عبدالله العليان
تحدث الكثير من الباحثين والمهتمين بصعود الحضارات وتدهورها، أو سقوطها كما يرى البعض الآخر، ومن بينها الحضارة العربية/ الإسلامية وتراجعها، وجاءت بعدها الحضارة الغربية، مع الحضارة العربية وصلت إلى مستوى من الرقي والمدنية مبلغًا كبيرًا، خاصة في العصر العباسي وما بعده، حققت تقدمًا في المجال العلمي والفكري والاقتصادي، وقد أعترف بذلك العديد من المفكرين الغربيين المنصفين المهتمين بتاريخ الحضارات الإنسانية بما وصلت إليه هذه الحضارة، وتحدثوا عن مكانتها وأثرها المهم، في تقدم الحضارة الغربية في العصور التالية. وكتب العديد من علماء التاريخ والاجتماع والفكر الإسلامي، أسباب التراجع الحضاري والعلمي والمدني في العديد من المؤلفات، وذكروا أسبابًا مختلفة لهذا الانهيار الكبير منذ عدة قرون، منها السياسات غير الرشيدة التي سبقت هذا الانهيار من حيث عدم المتابعة المهمة للاستمرار بالدفع بالعلوم الطبيعية والمعرفة الفكرية، بحيث تبقى حركتها دائبة ومتواصلة، لكن هذا لم يتم لتطوير ما برز منها خلال الحقب الماضية، من معارف وعلوم مختلفة فبقيت على ما هي عليه، دون أن تواصل مسيرتها في التقدم العلمي، فجمّدت الحركة العلمية والفلسفية، وتم هذا أيضًا في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فاستمر التراجع والتردي بصورة مطردة، وازداد الضعف والإخفاقات على أكثر من صعيد، مع توالي الانقسامات السياسية داخل البنية الداخلية بين قيادات تلك المماليك العربية داخل الخلافة الإسلامية، الذي كان لها أثرها الكبير على النهضة والتقدم والقدرة على الدفاع عن حياض الأرض العربية، وبقى هذا الوضع يتراجع في كل المجالات.
وربما أهم الأسباب التي ذكرها البعض من المهتمين، ومنها الصراعات الداخلية في الممالك العربية حتى ضعفت القدرات الدفاعية، مما سهّل الأمر للدول والجماعات الأجنبية، لغزو الممالك العربية واحتلالها، وبدأ ذلك بالحملة الصليبية الأولى لاحتلال بيت المقدس عام (1096م)، والحملات التالية لاحتلال بلدان ممالك أخرى في الشام، ثم جاء الغزو المغولي بقيادة "هولاكو"، عام ( 1217م)، فازداد الضعف سوءًا بالدولة العباسية، فكان التأثير مدمرًا بسبب الخلاف الدائم المستعر بين أمراء هذه الدول، وأدى هذا إلى الصراعات والتطاحن بين الممالك آنذاك ومع قادة هذه المماليك الذين استعان بهم البعض على بعض الآخر، وتم إهمال ما تم تحقيقه في النهوض العلمي والفكري وساهم هذا في تراجعنا حضاريًا على كل المستويات.
وكان لهذه الغزوات أيضًا مساهمتها في انهيار ما تحقق في هذه الحضارة الكبيرة من إهمال العلم والنهضة، وعوامل عديدة من الأسباب الدافعة للانهيار، والبداية الصحيحة لواقع هذا الأمر للحضارة العربية/ الإسلامية وما أصابها، يرى د.عبد الفتاح مقلد الغنيمي، أن بداية التراجع الحضاري، أتت بعد:"سقوط بغداد تحت ضربات التتار عام (656)/ في القرن الثالث عشر الميلادي -وأدى- إلى إهمال المؤرخين لهذه الفترة على أنها أهمها انحطاط الحياة الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية في هذه الفترة". وهذه جاءت لأسباب واقعية حدثت لسياسات وممارسات جاءت كنتيجة طبيعية لما حدث لهذه الحضارة.
