يُخبرنا دارسو جغرافيا المناخ أن الأعاصير في عُمان قديمة، وإنْ كان الناسُ في هذه الأرض لم يعرفوا مسميّاتها العلميّة، فاخترعوا لها في أزمانهم تلك الأسماء التي تفرّقها عن الأمطار العادية التي سرعان ما تتوقف بعد دقائق من الانهمار. وحدّدوا سنوات بعينها شهد الناس فيها سيولا جارفة استمرّت أياما بلياليها، فسَجّلت الأحاديث المروية والمكتوبة نقلا عمن شهدها حوادثَ من قبيل: جرفة السبعين، وجرفة صَفر، وسنة الغريقة، وسنة الجائحة، والحيمر، وغيرها من المسميات التي ابتدعتها بديهتهم التي تعرف كيف تقرأ الطبيعة وتقلّباتها، قبل أن يأتي إعصار "جونو" في عام 2007، ويبدؤون معه اعتماد التسميّات العلميّة للأعاصير والعواصف، بل اكتسبوا معه خبرة معرفة درجات الأعاصير والفرق بينها وبين العواصف والمنخفضات، كما بدأت تتعاقب بعد "جونو" الشهير وتيرة الأعاصير وتتقارب أزمنتها نتيجة للتغيّرات المناخيّة وفقا لدارسي جغرافيا المناخ كذلك.

وإبان إعصار "شاهين" الذي ضرب عُمان في الثالث والرابع من شهر أكتوبر 2021، مُخلّفا أضراره الكارثية على محافظتي شمال الباطنة وجنوبها بنحو خاص، لفت الروائي زهران القاسمي متابعيه في الفيسبوك إلى مقطع من روايته الجديدة "تغريبة القافر" التي صدرت بعد ذلك بشهر واحد فقط (أي في معرض الشارقة الحالي للكتاب عن دار مسكيلياني). يصف المقطع مشهدا لسيول جارفة تغمر حارات بأكملها، فيلوذ الناس بالجبال والكهوف، ومن هناك ظلّوا يرقبون بيوتهم ومزارعهم بينما السيل يغرقها تماما فتصبح أثرا بعد عين.

يصف الراوي المشهد قائلا: "تَحوّل الصيف فجأة إلى شتاء قارس، وأضحت الرياح الباردة تزمجر في الحواري وبين الجبال، فهرب الناس إلى بيوتهم ليحتموا بها. كانت ريحًا عاتيةً سقط جرّاءها بعض النّخل وتكسّرت أغصان الأشجار الكبيرة، وكادت أسطح المنازل تسقُط على ساكنيها. ثم أظلمت الدنيا وهبط الضباب على رؤوس الجبال، وبدأ المطر ينهمر بشدّة وكأن السماء قد دلقت نفسها على القرية. جرفت السيول البساتين وذابت جدران البيوت الطينية فتساقطت الأسطح، وهرب الناس بأمتعتهم وطعامهم إلى مغاور الجبال واحتموا بالكهوف الكبيرة أيامًا عديدة، ومن هناك ظلُّوا يراقبون الماء وهو يغمر البلدة ويأخذ في طريقه كل شيء، فصارت بيوتهم أثرًا بعد عين".

لم يكن المشهد السالف من رواية زهران الجديدة مشهدا تنبؤيًّا لما سيخلفه إعصار "شاهين" الذي سبق صدور الرواية بشهر واحد وحسب، وإنما استحضار لمشاهد سيول عرفتها هذه البلاد على امتداد أزمنتها المختلفة. ومن يقرأ رواية زهران هذه سيقف على أنها رواية مائية بامتياز، يؤدي الماء فيها دور البطولة بتعدد أشكاله وحالاته، ويرسم بطبائعه الخاصة غير القابلة للتكهن مآلات شخصيات الرواية، حتى لا تكاد بطولة تطغى على بطولته، بمن فيهم بطلها "القافر"، الذي اكتسب صفته بسبب الماء وبمنحة منه.

