عبر مقولة هيدجر الشهيرة (اللغة بيت الوجود) ندلف إلى فضاءات مجموعة (ماذا لو احترقت بنا الكلمات؟) للشاعر السعودي محمد إبراهيم يعقوب، التي اختار سؤالا استفهاميا عنوانا لها، ليضع القارئ في مواجهة حادة وصريحة مع هذا التساؤل الجارح حين يتخيل احتراق الكلمات.. وما الذي يتبقى حينها من معاني الوجود وجماله وأسراره؟ إن الشاعر من خلال هذا العنوان يسعى لإثارة السؤال حول فداحة إحراق الكلمات. إنه سؤال بالنسبة للشاعر وجودي، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الشاعر يعيش في اللغة ويتفيأ ظلال الكلام. وهذا العنوان الصادم هو شطر من بيت لقصيدة في الديوان بعنوان (وللغياب صلاة)، يقول فيه:

نقسو وجمر الروح يأكل بعضه

ماذا لو احترقت بنا الكلمات؟

وبما أن العنوان، وفق ما يقول النقاد، يمثل العتبة الأولى أو المفتاح الرئيس للدخول إلى أغوار الكتاب وفهمه واستكشاف غوامضه، فإن عنوان هذا الديوان يعطينا المفتاح والمصباح معا، للولوج إلى متنه الفسيح، رغم اللغة العالية والمباغتة والمراوغة والصادمة التي يتقنها الشاعر، ليضع القارئ كجندي يمشي وسط حقل من الألغام والمساحات الشاسعة المفخخة، في حين تتكشف أمامه عوالم الدهشة اللانهائية.

الشاعر في هذا الديوان يعيش هاجس الكلمة ولواعج القصيدة وأسئلة الشعر وعذاباته. إنه احتفاء بالشعر وانحياز له وانتصار للقصيدة التي تمثل المعادل الوجودي لحياة الشاعر الذي يحرق روحه من أجل أن يرمم وجه العالم ويضيئ عتماته بشموس القصيدة. القصيدة التي ستكون في هذا الديوان بمثابة الأنثى الفاتنة والمعشوقة والأزلية التي يضحي الشاعر من أجلها بكل شيء، ويقدم حياته قربانا في ملكوتها. لذا فهو يهدي الديوان كله لهذه الأنثى المسماة قصيدة :(إلى القصيدة .. أنثى .. ولا أنثى سواك). يقول في إحدى قصائد الديوان:

كن أول النسّاك في ملكوتها

كن آه نشوتها

أغانيها الحميمة في مساء السبت

آخر ما لدى الفانين في أسرارها

لم يأخذوا أملا

كن ضفتين لنهرها

...لا تبتكر

سبلا

لقد أعلن الشاعر منذ الوهلة الأولى تبتله في محراب القصيدة المقدس، فكانت أنثاه ونشوته وغواياته المحببة، وكأسه وخمرته المعتقة، التي يقدم من أجلها عناقيده للجرح والقطاف بغية السكر من شرابها السحري:

كانت تمر على صحرائه مطرا

وتستبد به آياتها فيرى

كانت غواياته البيضاء

أثثها من ماء عينيه

لم يجرح لها وترا

مضى عليه

كتاب التوت في فمها

لولا سماواتها كان الفتى حجرا

وكلما خف عن أنخاب ضحكتها

سقى لها عمره من فرط ما سكرا

وباسمها راح يهذي..

كلما تعبت منه المواويل

هز القلب وابتكرا

مائية الروح..

لم يفتح نوافذه

إلا لتطلع من أوراقه قمرا

القصيدة بالنسبة له سبب للوجود وتفسير للحياة ومعنى لها وتأويل لمتشابهاتها العصية، فهي الروح التي لولاها لكان حجرا أو كائنا صخريا أو أي شيء آخر سوى الإنسان. إنه يطارحها الكأس ويبادلها الغرام ويقاسمها ضحاكتها ويهذي باسمها في خلواته وجلواته، وكلما تعب منه القلب وشعر بالأسى وداهمته الأحزان اتجه إلى أغصان القلب فهزها هزا شفيفا ليبتكر هذه الكينونية الروحية ذات النقاء المائي التي تهطل على عوالمه فتورق بالبهجة والاخضرار. إنه لا يشرع نوافذ روحه لأي شيء سوى أن يرى القصيدة طالعة من أوراقه بكل ضيائها وفتنتها كفلقة قمر مشرق على عتمات الوجود.