منذ عدة أسابيع اطلعت على أحد المؤلفات يحمل عنوان "الإسلام والسلطوية والتأخر" للكاتب التركي أحمد كورو، وهذا الكتاب قد نتفق معه في الآراء التي قالها حول أسباب التأخر والتراجع للحضارة العربية/ الإسلامية، لكنني استغربت أن يتم حشر الإمام أبو حامد الغزالي، بأنه أسهم مساهمة رئيسية في التراجع الحضاري لهذه الأمة، وتجاهل الأسباب الحقيقية التي لا نستطيع أن ننكرها أو نتجاهلها، وهي المحرك الأساسي لما حدث لهذه الحضارة، سواء في فترة الغزوة الصليبية، وهي الفترة التي كان الغزالي حاضراً في تلك الفترة المشؤومة، أو ما بعد ذلك من تصرفات وصراعات، دفعت أولا بالحملة الصليبية، ثم بالغزو المغولي للتتار بقيادة "هولاكو"، وما تبعها من أخطاء وسلبيات وتراجعات -كما أشرنا آنفًا- في القرون التالية.
يقول أحمد كورو في هذا الكتاب، إن أبو حامد الغزالي ـ ناقلاً من البعض من المستشرقين الغربيين في أغلبهم ـ أنه من كان سببًا -الغزالي- [في] هذا التدهور، بسبب حملته على الفلسفة وتحوله للتصوف، فيقول الكاتب أحمد كورو في هذه المنقولات من بعضهم:"هناك تفسير أوسع انتشارًا للاضمحلال الفكري للمسلمين يشير إلى الدور السلبي الذي لعبه الغزالي. يجادل "ستار" في كتابه "النهضة الضائعة" بأن الغزالي أسهم في التدهور الفكري في آسيا الوسطى. ووفقاً لستار فإن الغزالي فرض تراتبية معرفية (إبستمولوجية) قللت من شأن الفكر العقلاني وجعلته في مكانة ثانوية بحيث لم يعد قادرًا على تحدي المعرفة المكتسبة من خلال الحدس الباطني والتقاليد أو مسموحًا له بذلك".
ويضيف كورو في نقولاته ـ وكأنه موافق عليها ـ من باحثين غربيين عن علاقة التدهور في الحضارة العربية/ والإمام الغزالي فيقول: "كما يحّمل "راندال كولينز" أيضًا الغزالي مسؤولية تهميش الفلسفة، ففي رأيه، جمع الغزالي بين الكلام وعلوم القرآن والمنطق والتصوف، وأصبح هذا المزيج هو "الثقافة السنية السائدة في الإسلام"، وأثر هذا المزيج في المدارس على وجه خاص، فقد سمح بوجود المنطق فقط، منفصلًا عن الفلسفة".
والحقيقة أن هذا التقييم والتحليل، لتدهور الحضارة العربية/ الإسلامية، وربطها بأبي حامد الغزالي، دون ذكر الأسباب الأخرى الأقوى تأثيرًا في هذا التراجع الكبير التي أدت للتدهور العام في الممالك العربية/ الإسلامية مجاف للحقيقة، من الناحية المنهجية والناحية الموضوعية، وهذا القول تهّرب من الغوص في الأسباب الحقيقية والموضوعية، لخفوت هذه الحضارة وتراجعها في ميادينها الفكرية والعلمية.
كما أن الأمام الغزالي كما عرف عنه، لم يكن ضد العقل والفلسفة بصورة قاطعة، كما جاء في هذا الكتاب ناقلًا عن بعض المستشرقين، كرؤية للتفكر والتأمل والبحث عن الحقيقة، لكنه اختلف مع الفلاسفة في بعض الأفكار والرؤى الفكرية، فيما اعتبروه الفهم الصحيح لقضايا فكرية ودينية اعتنقوها، وهذه مسألة طبيعية في مسألة النقد والاختلاف، خاصة أن الاتهام الأهم كان موجه للغزالي، كان سببه كتابيه:"تهافت الفلاسفة" و"مقاصد الفلاسفة".
والدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "المعقول وألا معقول في تراثنا الفكري"، تعليقًا على بعض ما يقال عن اتجاه الغزالي وتراجعه إلى الخلف بسبب اتجاهه للتصوف والعزلة، وترك ما بدأه في الفكر والمنطق وهضم الفلسفة.. يقول زكي نجيب: "لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشر الميلادي، وجاء بعده بأكثر من خمسة قرون إمامان من أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كله، هما ديكارت في فرنسا وفرانسس بيكون في إنجلترا، اللذان يعدان فاتحة العصر الحديث في الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة، لم يوردها الغزالي شرطًا من شروط النظرة العلمية نثر أصولها على صفحات كتبه نثرًا". وأرى ما قاله د. زكي نجيب فيما وضعه أبو حامد الغزالي من معارف منهجية وعلمية وفكرية، تجعل ما نقله صاحب كتاب "الإسلام والسلطوية والتأخر" ـ مع موافقة هذا الكاتب لرأيهم ـ فهو طرح أيديولوجي واضح لا تنكره العين الثاقبة، وليس هذا فحسب، بل إن الغزالي تحدث بكل تحديد في قضية العلم اليقيني الذي لا تنقضه الأوهام ولا شطحات في إدراك حقائقه، فيقول في كتابه "المنقذ من الضلال": "العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة أكثر من العشرة، بدليل أن أقلب العصا ثعبانًا، وقبلها، شاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فإما الشك فيما علمته فلا".
هذا القول من الإمام الغزالي في العلم اليقيني والتمسك به، مهما كانت رؤيته لبعض الظواهر والشطحات، هو يخالف أقوال الكاتب أحمد كورو، ومن نقل عنهم في نقدهم للغزالي في كتابه، والغريب أن كتاب "المنقذ من الضلال"، هو من كتبه الأخيرة، التي اعتبرت فترة نكوص وانزوى الغزالي على الزهد والابتعاد، وتراجعه عن الكثير من الآراء المنطقية والعلمية.. أما قصة خلافه مع الفلاسفة وانتقادهم، فلها حديث آخر.
تحدث الكثير من الباحثين والمهتمين بصعود الحضارات وتدهورها، أو سقوطها كما يرى البعض الآخر، ومن بينها الحضارة العربية/ الإسلامية وتراجعها، وجاءت بعدها الحضارة الغربية، مع الحضارة العربية وصلت إلى مستوى من الرقي والمدنية مبلغًا كبيرًا، خاصة في العصر العباسي وما بعده، حققت تقدمًا في المجال العلمي والفكري والاقتصادي، وقد أعترف بذلك العديد من المفكرين الغربيين المنصفين المهتمين بتاريخ الحضارات الإنسانية بما وصلت إليه هذه الحضارة، وتحدثوا عن مكانتها وأثرها المهم، في تقدم الحضارة الغربية في العصور التالية. وكتب العديد من علماء التاريخ والاجتماع والفكر الإسلامي، أسباب التراجع الحضاري والعلمي والمدني في العديد من المؤلفات، وذكروا أسبابًا مختلفة لهذا الانهيار الكبير منذ عدة قرون، منها السياسات غير الرشيدة التي سبقت هذا الانهيار من حيث عدم المتابعة المهمة للاستمرار بالدفع بالعلوم الطبيعية والمعرفة الفكرية، بحيث تبقى حركتها دائبة ومتواصلة، لكن هذا لم يتم لتطوير ما برز منها خلال الحقب الماضية، من معارف وعلوم مختلفة فبقيت على ما هي عليه، دون أن تواصل مسيرتها في التقدم العلمي، فجمّدت الحركة العلمية والفلسفية، وتم هذا أيضًا في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، فاستمر التراجع والتردي بصورة مطردة، وازداد الضعف والإخفاقات على أكثر من صعيد، مع توالي الانقسامات السياسية داخل البنية الداخلية بين قيادات تلك المماليك العربية داخل الخلافة الإسلامية، الذي كان لها أثرها الكبير على النهضة والتقدم والقدرة على الدفاع عن حياض الأرض العربية، وبقى هذا الوضع يتراجع في كل المجالات.