وقبل رواية زهران الأخيرة هذه، نقف على عدد لا بأس من النصوص التي سرّدت السيل بأشكال عدة، نذكر منها رواية "تبكي الأرض يضحك زحل" لعبد العزيز الفارسي، التي صدرت في عام 2007 وبلغت القائمة الطويلة من جائزة البوكر العربية في عام 2008. ومثل زهران، فعل الفارسي عندما جعل السيل فاعلا أكبر في أحداث الرواية، إذ يغمر قرية المحيان بن خلف فيجرف في طريقه كل شيء بمن في ذلك البشر، ويأتي ببشر آخرين يُنسبون إلى السيل كخديم ولد السيل، الذي وجده أهل القرية طفلا صغيرا طافيا في طست كبير لا يعرفون له أصلا ولا أهلا.

ومن الروايات التي وظّفت السيل من دون أن يكون حدثَها الرئيس، نقف على رواية بشرى خلفان "الباغ" التي صدرت في عام 2016، وجملتها الشهيرة - التي أصبحت علامتها البارزة - على لسان راشد وهو يردف أخته ريّا خلفه على ظهر الناقة نميصة؛ ليعبرا واديًا جارفًا تحت وابل مطر غزير يزيد من مغامرة العبور رعبًا: "نخوض، ويا نوصل رباعة ويا يشلنا الوادي رباعة" (الباغ، ص9). وهذه العبارة نفسها ألهمت إحدى فنانات مجموعة السمط للفن التشكيلي (وهي مجموعة تضم اثنتي عشرة فنانة تشكيلية عمانية تأسست في عام 2016)، وهي الفنانة مياسة الرئيسية التي جسّدت العبارة في لوحة فنية عُرضت ضمن أعمال المعرض الذي حمل اسم الرواية نفسه، وأقيم في بيت الزبير في أبريل من عام 2019، وقد تجسدت أحداثها بالريشة والألوان.

ومن بين الروايات التي جاءت على ذكر السيل من دون أن يكون حدثها الرئيس، نتذكّر رواية "أسامينا" لهدى حمد، التي تورد ذكرا لوادٍ يعزل قرية "سيح الحيول" عن العالم، وتصبح محاولة العبور منها إلى الخارج ترفًا لا يملكه إلا من ملك سيارة دفع رباعي، وهذه لا يملكها في قرية "سيح الحيول" إلا أولاد الشيخ. وهؤلاء لخشيتهم من أن يجرف الوادي سيارتهم يتعلّلون بعدم جدوى نقل مريض كان أو غيره إلى حيث لا يأمنون نجاته ونجاة من معه بسيارة وحيدة لا تملك القرية غيرها، "ماذا لو غرقت اللاندروفر الوحيدة في القرية!" (أسامينا، ص18).

ونتذكّر كذلك قصة "لقاء الظهيرة" لمازن حبيب المنشورة ضمن مجموعته القصصية الأخيرة "قوانين الفقد" الصادرة في عام 2021، والفتى أحمد الذي اختار أن يلزم مقعد سيارة الجيب الخرِبة الملقاة في بطن الوادي، ويربط حزام الأمان عندما اندفع الوادي وهاج بالمياه، وقد تشبّث بالمِقوَد متحديًّا تلاطم الوادي وارتفاع منسوبه، وفي ذهنه أنه سيتمكّن هذه المرة من إنقاذ أمه التي غرقت في السيارة نفسها قبل سنوات بعدما علِقت فيها ولم تستطع الخروج، وانتهى بها المطاف غرقًا على كرسي الراكب مقيّدة بحزام الأمان. (قوانين الفقد، ص26، 27)

ولكن إعصار "جونو" في عام 2007 كان علامة فارقة في التاريخ العماني الحديث، وصدرت بعده روايات استلهمت الحدث وسمّته صراحة، وقد اتخذ بعضها الموضوع حدثًا عارضًا، كما في رواية "امرأة تضحك في غير أوانها" الصادرة في عام 2014 لنبهان الحنشي. وفيها يورد فقرة عن الإعصار النادر الذي عصف بالبلاد في أحد الأيام الغريبة. وعن علي الذي أمِن الخطر في "روي"، وتوقّع أن تكون "جعلان" أكثر أمانًا طالما بَعُدت عن مسقط التي تستهدفها عين الإعصار مباشرة. ولكنه يُفجع ببيت جعلان الذي آوى أمه وأخته وحيدتين وقد انطبق سقفه على أرضيته بينما كان بعيدًا عنهما في روي! (امرأة تضحك في غير أوانها، ص43، 44).

