في اجتماع مجلس الوزراء الموقر بتاريخ (9 نوفمبر 2021) وجه عاهل البلاد المفدى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- بـ"إنشاء وحدة لدعم واتخاذ القرار تتبع الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وذلك بهدف رفع مستوى الأداء من خلال تعزيز كفاءة صنع القرار" وهو التوجيه الذي استبشر به المجتمع عمومًا والمختصين والمهتمين بمجالات الحوكمة والتخطيط الاستراتيجي على وجه الخصوص، ذلك أن المُكتسبات من وجود مثل هذه الوحدات في ظل ما تشير إليه التجارب والممارسات الفضلى دوليًا في هذا الصدد من شأنه أن يحقق استنارة أكبر لعملية (اتخاذ) القرار الحكومي، ونحن نتحدث هنا عن عملية (اتخاذ) القرار وليس (صنع) القرار الذي يفترض أن يكون مرحلة سابقة ولها أيضًا حقل من التجارب والممارسات التي تأخذ يومًا بعد يوم في التطور ومقاربة تحقيق أقصى الدرجات العلمية في بناء القرار القائم على الأدلة.

يعنينا هنا التركيز على بعدين مهمين، وهي طبيعة البيئة التي يجري فيها اتخاذ القرار، وأين يتموضع دور المجتمع في علاقته بهذه البيئة من ناحية (المدخلات – المعالجات – المخرجات)، فإذا ما حاولنا فهم سياق البيئة التي يجري فيها اتخاذ القرار فيمكن القول أن التوجه لإيجاد مرجعية مركزية لدعم اتخاذ القرار سيساهم في ضبط الاتساق بين عدة بنى استراتيجية (رؤية عُمان 2040)، و(خطة التوازن المالي متوسطة المدى 2021 – 2024) ، (خطة التنمية الخمسية العاشرة 2021 – 2025)، وجملة من الاستراتيجيات والخطط القطاعية المعلنة لعمل المؤسسات الحكومية، وفي سياق ذلك كله فإن هذه المرجعية في تقديرنا ستضمن وجود قرار حكومي متسق وموازن بين هذه البنى الاستراتيجية القائمة ومستهدفاتها ومدركًا للصلات القائمة بينها، ومحققًا لأفضل الممارسات التي تبتغي أن تدفع بهذه البنى الاستراتيجية إلى تحقيق مستهدفاتها القصوى. ومن طبيعة ظروف البيئة التي يجري فيها اتخاذ القرار مسألة التدفق المعلوماتي المهول، مما يستدعي أيضًا وجود حكامة لنظام تدفق المعلومات والبيانات الوطنية في القطاعات ذات الصلة بصنع القرار، شريطة أن تتسم هذه المعلومات والبيانات بالمراجعة والمقارنة بين أكثر من معطى لتدفقها، ومدققة بواسطة نظم أخرى للفهم النوعي لسياقات المجتمع والتنمية والاقتصاد وحقول العمل التي تتوجه إليها عملية صناعة القرار.