وربما أهم الأسباب التي ذكرها البعض من المهتمين، ومنها الصراعات الداخلية في الممالك العربية حتى ضعفت القدرات الدفاعية، مما سهّل الأمر للدول والجماعات الأجنبية، لغزو الممالك العربية واحتلالها، وبدأ ذلك بالحملة الصليبية الأولى لاحتلال بيت المقدس عام (1096م)، والحملات التالية لاحتلال بلدان ممالك أخرى في الشام، ثم جاء الغزو المغولي بقيادة "هولاكو"، عام ( 1217م)، فازداد الضعف سوءًا بالدولة العباسية، فكان التأثير مدمرًا بسبب الخلاف الدائم المستعر بين أمراء هذه الدول، وأدى هذا إلى الصراعات والتطاحن بين الممالك آنذاك ومع قادة هذه المماليك الذين استعان بهم البعض على بعض الآخر، وتم إهمال ما تم تحقيقه في النهوض العلمي والفكري وساهم هذا في تراجعنا حضاريًا على كل المستويات.
وكان لهذه الغزوات أيضًا مساهمتها في انهيار ما تحقق في هذه الحضارة الكبيرة من إهمال العلم والنهضة، وعوامل عديدة من الأسباب الدافعة للانهيار، والبداية الصحيحة لواقع هذا الأمر للحضارة العربية/ الإسلامية وما أصابها، يرى د.عبد الفتاح مقلد الغنيمي، أن بداية التراجع الحضاري، أتت بعد:"سقوط بغداد تحت ضربات التتار عام (656)/ في القرن الثالث عشر الميلادي -وأدى- إلى إهمال المؤرخين لهذه الفترة على أنها أهمها انحطاط الحياة الفكرية والعلمية والثقافية والسياسية في هذه الفترة". وهذه جاءت لأسباب واقعية حدثت لسياسات وممارسات جاءت كنتيجة طبيعية لما حدث لهذه الحضارة.
منذ عدة أسابيع اطلعت على أحد المؤلفات يحمل عنوان "الإسلام والسلطوية والتأخر" للكاتب التركي أحمد كورو، وهذا الكتاب قد نتفق معه في الآراء التي قالها حول أسباب التأخر والتراجع للحضارة العربية/ الإسلامية، لكنني استغربت أن يتم حشر الإمام أبو حامد الغزالي، بأنه أسهم مساهمة رئيسية في التراجع الحضاري لهذه الأمة، وتجاهل الأسباب الحقيقية التي لا نستطيع أن ننكرها أو نتجاهلها، وهي المحرك الأساسي لما حدث لهذه الحضارة، سواء في فترة الغزوة الصليبية، وهي الفترة التي كان الغزالي حاضراً في تلك الفترة المشؤومة، أو ما بعد ذلك من تصرفات وصراعات، دفعت أولا بالحملة الصليبية، ثم بالغزو المغولي للتتار بقيادة "هولاكو"، وما تبعها من أخطاء وسلبيات وتراجعات -كما أشرنا آنفًا- في القرون التالية.
يقول أحمد كورو في هذا الكتاب، إن أبو حامد الغزالي ـ ناقلاً من البعض من المستشرقين الغربيين في أغلبهم ـ أنه من كان سببًا -الغزالي- [في] هذا التدهور، بسبب حملته على الفلسفة وتحوله للتصوف، فيقول الكاتب أحمد كورو في هذه المنقولات من بعضهم:"هناك تفسير أوسع انتشارًا للاضمحلال الفكري للمسلمين يشير إلى الدور السلبي الذي لعبه الغزالي. يجادل "ستار" في كتابه "النهضة الضائعة" بأن الغزالي أسهم في التدهور الفكري في آسيا الوسطى. ووفقاً لستار فإن الغزالي فرض تراتبية معرفية (إبستمولوجية) قللت من شأن الفكر العقلاني وجعلته في مكانة ثانوية بحيث لم يعد قادرًا على تحدي المعرفة المكتسبة من خلال الحدس الباطني والتقاليد أو مسموحًا له بذلك".