أما حمود الشكيلي في روايته "صرخة واحدة لا تكفي" الصادرة في عام 2014 أيضا، فيختار حدث إعصار جونو لتصعيد توتر الأحداث في روايته، ويكشف به عن واقع لا يختار إلا البؤساء وينتقيهم ضحايا دون غيرهم حسب رؤيته، من خلال مجموعة سائقي سيارات الغاز في الرواية الذين انتهت حياتهم غرقى في الإعصار الذي استهدف مسقط. وعلى خلاف رواية الحنشي، استغرق حدث الإعصار ثلث رواية الشكيلي. بينما اختار سلطان العزري أن يبني روايته "سفينة نوح" الصادرة في عام 2012 كاملةً على حدث الإعصار في سردية تتابع يوميات الإعصار وما يرشح عنه من أخبار في الصحف بنحو خاص، فيما يشبه التوثيق الذي يستقصي فيه الراوي الخبر كما نشرته الصحف المحلية يومًا بيوم، ويعلّق عليه وفقًا لطريقة تعاطي مؤسسات الدولة مع الحدث الذي باغت العمانيين على حين غرّة.

وإلى جانب الروايات، كُتبت قصص قصيرة سرّدت حدث إعصار جونو، نتذكّر منها على سبيل المثال قصة "خمسة ستة" لمحمد بن سيف الرحبي المنشورة ضمن مجموعته القصصية "الصفرد يعود غريبا" الصادرة في عام 2012، حيث يشير عنوان القصة إلى تاريخ حدوث إعصار جونو وهو الخامس من يونيو/ "خمسة ستة"، ولكنها تراوح بين خمسة ستة من عام 2007 يومَ وقعت الكارثة، وخمسة ستة بعد عام كامل منها في عام 2008؛ ما بين صورة الموت في هيئة ماء يزحف على سلالم البيت صاعدًا إلى الأعلى، حيث أوى بطل القصة بعائلته إلى الدور العلوي، ثم إلى غرفة السطح ليقاوم زحف الماء البني الداكن. وبين استرجاع ذكرى الكارثة وقد عاد البطل بعد عام إلى ما كان بيته، حلمه، وقد أحنته الكارثة وحفرت أساساته، تاركة له حسراتٍ وأقساطًا للبنك التجاري وأخرى للبنك السكني ووكالة السيارات بعدما جرف الماء سيارته وحملها أمام ناظريه من داخل فناء البيت إلى حيث لا يدري. تشير قصة "خمسة ستة" إلى التغيُّر الذي طال الصورة الذهنية للمطر في الوعي الجمعي العماني بُعيد إعصار جونو، من خلال بطلها الذي "للمرة الأولى رأى في الماء عدوًّا، خاف على أطفاله منه، لم يعد يحلم بالمطر كما اعتاد، لم يعد يغنّي للمطر ينتظره كحلمٍ تأخر كثيرا عن المجيء" (الصفرد يعود غريبا، ص44).

وفي قصة قصيرة أخرى لأحمد الكلباني، شارك بها في الملتقى الأدبي والفني للشباب في الرستاق في عام 2014، ثم تحوّلت إلى مسرحية مونودراما في عام 2018 أدّى بطولتها الفنان عبدالحكيم الصالحي، وحملت عنوان القصة نفسه "الحْيَالَة"، تتحدث عن سيل وقع في قرية "مِسكن" بعد عام من كارثة إعصار جونو الذي ضرب مسقط. تبدأ القصة من ذروتها الصغرى بمشهد وادٍ جارف يقتحم البلدة لم يَعرف له حتى كبار السن شبيهًا منذ "جرفة صَفر". يفتتحها الكلباني هكذا:

"الساعة السادسة صباحا

الهاتف يرن

- الوادي دافع جارف وداخل البلاد.. خبّر أبوك يشل السيارة بسرعة.

على الفور عَلِم أبي بذلك، ورأيت في عينيه أنّا بتنا أمام فوهة المدفع. تبعته فورا.

