عبدالرزاق قرنح
ترجمة : أحمد شافعي
ابتسم سعيد بفضولي. وقال: «بتلك الطريقة كانوا يرسمون الخرائط في ذلك الوقت.. لا أعرف السبب». كان رسام الخريطة يدعى فرا ماورو، وهو راهب عاش في جزيرة صغيرة في خليج فينسيا، ورسم خريطة للعالم دون أن يتحرك قيد أنملة من موضعه. لم أكن قد سمعت بفينسيا في ذلك الوقت ولا أعرف ما البحيرة، ولا أدرك ما الراهب. وقلت ذلك كله لمعلم حسن فأرجع رأسه إلى الوراء لوهلة، مبتسما أمام ذلك الجهل المطبق. ثم حكى لي عن فينسيا وجزيرة مورانو التي عاش فيها فرا ماورو. تكلم عنهما وكأنهما مكانان عرفهما. أنصت فرا ماورو إلى ما حكاه المسافرون، ونظر في ما توفر له من مصادر، ثم أنتج خريطة للعالم كانت أدق من أي خريطة قبلها. خطر لي أنه لا بد أن يكون بفرا ماورو شبه قليل بمعلم حسن نفسه، برغم أن معلمي ما كان ليعرف كيف ينتج خريطة للعالم. لكنه شأن الراهب، كان شخصا يعيش في خياله، ويسافر في عقله. فقد كنت أعلم علم اليقين أن معلم حسن لم ير فينسيا قط. ولو فعل لعرفنا جميعا. ودعكم من فينسيا، لقد كنت لأندهش لو كان خرج من أُنجوجا. كان الناس يأتون إلينا ويذهبون، ويسهل التعرف على المسافرين من ثقتهم في أنفسهم، واختيالهم الجلي، وحديثهم. وكان يسهل على المرء بالمثل أن يعرف من الذين لم يذهبوا قط إلى أي مكان، ومن أولئك كان معلم حسن، حتى لو كان كثير جدا من قصصه عن البحار.
في المرة التالية التي كلمني فيها عن الخريطة، حكى لي عن الأعلام الصغيرة فيها، والحاوية معلومات من مصادر كثيرة عن أماكن نائية. قال إنه لا يمكن قراءتها في تلك النسخة بسبب ضآلة حجم الخط، فضلا عن أن الكتابة عموما كانت باللاتينية التي لم يكن يجيد القراءة بها. ثم تدارك نفسه وتذكر سبب وجودي هناك فأرجعني إلى تمرين القسمة الطويلة الذي قاطعه.
لكنه لم يملك إلا أن يرجع إلى الخريطة، ففي المرة الثالثة التي كلمني فيها، حكى لي عن المكتوب في أحد الأعلام الصغيرة. كان عن سفينة رمت بها عاصفة إلى بحر الظلمات، حسب تسمية العرب للمحيط الأطلنطي. في صباح اليوم الذي أبحرت فيه من المكلا إلى الساحل الأسود، رأوا قمر الضحى شاحبا في السماء. كان على متن السفينة ركاب، نساء ذاهبات إلى أزواجهن الذين سبقوهن إلى هناك ورجال ساعون إلى نصيب من كعكة تلك الأرض الخضراء. قالت امرأة إن القمر الشاحب ذلك نذير شر. وقالت إن الجميع يعلمون بأس النذر، وإن الحكيم من انتبه. فلا تهملوا عملا ما لا بد من عمله. صاح فيها من سمعوا تلك الكلمات يطالبونها بالصمت؛ لكي لا تجلب عليهم النحس. ولكن بعد فوات الأوان وحضور النذير. بعد أيام قليلة في عرض اليم، عصفت بهم الريح فأبعدتهم بعيدا ولم يعد بوسعهم الرجوع إلى البر. كل ما كان بوسعهم هو التوغل إبحارا نحو الجنوب، راجين أن تتبدل الرياح وتتيح لهم الانعطاف إلى الغرب. ولما انعطفوا