ويضيف كورو في نقولاته ـ وكأنه موافق عليها ـ من باحثين غربيين عن علاقة التدهور في الحضارة العربية/ والإمام الغزالي فيقول: "كما يحّمل "راندال كولينز" أيضًا الغزالي مسؤولية تهميش الفلسفة، ففي رأيه، جمع الغزالي بين الكلام وعلوم القرآن والمنطق والتصوف، وأصبح هذا المزيج هو "الثقافة السنية السائدة في الإسلام"، وأثر هذا المزيج في المدارس على وجه خاص، فقد سمح بوجود المنطق فقط، منفصلًا عن الفلسفة".
والحقيقة أن هذا التقييم والتحليل، لتدهور الحضارة العربية/ الإسلامية، وربطها بأبي حامد الغزالي، دون ذكر الأسباب الأخرى الأقوى تأثيرًا في هذا التراجع الكبير التي أدت للتدهور العام في الممالك العربية/ الإسلامية مجاف للحقيقة، من الناحية المنهجية والناحية الموضوعية، وهذا القول تهّرب من الغوص في الأسباب الحقيقية والموضوعية، لخفوت هذه الحضارة وتراجعها في ميادينها الفكرية والعلمية.
كما أن الأمام الغزالي كما عرف عنه، لم يكن ضد العقل والفلسفة بصورة قاطعة، كما جاء في هذا الكتاب ناقلًا عن بعض المستشرقين، كرؤية للتفكر والتأمل والبحث عن الحقيقة، لكنه اختلف مع الفلاسفة في بعض الأفكار والرؤى الفكرية، فيما اعتبروه الفهم الصحيح لقضايا فكرية ودينية اعتنقوها، وهذه مسألة طبيعية في مسألة النقد والاختلاف، خاصة أن الاتهام الأهم كان موجه للغزالي، كان سببه كتابيه:"تهافت الفلاسفة" و"مقاصد الفلاسفة".
والدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "المعقول وألا معقول في تراثنا الفكري"، تعليقًا على بعض ما يقال عن اتجاه الغزالي وتراجعه إلى الخلف بسبب اتجاهه للتصوف والعزلة، وترك ما بدأه في الفكر والمنطق وهضم الفلسفة.. يقول زكي نجيب: "لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشر الميلادي، وجاء بعده بأكثر من خمسة قرون إمامان من أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كله، هما ديكارت في فرنسا وفرانسس بيكون في إنجلترا، اللذان يعدان فاتحة العصر الحديث في الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة، لم يوردها الغزالي شرطًا من شروط النظرة العلمية نثر أصولها على صفحات كتبه نثرًا". وأرى ما قاله د. زكي نجيب فيما وضعه أبو حامد الغزالي من معارف منهجية وعلمية وفكرية، تجعل ما نقله صاحب كتاب "الإسلام والسلطوية والتأخر" ـ مع موافقة هذا الكاتب لرأيهم ـ فهو طرح أيديولوجي واضح لا تنكره العين الثاقبة، وليس هذا فحسب، بل إن الغزالي تحدث بكل تحديد في قضية العلم اليقيني الذي لا تنقضه الأوهام ولا شطحات في إدراك حقائقه، فيقول في كتابه "المنقذ من الضلال": "العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافًا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً من يقلب الحجر ذهبًا والعصا ثعبانًا، لم يورث ذلك شكًا وإنكارًا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة أكثر من العشرة، بدليل أن أقلب العصا ثعبانًا، وقبلها، شاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فإما الشك فيما علمته فلا".
هذا القول من الإمام الغزالي في العلم اليقيني والتمسك به، مهما كانت رؤيته لبعض الظواهر والشطحات، هو يخالف أقوال الكاتب أحمد كورو، ومن نقل عنهم في نقدهم للغزالي في كتابه، والغريب أن كتاب "المنقذ من الضلال"، هو من كتبه الأخيرة، التي اعتبرت فترة نكوص وانزوى الغزالي على الزهد والابتعاد، وتراجعه عن الكثير من الآراء المنطقية والعلمية.. أما قصة خلافه مع الفلاسفة وانتقادهم، فلها حديث آخر.