نأمل كذلك أن تُمسك هذه المرجعية بوضع الإطار الشامل لعملية إشراك المجتمع في (صنع السياسات العامة)، (صناعة القرار الحكومي)، (المشاركة المجتمعية في تغذية وتقييم الممارسات الحكومية). والهدف من هذا الإطار تحديد الأسس العلمية لإشراك المجتمع، وتنظيم الممارسات وفق خطاطة المستهدفات المرجوة من هذه المشاركة، بمعنى أن يحدد هذا الإطار عمليًا (كيف ومتى يشرك المجتمع؟، وما الخلاصات المعرفية المراد تطويرها من كل توجه للمشاركة المجتمعية؟ ومتى يشرك المجتمع بدافع توليد المعلومات والمعارف؟ ومتى يشرك المجتمع بدافع صنع الأجندة وبناء الأولويات والتوجهات؟ وما هي الأشكال المثلى للمشاركة المجتمعية سواء كانت للاستشارة أو الإخبار أو التقييم أو التقويم أو المراجعة وفي أي السياقات يمكن استخدامها؟) مثل هذه الأسئلة حين توضع من قبل هذه المرجعية فإنها في تقديرنا ستسهم بشكل أو بآخر في تحديد موضع "الاستنارة المجتمعية" لدعم اتخاذ القرار الأنسب. وعوضًا عن ذلك فإن "الاستنارة المجتمعية" لابد أن تتأسس على وجود نظام متكامل للبيانات الاجتماعية، وهنا لا نقصد البيانات الإدارية للمجتمع والتي يمكن أن تؤخذ من خلال واقع التعدادات أو البيانات المولدة من وحدات المعلومات والإحصاء وإنما تتجاوز ذلك لفهم (الهياكل الاجتماعية القائمة – مسح المواقف والقيم والتصورات – الخصائص الفيزيائية للمجتمع – الطبوغرافيا وعلاقتها بالمجتمع) وبحسب ريانون كوركوران وآندي بنينجتون فإن القرارات والمشروعات التي تتأسس على مشاركة وفهم دقيق للمجتمع تفضي إلى "تحسن العلاقات بين الناس، والتواصل، والانتماء، والرفاهية الفردية، والصحة العقلية".

وبالطبع ليس بالضرورة أن تقوم هذه الوحدة المركزية بتوليد كل هذا المعلومات والمعارف ولكن من الممكن أن توجد لها السبل لتوليدها بالشراكة مع مؤسسات قائمة شريطة أن تدمج هذه المعطيات في تجويد عملية اتخاذ القرار الحكومي. ومن أوجه "الاستنارة المجتمعية" التي يمكن تعمل عليها مثل هذه الوحدات هو فهم "التحيزات المعرفية والإداركية" للبيئة التي سيجري فيها تطبيق القرار، وبالتالي تصميم القرار بطريقة تتجاوز معطيات ما يعرف بـ "الاختيار العقلاني" إلى فهم أكثر حساسية لظروف هذه التحيزات، وإدراك أن السياق المجتمعي يحفل بالكثير منها خصوصًا في أوقات التحولات ومراحل التغيرات المجتمعية، ونحن نتحدث هنا عن القرارات التي تكون متصلة بصيغة مباشرة بالواقع المجتمعي.

يحدد راندال إي لو من جامعة ميسوري ما يسميه المكاسب غير الملموسة من وجود وحدات لدعم اتخاذ القرار، وهو يرى أنها تسهم في "تحسين الرقابة والحوكمة على مستوى الأجهزة، وتسهم في إيجاد وعي إداري أفضل بمحددات القوة والضعف الداخلية والتهديدات والفرص الخارجية، وتحسن الوصول للمستهدفات على المدى الطويل من خلال تحسين جودة اتخاذ القرار، وتفضي لتحقيق استجابة أسرع للتغيرات في بيئة الأعمال". ويشير إلى نقطة بالغة الأهمية في تقديرنا وهي أن مكسب من مكاسب هذه الوحدات أنها تحول الخبرات إلى معارف وسيناريوهات فيما يسمى بـ "إدارة المعرفة". وفي تقديرنا فإن التجربة التاريخية للتخطيط التنموي عمومًا، والعمل المؤسساتي على وجه الخصوص التي تشكلت خلال العقود الماضية في السلطنة والممارسات التي تأسست عليها سواء في صوغ الرؤى والاستراتيجيات أو في إيجاد وحدات مركزية للتخطيط من شأنها أن تؤسس لتحويل كل هذه الخبرات إلى معارف يستند إليها عمل هذه الوحدة المركزية ويسترشد بها. وهو ما يؤدي بدوره إلى التعلم من حيثيات تجربة صنع القرار في مستويات المختلفة ومآلاتها وفجواتها ومكتسباتها وتوظيف ذلك في صنع قرار حكومي متزن ومستنير.