فعلا، أدركوا أنهم تجاوزوا كل البر، ونأوا إلى ما وراء رأس أفريقيا. ولم يكن أحد يعرف يقينا في تلك الأيام أن لأفريقيا رأسا. تخلى عنهم الحظ فلم يروا لأربعين يوما من شيء عدا الماء والهواء. وفقا لحسابات النهوذا [nahodha أي القبطان في السواحلية كانوا قد قطعوا ألفي ميل جهة الغرب، وباتوا على يقين من الدمار. ولما اعتدل الجو وخفت حدته، أداروا السفينة وبدأوا الرجوع في سبعين يوما. حملتهم التيارات الباردة ودفعتهم بمحاذاة سواحل عاصفة، إلى أن جرفتهم معجزة فإذا بهم وسط أرخبيل هائل في وسط المحيط. امتلأ الأفق كله بتلك الأرض. وفي ذلك الوقت لم يكن باقيا على متن السفينة حيا إلا خمسة، والبقية ماتوا جوعا وعطشا ومرضا. ومن الناجين المرأة التي رأت في قمر الضحى نذير شر. أصابها الجنون خلال الرحلة، أو لعلها اصطنعت الجنون وقد ارتعبت من أن يرموها في الماء بعدما جلبت عليهم النحس. والأربعة الباقون كانوا بحارة، رجالا عركوا مصاعب البحر وألفوها. كانت تتكلم كثيرا عن ولد صغير تركته في عهدة جيران في المكلا، آسفة عليه، باكية مصيره. لم يُعرف شيء مما جرى لأولئك الخمسة بعد وصولهم إلى نجازيدجا -من جزر القمر، فذلك على الأرجح هو الأرخبيل الذي رسوا عليه، إلا أن أحدهم لا بد أن يكون روى قصة محنتهم تلك.
قال معلم حسن: «لم تغب عني قط صورة تلك السفينة وركابها الفزعين وهم يبحرون من المكلا تحت قمر الضحى».
سألت: «وهل كل ذلك مذكور في واحد من تلك الأعلام الصغيرة؟» فعبس معلم حسن. قلت: إنني لم أكن أتوقع أن ينجو منهم أحد. مائة يوم وعشرة في بحار عاصفة أمر يليق بالملاحم، فأي سفينة تلك التي كانت لتحتمل ذلك. قال السمبوق [sambuq]. كم كان على متنها من الركاب؟ ما الذي كانوا يأكلون؟ كيف أمكنهم البقاء طويلا على سفينة كتلك غير مجهزة إلا قليلا؟ لكن إن كان لم ينج منهم أحد، فكيف عرف الراهب فرا ماورو بتلك الأيام الأربعين في بحر الظلمات وأيام العودة السبعين؟ وتخيلوا لو أنهم لم يرجعوا قط وواصلوا الإبحار عابرين بحر الظلمات.
لكنني رأيت أن معلم حسن شرد وبات كأنما يضجر من أسئلتي المتوالدة. لعله كان ينتظر لقصته أثرا عليّ غير الذي رآه، فقدا بدا عليه الضيق بي. وعبس وأشاح بنظره. وقال: أفضل لك أن تكمل هذا التمرين قبل أن ترحل».
لم يطل كدر مزاجه كثيرا، فقبل أن تنتهي حصة عصر ذلك اليوم، كان قد عاود الكلام عن الخرائط: خرائط الصينيين والعرب للمحيط الهندي، خرائط المسيحيين لغرب آسيا التي كانت تجعل القدس دائما مركز العالم. أردت أن أسأله كيف عرف بتلك الأمور، لكنني لم أشأ أن أثير ضيقه من جديد. لا بد أن ذلك كان جزءا من التعليم الذي اشتهر به. وعند مغادرتي، أعطاني رسالة قصيرة طواها إلى مربع صغير ثنيت أطرافه لتحكم إغلاقه وقال لي في رقة، منخفض العينين «أعط هذه لعمتك مسعودة، لكن ليس أمام أحد».