كانت المرة الأولى التي يقتحم فيها الوادي البلدة، هذا ما بيّنه عجوزٌ طاعنٌ في السن، منذ (جرفة صفر)، التي - وهي أكبر كوارث الأمطار عنفًا على الإطلاق - لم تصل حتى إلى (برج الحصن)، البرج الذي تبدأ به البلدة والذي شُيّد على صعيد مرتفع قليلا في حصنها القديم الذي على أنقاضه المتبقية بنى أبي بيتنا البسيط"

تعقد القصة مقارنة بين "جونو" والوادي الذي جرف أجزاء من قرية "مِسكن" بوعي يتوجس خيفةً من الجبال أكثر من السواحل هذه المرة وفقا لما خَبَرَهُ الناس في إعصار "جونو". وقد جعلت القصة من "برج الحصن" علامة لقياس ارتفاع منسوب المياه، لتعيد إلى الأذهان رمز مطعم ماكدونالدز في مسقط الذي كان علامة لقياس ارتفاع منسوب مياه الإعصار، وقد غمره الماء بأكمله باستثناء حرف الشركة الشهير في قمّته. تعزو القصة أسباب الكارثة على قرية "مِسكن" لأسباب تخطيطية قادت إلى إسناد مشروع إلى شركة شقّت شارعًا جديدًا ضيّق على الوادي مجراه وشطره إلى نصفين، ولم يؤخذ فيه برأي العارفين من كبار السن من أهل القرية، على الرغم مما بدا عليه الشارع بعد اكتماله من جمال واتساع.

يتوجّس بطل القصة خيفةً من أنهم سيظلون هاربين إلى الأبد من كوارث فيضانات يبدو أنها ستتكرر بوجود هذا الشارع. يقول: "ترى هل سنهرب هذه المرة فقط، أو سنظل نهرب إلى الأبد؟". سقطت "الحيالة"، أو السور المنيع الذي بناه جدّه بمساعدة أهالي البلدة، السدّ الذي صمد أمام الوادي في المرة الأولى وحمى خلفه البيت والمزرعة وزريبة الماشية، ولكنه تهاوى في المرة الثانية وأصبحت الأرض كلها تهتزّ تحت هدير الوادي القادم من أعالي الجبال.

وتتحدّث قصة "شبابيك زيانة" لبشاير حبراس، المنشورة ضمن مجموعة قصصها القصيرة جدا التي حملت العنوان نفسه والصادرة في عام 2020، عن عاصفة لم تسمّها عبر مذيعة النشرة الجوية المعروفة زيانة المظفّر. تقول القصة: "اقتربت العاصفة، وزيانة المظفّر تقدّم النشرة الجوية ما تزال، بتنورتها الزرقاء وقميصها الأبيض، الذي تصطفّ عليه الكثير من الشبابيك. نبّهت المشاهدين إلى احتمال انقطاع التيار الكهربائي وضرورة إغلاق الشبابيك بإحكام قبل أن تتمنّى لهم ليلة سعيدة، ولكن أحدًا لم يفكر بشبابيكه تلك الليلة" (شبابيك زيانة، ص33). جاعلة من الشبابيك بؤرة يرتكز عليها هذا النص القصير جدا بتعدّد تمثّلاتها.

***

لم يكن ما سبق إلا عيّنة ليست نهائية من النصوص السرديَّة التي جعلت من السيول والأعاصير موضوعًا لها، قد تُضاف إليها إصدارات أخرى وثّقت الحدث أدبيًّا مثل كتاب "مدن تئن وذكريات تغرق" لعبد الرزاق الربيعي الصادر في عام 2008. فضلا عن عشرات النصوص الشعريَّة التي تناولت الأعاصير في عُمان بتعدّدها وتعاقبها من جونو إلى فيت، ونيلوفر، وتشابالا، وأشوبا، ولبان، ومكونو، وهيكا، ومؤخرا شاهين، بالإضافة إلى ما قد يصدر في المستقبل من أعمال أدبيَّة تتناول الموضوع نفسه، مُشكّلةً أمام الباحث مادة تتسع كلما توغّل في البحث، وتتطلب منه قراءة تغوص في الجوانب الفنية، وتبحث في طرائق التعبير ما بين نص وآخر، فلعلّ جهودا قادمة تفي بذلك.