكنات والتجهيزات والسمعة والسعة البحثية والأكاديمية لجامعة/لمؤسسة البلد (المضيف).

ولعل كراسي جلالة السلطان قابوس – طيب الله ثراه – العلمية تشكل أحد الدلالات البارزة على ما تحدثنا عنه أعلاه حيث تعمل هذه الكراسي في بيئات علمية رائدة وفي دول لها باعها من التأثير في الأكاديميا وتطوير التجربة العلمية، كجامعة كامبريج بالمملكة المتحدة وجامعة طوكيو باليابان، وجامعة هارفارد بالولايات المتجدة وأكسفود ببريطانيا وجامعة ملبورن الاسترالية. وعوضًا عن الكراسي العلمية في الخارج فإن للكراسي العلمية التي تنشأ في الداخل – أيًا كان مصدر تمويلها – والإشراف عليها دورًا لا يقل أهمية في بناء ما يُعرف بـ "السمة الوطنية Nation branding " وهي كما يعرفها واضع المفهوم سايمون أنهولت كونها: "التطبيق العملي لبناء صورة ذهنية نادرة عن بلد معين وإيصال هذه الصورة لبقية دول وشعوب العالم من خلال استخدام أدوات الدبلوماسية العامة، التجارة، السياحة، الإعلام، العلاقات العامة، التسويق، المبادرات الإنسانية".

ولقد تبنت خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021-2025) في مجلد البرامج الاستراتيجية التأسيس لمجموعة من الكراسي العلمية في الداخل ومنها مجالات المدن الذكية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيئة البحرية ومصائد الأسماك والبيئة والصحة والمخاطر والطاقة والتقنيات الحيوية والجينيوم وإدارة الأزمات. إذن ما العلاقة بين إيجاد هذه الكراسي البحثية الداخلية والدور الذي يمكن أن تلعبه في بناء السمة الوطنية؟ ولكي نجيب بتبسيط الفكرة فإن دور الكراسي البحثية هو إيجاد مرجعية علمية. عبر مراكمة تراث من البحث العلمي في المسألة التي يتوجه إليه الكرسي البحثي بالإضافة لاستقطاب أفضل الكفاءات المتخصصة للاشتغال على الكرسي والإشراف عليه وتكوين ناتج من الإصدارات والتجارب عوضًا عن إقامة شبكات علمية ينتج عنها جماعة علمية قادرة على أن تكون مرجعًا علميًا ومعرفيًا في المجال. فلو استطاعت هذه الكراسي تحقيق هذه المحددات فإنها عبر شبكات النشر العالمي وعبر تأثير الفاعلين في الكرسي وعبر سلاسل الندوات والمحاضرات والورش والحلقات العلمية التي ستقيمها ستساهم في بناء صورة عامة ليس فقط عن مجال الاختصاص الذي يسهم فيه الكرسي وإنما عن عموم الحقل ومركزية البلد في الاختصاص والمرجعية العلمية فيما يتعلق بهذا المجال.

تتكئ السلطنة على سبيل المثال على تراث واسع من الخبرة (المؤسسية) في التعامل مع الأزمات المناخية وفي رفع درجات الاستجابة القطاعية تأهبًا لحدوث الأنواء المناخية وهذه التجربة التي تشكلت عبر العقود الفائتة من الممكن أن يتم مضاعفة البحث العلمي فيها وتسويق هذا البحث عبر إنشاء كراسي بحثية موجهة لهذا الجانب. ستسهم في تعزيز موقع السلطنة كمرجعية خبرة (مؤسسية) ومرجعية خبرة (علمية) في هذا الصدد وبناء تصور جديد لدى المجتمعات والدول المهتمة يرسخ رسالة "السمة الوطنية" ويسرع من تشكيلها وتوسيعها وتسويقها. وإن كانت السلطنة تتكئ على تراث بحري واسع وتتيح الإطلالات البحرية المتعددة تطوير عدد من المعارف العلمية وتشكيلها كبيوت خبرة سواء فيما يتعلق بالتعامل مع الثروة السمكية أو فيما يتعلق بالنقل البحري وغيرها من المجالات ذات الصلة فإنه من الممكن للكراسي البحثية التي تستثمر في مثل هذه المعارف والتجارب والتاريخ والخبرات أن تكون تصورًا جديدًا حول الحقيقة العلمية العُمانية. وقس على ذلك من الحقول التي تعضدها التجارب (المؤسسية) ومن الممكن أن تؤطر علميًا عبر هذه الكراسي البحثية.

يحدد تركي الشمري وعبدالرحمن الحبيب مقومات نجاح الكراسي العلمية من خلال قدرتها على:

1- التوازن في أنشطة وفعاليات كراسي البحث العلمية، لتغطي بشكل متوازن ومتكامل المستويات الأربعة (العالمية، والإقليمية، والمحلية، ومستوى الجامعة)

2- استقطاب علماء متخصصين ومتميزين وذوي شهرة عالمية لإثراء أنشطة كراسي البحث العلمية.

3- تحقيق الانتشار والسمعة العلمية والجذب على كافة المستويات العالمية والإقليمية والمحلية من خلال الاستفادة من كل الوسائل الإعلامية وأوعية النشر التقليدية والإلكترونية، بما يؤثر إيجابياً على التمويل وتوسيع دائرة الشراكات، واستقطاب الخبرات المميزة والمشهورة.

4- أن يكون الاهتمام بطلاب الدراسات العليا أحد أبرز اهتمامات كراسي البحث العلمية، وتوجيه بحوثهم لتخدم أهدافها، وتطوير برامجهم الدراسية بإضافة مقررات دراسية مرتبطة بتخصصات الكراسي العلمية.

5- أن تتوافق رؤية ورسالة وأهداف وأنشطة الكرسي مع الأولويات الوطنية.

وفي تقديرنا فإنه إذا ما استطاعت الكراسي البحثية الأخذ بالمقومات الأساسية للعمل، فإنها ستسهم في فتح خط جديد للدبلوماسية العامة عبر بناء "السمة الوطنية" التي يحدد عناصرها مؤشر أنهولت بعناصر أساسية وهي "القدرة التصديرية لمنتجات البلد، الحكم، والثقافة، والشعب، والسياحة، وقوانين الهجرة وجاذبيتها، والاستثمار الأجنبي". فكلما استطاعت هذه الكراسي الدفع كذلك بمنتجات جديدة ووظفت المعطى الثقافي وأدمجت الهوية الوطنية في فعالياتها وأنشطتها وقدمت البلد كمعطى هوياتي إلى جانب اشتغالها المعرفي والبحثي ستكون قد أسهمت بشكل موسع في هذا الصدد ودفعت على الجانب الآخر بمعالجة التحديات الوطنية وخدمت اتجاهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وشكلت أدلة علمية أكثر حداثة وتجديدًا لمنظومات صنع السياسات العمومية ورسم الرؤى الوطنية.