لم تكن عمتي مسعودة عمتي حقا. كانت ابنة أخت أبي، وإذن فهي ابنة عمتي، برغم أن أبوينا كانا يتكلمان معهما كأنها أخت لهما. كانت قد جاءت لتعيش معنا قبل أشهر قليلة لأن زوجها طلقها. وكان أبواها مطلقين أيضا، فأبوها يعيش في غرفة سفلية يستأجرها، وأمها تزوجت بعده وسافرت إلى طنجة. وكان أبي أخا لأمها، وكانت الأم والابنة من زائرات بيتنا منذ أقدم ما في ذاكرتي. فكل بضعة أشهر يأتي شخص ليقيم ولا يبدر عنه ما يشي بالرحيل لأيام أو لأسابيع، فلما جاءت مسعودة كان مجيؤها على ذلك النحو. كان معناه نظاما مختلفا، ونمائم جديدة، ووجبات ضيوف ـ ولو لفترة على الأقل ـ ثم انتظار الزائر أن يرحل لتسترد سريرك وتستعيد روتينك المعهود. لكننا كنا نحب مسعودة لأنها كانت تلعب معنا ونحن صغار، ولأنها كانت تقول دائما كلمات خبيثة وتسخر من الناس من وراء ظهورهم وأحيانا تتفوه بكلمات محظورة. كانت جميلة المنظر إلى درجة أن بشرتها الداكنة كانت تلمع، وحينما كانت تدخل الشارع، كان الرجال أحيانا يتمعَّنون فيها، لأنها لم تكن تغطي وجهها. لا بد أنها كانت في أوائل العشرينيات عند طلاقها، لكننا كنا نعرف بمشكلات في ما قبل الطلاق، فقد كانت تأتي لزيارتنا وتستدر دمع أمي سيولا بقصص عن عدوان زوجها، إلى أن عجز الزوج والزوجة عن التسامح مع أحدهما الآخر فانتقلت مسعودة إلى بيتنا إلى أن ترتب أمورها.
كنت أعرف ما أعطانيه معلم حسن لأعطيه لها. فما لرسالة تعطى لطفل كي يسلمها لقريبة سرا إلا أن تكون رسالة غرامية. حتى طفل في غبائي كان يعرف ذلك. وضعت الرسالة في جيب قميصي وخرجت دون أن أنظر إلى معلم حسن، رجعت إلى البيت لألقي كتبي ومن حسن الحظ أن حاجي لم يكن في البيت، وإلا لحكيت له بلا شك عن الرسالة، ولسارع يجري إلى أمي ليخبرها بكل شيء عنها. كنت بحاجة إلى قليل من الوقت للتفكير في ما يمكن أن أفعله، لو أعطيت الرسالة لمسعودة وكتبت ردا وأعطته لي لتسليمه لبت ألعب دورا كريها. لا أعرف كيف علمت ذلك، لكنني علمت أن أمري لو اكتشف، لنظر إليّ أبي باحتقار ولوبختني أمي طوال ساعات. لم أكن على يقين من سبب لذلك إلا أنه لم يكن يليق بمعلم حسن أن يكتب رسالة إلى عمتي مسعودة ولم يكن يليق بي أن أسلمها إليها. لو كنت أعطيت الرسالة لأمي، وهو ما كنت أميل إليه، لأعفيت نفسي من المسؤولية لها. كان بوسعها أن تقرر إما أن تسلمها إلى مسعودة، أو إلى أبي، أو أن تمزقها. أخفيت الرسالة في كيس المخدة وذهبت لأرى إن كان شيء ما يجري ويمكن أن أشارك فيه.
فكرت أن أسلم طريقة هي أن أدعي البراءة، وأسلم الرسالة إلى مسعودة بأكبر قدر أستطيعه من العفوية، وكأنما لا أعرف مطلقا أن في الأمر أي شيء محظور. لكنني في النهاية خربت الأمر كله. بعد العشاء، جلست أمي ومسعودة في الصالة تثرثران بينما انسحب أبي إلى غرفة نومه ليقرأ أو ليستمع إلى المذياع. في ذلك المساء، رأيت مسعودة جالسة وحدها لوهلة فقررت أن تلك هي فرصتي. ذهبت إلى غرفة النوم وأخذت الرسالة من كيس مخدتي وسارعت إلى الصالة، وكان ذراعي نصف ممدود إلى مسعودة، التي نظرت إلي مندهشة مباغتة، حين سمعت صوتا من ورائي وعلمت أن أمي رجعت. سحبت ذراعي وحاولت أن أغلق يدي على الرسالة.
