عندما يسعى القائمون على العمل الثقافي في أيّ بلد، إلى جعل الثقافة نمطا حياتيّا، من حيث إن مفهوم الثقافة لم يقتصر على الأدب، بل يتجاوز ذلك إلى أنشطة الحياة المختلفة، فبالتأكيد، ستكون النتيجة لصالح الوعي المجتمعي، والعمل الثقافي، والاقتصاد الوطني، من حيث إن الثقافة يمكن أن تشكّل رافدا من روافد التنمية المستدامة في بلداننا التي تتوفر فيها كلّ المقومات اللازمة لذلك، من مواقع أثرية، وغنى ثقافي، وكنوز تاريخية، وهذه بإمكانها أن تولّد منتجات ثقافية تكون عاملا أساسيا في صناعة ثقافةٍ ذات أبعاد اقتصادية، تؤكّد قدرتها على تقديم إسهامات تندرج ضمن عملية التنمية، وهذا الهدف الاستراتيجي يحتاج إلى عمل مضنٍ، ولن يتحقّق إلّا ببذل المزيد من الجهود، والاستفادة من التجارب العالميّة، في هذا الشأن، وتأهيل العاملين في المرافق الثقافية عن طريق تنظيم حلقات عمل، لتمكينهم، ووضع المحفّزات، وتوفير الدعم الكافي للعمل الثقافي، ومن دون ذلك، سنظلّ ندور في الدوائر المفرغة ذاتها.

وقد لفتت نظري خلال زيارتي الأخيرة للرياض، برامج تقوم بتنفيذها هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة، تندرج ضمن استراتيجية الهيئة بهدف النهوض بالقطاع الثقافي، عن طريق تحفيز، وتمكين الأدباء، وأصحاب دور النشر، والمشتغلين في قطاع الترجمة، والنقد، والفكر، والفلسفة، وأدب الأطفال، واليافعين، عبر إعطائهم برامج تدريبيّة، وتعليميّة متطوّرة، معروفة في العالم المتقدّم، ولم تدخل حيّز التطبيق في مجتمعاتنا، ومن بين هذه البرامج: (الشريك الأدبي) وهو برنامج يهدف إلى نشر الثقافة في الأوساط العامة كالمقاهي، وكلّنا نعرف أهميّة المقاهي كأماكن للتجمّعات يلجأ إليها الكثيرون لتمضية الوقت، ومن الممكن جعلها مراكز تنوير، وتثقيف، ومما أذكر في السبعينات، ببغداد، كانت المقاهي تحتضن شتى الأنشطة الثقافية، من مسابقات، ولقاءات أدبية، والبعض منها تضع في ركن من أركانها مكتبة صغيرة للاستفادة من محتوياتها التي تضمّ كتبا، وصحفا ومجلّات، كما نرى في صالونات الحلاقة، وأماكن انتظار العيادات، وهكذا يجعل برنامج (الشريك الأدبي) المقهى شريكا، كمكان مثالي لتجمّع الأفراد، في نشر الثقافة، ويتمّ اختيار المقاهي المناسبة لتنظيم عدّة برامج (الشريك الأدبي) التي تتضمن: قراءات كتب، وأمسيات، وحلقات نقاشية أدبية.

وهناك برنامج آخر حمل عنوان (معتزلات الكتابة) حدّثتني عنه الشاعرة هيفاء الجبري، وفكرته شائعة في الأوساط الثقافيّة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وهدفها ليس صناعة أجواء تجعل الكتّاب يعتزلون الحياة العامّة، ويتفرّغون للكتابة، بل مدّ جسور التواصل بين المبدعين العرب، والخليجيين، من جمع جيلين مختلفين، وتجارب مختلفة، للخروج بأفضل النتائج، والاستفادة من أصحاب التجارب المتحقّقة، وذوي الخبرات الأدبية، ونقل تلك التجارب للأجيال الجديدة، وتنظيم حلقات عمل، فالكتابة ليست فقط موهبة، بل خبرة، وثقافة، وكلّ ذلك يقام في أماكن تساعد المشتركين بالبرنامج على التركيز، والكتابة بعيدا عن صخب المدن، فيجتمع أعضاء المعتزل في منتجع صحراوي بعيد عن الضوضاء، تحيطه حقول شاسعة من النخيل، والاتصال المباشر مع الطبيعة، كما جرى في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم، عندما أقيم (المعتزل) الذي استمرّ سبعة أيام، التقى خلاله عشرة كتّاب سعوديين بكتّاب من كل أنحاء الدول، وكان في مجال القصة القصيرة بإشراف الروائي يوسف المحيميد والقاص عبدالرحمن الدرعان.

ولا تنتهي مرحلة (المعتزل) إلّا بعد أن يقدّم المشترك عملا من وحيها، يمثّل هوية المنطقة التي أقيم فيها (المعتزل)، وبعد انتهاء (المعتزل) يقوم المشاركون بزيارات لمتاحف ومعالم أثرية في المنطقة التي يقام بها، وينتقل المشاركون الراغبون في الاستمرار، إلى مرحلة ثانية متقدّمة، وهي مرحلة (الإقامة الأدبيّة) التي تمتدّ من أربعة أسابيع إلى ستة، وهو نظام معروف في أوروبا يقوم على منحة تقدمها أكاديميات تستضيف كتّابا توفّر لهم كلّ ما يحتاجون ليتفرغوا لإنجاز أعمالهم الإبداعية، أو البحثية خلال مدّة محدّدة، وقد استفاد من الإقامات الأدبية في أوروبا كتّاب وشعراء عرب من بينهم الشاعر قاسم حداد الذي حصل على منحة من أكاديمية ألمانية أنجز خلالها أكثر من ديوان، مثلما نأمل أن يسفر برنامج (الإقامة الأدبيّة) السعودي عن أعمال قادمة في القادم من الأيّام.

وكلّ البرامج التي ذكرت: الشريك الأدبي، ومعتزلات الكتابة، والإقامة الأدبية، لا تقوم بها الهيئة وحدها، فالاستراتيجية تملي على القائمين عليها إيجاد شركاء لتنفيذها، وتحتّم إشراك القطاع الخاص في دعمها وتمويلها، وبدون ذلك تبقى هذه البرامج حبرا على ورق، فالثقافة في النهاية من المجتمع، وإليه.