يقول في قصيدة (الأقداح) مناجيا القصيدة:

تأتين متعبة

فأخلق وردة من راحتيك

عليهما أرتاح

وأذيب في عينيك حزني كله

والحزن، يا عمر الهوى، فضاح

كوني على شفتي

كلاما نابيا

وتخففي إن الدوار مباح

إنه كثيرا ما يتحدث إلى القصيدة كمن يخاطب أنثى بكل أطوارها، فيرسمها وردة أو نهرا أو طائرا ملائكيا مرفرفا، وحينا تكون فتاة صغيرة يعملها التمرد على قوانين اللغة وتقاليد النحاة، لتطلق جناحيها بحرية تامة، لكي تتهجى لثغتها الخاصة، بعيدا عن كل وصاية أو قيد صدئ:

ثوري على اللغة القديمة كلها

فالأبجدية منك تبدأ عهدها

إنه يشبه في علاقته بالشعر علاقة المتصوف الذي بلغ مقام التوحد والشهود فتمازجا، فكان الشعر هو وهو الشعر حيث ذابا معا ليصبحا روحا واحدة. وفي ما يشبه قول الحلاج (روحه روحي وروحي روحه)، يقول محمد إبراهيم يعقوب في قصيدة (كرّاسة الحمّى) واصفا جانبا من عروجه الهائل في مسالك الشعر وشطحه وآثامه اللذيذة، حين أخذه من يده ليحيله مطرا يسقي به عطش الوجود ويبلل صحاريه الظامئة:

ذوّبتُ في روحهِ روحي، أثمتُ بهِ ؟

فليغفر الله .. إثماً لا أنازعُهُ

أخذتهُ من يدَيْ أحزانهِ مطراً

واسّاقطتْ في فمي الأشهى شرائعُهُ

آمنتُ بالشعرِ

باسمي حين يسكبهُ

ما بين نخبين .. يغري بي تواضعُهُ

ورغم مكابداته وطول الطريق ووعورة الرحلة، إلا أنه قد أعد لهذا التطواف اللانهائي عدته منذ البدء. إن ثمة دائما فسحة أخرى لأن يفلق بقلمه بحار الحروف ويجري مدادها كي تسيل أنهار الشعر وتتدفق الكلمات مندفعة بحرارة وشغف، لتولد الكائنات السماوية الفتية بين أصابعه ويرفع النخب تلو الآخر، دون انقطاع يوقف تدفق النهر الهادر في الأحشاء. يقول في قصيدة (قميصٌ لأوراقٍ بيضاء):

هيئت للوتر العصيّ كمانهُ

إنّ الأغاني كبرياءٌ مهملُ

في العمر متّسعٌ لنهرٍ آخرٍ

جسدٌ سماويٌّ ونخبٌ أوّلُ !!

إن هذا الديوان يمثل وثيقة شعرية صريحة أو إعلان مبادئ عليا، يحدد من خلاله الشاعر محمد إبراهيم يعقوب علاقته مع العالم والحياة عبر بوابة الشعر. ويبدو جليا أن الشاعر قد اختار قصائد الديوان ليجعل منها شهادة حاسمة يرفعها في وجه العالم، مؤكدا من خلالها قدرية القصيدة وضرورتها الوجودية في حياته بأسرها، إذ لا يرى لذاته وجودا حقيقة أو مجازا خارج الكلمات. إنها الأحجار المقدسة التي يرمم بها ما يتساقط من جدران العمر، وهي الملاذ الآمن الذي يأويه في تقلب الحياة ومواسمها وتحولاتها ومفاجآتها الكثيرة. إنه باختصار شديد يحرق روحه زيتا سخيا ويقدمها قربانا لآلهة الكلمة من أجل أن تضيء قناديلها إلى الأبد، حتى لا تحترق الكلمات ويحدث ما لا يمكن أن نتخيله من الظلام والقبح والبشاعة في الوجود، وهو ما يقترحه الاستفهام في عنوان الديوان (ماذا لو احترقت بنا الكلمات؟).