قالت أمي وهي تمد يدها فتمسك معصمي «ما هذا؟» ناولت الرسالة إلى مسعودة قبل أن تطالها أمي، فسلمتها بالطريقة الوحيدة التي نهيت عن اتباعها. استلتها مسعودة من يدي، ووضعتها في جيب فستانها. أعتقد أن كلتيهما عرفت أنني سلمت للتو رسالة غرامية من رجل، وكدت أسمع عقليهما يعملان ويخلصان إلى الاستنتاجات. سألتني أمي «من الذي أعطاها لك؟»
بعد لحظة، بدأت مسعودة تبتسم. مدت يدها في جيب فستانها وفتحت الرسالة. اتسعت ابتسامتها وهي تقرأ، ولما انتهت من القراءة ضحكت. ضحكة ساخرة لا تجيدها إلا النساء. لا أعرف كيف أصفها، لكنني سمعتها من بنات وأنا مار بهن في الشارع، فتشعرني أنني أسخف بشري على وجه الأرض. تلك هي الضحكة التي ضحكتها مسعودة على رسالة معلم حسن.
في ذلك الوقت كانت أمي تمسكني من طوقي ولم يكن الهرب ممكنا. «من الذي أعطاها لك؟» وقد خمنت فحواها من ضحكة مسعودة. ولمّا لم أرد، قرصتني أمي بشدة في مؤخرة رقبتي ونطقت اسم معلم حسن دونما تردد. جلست أمي وهي لم تزل تمسك بي، وسألت مسعودة «ماذا يريد؟»
هزت مسعودة كتفيها مبتسمة. «كلام فارغ.. أتتخيلين؟ من التي تريد أن تكون على صلة ببائس مثله، هو وكتبه؟ كيف يجرؤ؟ لقد فقد عقله».
ثم مزقت الرسالة مرة، ومرتين، ورمت الممزق تحت قدميها. نظرة الاحتقار التي ارتسمت على وجهها وهي تفعل ذلك أنزلت عليَّ الغم، وكأنني أنا الذي فعلت هذا عامدا في معلم حسن. أرخت أمي قبضتها على طوقتي وشعرت أنها توترت. كان دأب أمي أنها تحب معرفة القصة كاملة، وكانت مغرمة بالتفاصيل. أرادت أن تعرف إن كان معلم حسن قد قال لي قط أي شيء لا يليق قوله، أو لمسني، وما الذي كان يعلمني إياه، وما الذي حدث بالضبط في عصر ذلك اليوم، وما الذي قاله وهو يعطيني الرسالة. وبين السؤال والسؤال ضربات تشجيع من أمي وإضافات ساخرة من مسعودة التي كانت قد أوصدت الباب لكي لا يقاطعنا أحد. حينما حكيت لأمي عن الخريطة، والسفينة التي أبحرت في قمر الضحى والبلاء الذي حل عليها، خفت قبضتها على طوقي، وكأنني في النهاية أوضحت لها أمرا.
لم يسمح لي بالرجوع ثانية إلى معلم حسن، وحينما كنت أصادفه في الشارع وألقي عليه السلام كان يرد بهيبته المعتادة، لكنه لم يسألني لماذا توقفت عن حضور الحصص. تركت مسعودة بيتنا بعد أيام قليلة من الرسالة لتذهب إلى أمها في طنجة. ويوم رحيلها، أمسكت ذقني بيمناها وقالت: «أتعرف ما الذي كان في تلك الرسالة؟ كلام فارغ. كلمات من أغنية قذرة أو من السحر الذي يقرأه في كتبه. انتبه لنفسك، وانتبه لما تأخذه من الناس».
