**media[1799292]**

تأخذك القراءة نحوها أبدًا لأنها الطريق الوحيد خارج الحياة أو ضمنها الذي يصنع الشغف المتجدد، إنها النهر الذي لا ينضب مهما اغترفت منه، والمسافة التي تستطيل كلما ظننت أنك قد تصل، ولكنها تتمدد فلا تصل بها لأي مكان.

القراءة التي تهبك علاجًا لكل جراحك ومتنفسًا لكل مكبوتاتك، ووطنًا لكل اغتراباتك وفهمًا لكل ما يشكل عليك، إنها قوة المعرفة وأمان الحرية الذي يهبك أجنحة للتحليق وسلامًا للاستمرار. وهكذا أستمر في قراءة السير المحببة لروحي؛ لأني أؤمن أن الواقع كثيرًا ما يكون أكثر غرائبية وجمالا من الخيال.

وفي هذين العملين "اختراع العزلة"، و"غرفة أبي" وجدت صورة الأب ماثلة بأبعادها الحياتية والإنسانية والفلسفية التي تمثل القوة والجبروت وتنشق منها حالة من الأمان من جهة، وحالة من الخوف والرغبة في الخروج عليه بقتله النفسي من جهة أخرى.

ثم ذلك الفراغ الذي يخلفه رحيل الأب، الذي تظنه لن يحدث يومًا، فتستند إليه كقوة جبارة لا تخشى معها شيئًا، وحين يرحل تشعر أن البيت قد تهاوى بفقد الوتد الكبير الذي يرفعه، وتتوقف الحياة التي كانت تدور حوله فيشعر الابن بذلك الفراغ الكبير.

في كتاب "اختراع العزلة" لـ"بول أوستر" يتداخل الواقع مع الخيال حتى لا يدرك القارئ الفاصل بينهما، وبين الكاتب والسارد والبطل الذي مات والده فجأة وكان على موعد لزيارته لإلقاء نظرة على البيت العائلي الكبير الذي باعه الأب أخيرا قبل تسليمه للمشتري. وحين يدخل الابن البيت تتداعى كل الأشياء في رأسه ويخرج الماضي جليا. وتتجلى تفاصيل حياته أو حياة والده. فيشعر أنه يرغب في الكتابة عنه. في استحضاره في اللغة بأن يصبح هو صاحب اللعبة هو الأب ربما.

يستحضر الكاتب/ السارد/البطل الأب أو صورته من ذاكرته وطفولته، ومن البيت بكل ردهاته وتعالقات العلاقة المرتبكة أبدا بين الأب والابن، ومن الصور وألبومات الذكريات، لكن ذلك الاستحضار لن يكون تمجيديًا أو نوستالجيا أبدًا، كما هو الحال غالبًا؛ بل هو استحضار انتقامي عنيف. إنه يستحضره ليحاسبه، ليعنفه ربما، أو حتى ليجلده؛ لذا وعبر تحليل دقيق وقاس لشخصية الأب يقوم الكاتب بتمرير شريط ذكريات والده مع أمه ومعه ومع أخته ومع البيت وخارجه. يرسم صورة داخلية دقيقة لحياة الأب التي ليست مثالية بل وليست طبيعية أيضًا.

ليقدم للقارئ صورة الأب؛ غريب الأطوار في علاقاته مع زوجته وأطفاله ومع الأصدقاء والعشيقات. الرجل التقليدي في ملابسه وهيئته، البخيل في مصاريفه، أسير العادات الحياتية والتصرفات المكرورة.

ثم يذهب الكاتب بعيدا فيسترجع ماضي والده وأسرته اليهودية التي وصلت أمريكا بسبب الحرب العالمية ليكتشف أن جدته قد قتلت جده، ونجت من العقوبة، وأنها تحكمت في أطفالها مما أفرز شخصيات غير سوية.

ثم وفي انتقال سردي غير سلس ينتقل الكاتب ليسرد عزلته هو مع نفسه وبداياته مع اللغة ومع العزلة ضمن محيط الأب ومن ثم مع زوجته وابنه الصغير دانيال. إنه يسرد عزلة الأب الذي كان في البدء الأب، ثم هو ذاته بوصفه أبًا وكاتبًا.

إنها ليست سيرةً ذاتيةً، فلا شخوص كثيرة تتداخل فيها إلا عبر الأب إنها سيرة عزلة الأب والأب الجديد الذي هو الكاتب نفسه. هذه العزلة التي احتاط لها الكاتب بكلمة (اختراع) إنها ليست عزلة حقيقية بالضرورة لكنها فكرة نصية يلملم فيها الكاتب مخترعه النفسي ضمن مخترعه اللغوي. يعيد اختراع العزلة ضمن ضوابط وشروط الزمان والأمكنة واللغة؛ وبالتالي فهو يحتاج إلى متلقٍ يستطيع تقبل فكرة الاختراع (الكذب اللغوي) لعزلة كائنين متحدين يتناوبان الظهور عبر اللغة في نص يتردد فيه الزمن في الزمن ارتداديًا واستباقيًا، حيث يكتب في الحاضر بعد أن يؤتى به من الماضي، ويطل الزمن الماضي كحاضن للعزلة. والحاضر كاختراع لها.

"اختراع العزلة" سيرة صادمة لما اعتدنا عليه من تقديس الأب في ثقافتنا العربية، بلغة أدبية عذبة ووعي لغوي وفلسفي، إلا أنه في الجزء الثاني (كتب الذاكرة) تصبح مملة بعض الشيء، فلا خيط سردي يجمعها بل مجرد تداعيات نفسية.

وهذا ما تجده في "غرفة أبي" أقصد الملل نوعًا ما، حيث يقرر الابن الذهاب لبيت أبيه ليتذكر تاريخ وفته، ويدخل غرفته ويبدأ في كتاب رسالة فلسفية طويلة له؛ يعري فيها صورة الرب العلوي والسفلي في الثقافة الإنسانية، بدءًا من صورة الأب في الدين مرورًا بالكتّاب والفلاسفة الذين عبروا هذه البسيطة، وعبر هذه الرسالة الفلسفية يسرد الكاتب ذاكرته وطفولته وآراءه وأحلامه وتأملاته في الفكر والدين والفلسفة والحب والموت.

رسالة ممتدة لا تعرف من أين تبدأ وأين تمضي، لكنها رحلة ممتعة رغم انفتاحها الفضائي الكلي بلا محددات أو فواصل تعين القارئ على التشبث بالزمن والفكرة، فتخرج منها ممتلئًا بالجمال والحبور والشك وبعض الحزن، دون القدرة على القبض على مفاصل حكاية ما، بل لعلك تتحد مع الكاتب في تداعيات السرد، وتصبح أنت من يسرد الحكاية والتأملات، فتسقط كل ما في روعه في روعك، وتتشرب كلماته كأنك السارد/ البطل.

وتصدقه وهو يقول: "أكتب إليك بإصرار. أكتب إليك وكأنني أكتب لنفسي، كمن لا تكفيه ذكرياته فيخترع ذكريات لأناس يظنهم نفسه. كمن لا تكفيه أوهامه فيخترع أوهاما تلو أوهام. فكائن بلا ذكريات ليس بكائن ومثله كائن بلا أوهام". ص162

هاتان السيرتان تختصر صورة الأب بين الحب والخوف والوهم فينا جميعا، وكما يقول عبده وازن "في هذا العالم لابد لنا من غرفة أب، وعلينا أن نخترعها أو نتوهمها إن لم توجد" وذلك ما فعله بول أوستر ونفعله جميعا في الحياة أو في اللغة.