وبعد أشهر قليلة حكت لي أمي ما كان يعرفه الجميع عداي. قبل سنين كثيرة غرقت أسرة معلم حسن كلها في البحر خلال رحلة من ممباسا إلى نجازيدجا. لم ينج إلا أبوه الذي تركته أمه عند الجيران إلى أن يتعافى من الحمى. ومات ذلك الأب بعد ذلك وهو صغير جدا، وتزوجت أرملته رجلا بعده وانتقلت إلى جنوب الجزيرة. ومعلم حسن يعيش وحيدا منذ أن كان في صباه، وهذا لا يمكن أن يكون خيرا لأحد. قالت والدتي إن فقدانه أهله جميعا عكر عليه صفو حياته كلها.
قلت إن عنده كتبه.
قالت وما نفع الكتب، لقد أمرضته الوحدة.
انتقل معلم حسن من الغرفة المستأجرة بعيد رحيل مسعودة. لا أعرف إن كانت أمي قد قالت شيئا للست فاطمة لكنني ما كنت لأندهش لو علمت أنها فعلت ذلك. أعتقد أنها خشيت من تعريض أبنائها لرجل لا يتورع أن يرسل رسالة لامرأة محترمة. دخلت امتحانات القبول في المدرسة الثانوية بعد شهر من ذلك، وفاجأت نتائجي الجميع. قال أبي: إنني ينبغي أن أعرف إلى أين انتقل معلم حسن وأذهب إليه وأشكره، فخمنت أنه ربما لم يطلع قط على حلقة الرسالة المرصودة كلها.
* عن مجلة وسافيري، عدد 26،
رقم 2، يونيو 2011
ترجمة : أحمد شافعي
ابتسم سعيد بفضولي. وقال: «بتلك الطريقة كانوا يرسمون الخرائط في ذلك الوقت.. لا أعرف السبب». كان رسام الخريطة يدعى فرا ماورو، وهو راهب عاش في جزيرة صغيرة في خليج فينسيا، ورسم خريطة للعالم دون أن يتحرك قيد أنملة من موضعه. لم أكن قد سمعت بفينسيا في ذلك الوقت ولا أعرف ما البحيرة، ولا أدرك ما الراهب. وقلت ذلك كله لمعلم حسن فأرجع رأسه إلى الوراء لوهلة، مبتسما أمام ذلك الجهل المطبق. ثم حكى لي عن فينسيا وجزيرة مورانو التي عاش فيها فرا ماورو. تكلم عنهما وكأنهما مكانان عرفهما. أنصت فرا ماورو إلى ما حكاه المسافرون، ونظر في ما توفر له من مصادر، ثم أنتج خريطة للعالم كانت أدق من أي خريطة قبلها. خطر لي أنه لا بد أن يكون بفرا ماورو شبه قليل بمعلم حسن نفسه، برغم أن معلمي ما كان ليعرف كيف ينتج خريطة للعالم. لكنه شأن الراهب، كان شخصا يعيش في خياله، ويسافر في عقله. فقد كنت أعلم علم اليقين أن معلم حسن لم ير فينسيا قط. ولو فعل لعرفنا جميعا. ودعكم من فينسيا، لقد كنت لأندهش لو كان خرج من أُنجوجا. كان الناس يأتون إلينا ويذهبون، ويسهل التعرف على المسافرين من ثقتهم في أنفسهم، واختيالهم الجلي، وحديثهم. وكان يسهل على المرء بالمثل أن يعرف من الذين لم يذهبوا قط إلى أي مكان، ومن أولئك كان معلم حسن، حتى لو كان كثير جدا من قصصه عن البحار.
في المرة التالية التي كلمني فيها عن الخريطة، حكى لي عن الأعلام الصغيرة فيها، والحاوية معلومات من مصادر كثيرة عن أماكن نائية. قال إنه لا يمكن قراءتها في تلك النسخة بسبب ضآلة حجم الخط، فضلا عن أن الكتابة عموما كانت باللاتينية التي لم يكن يجيد القراءة بها. ثم تدارك نفسه وتذكر سبب وجودي هناك فأرجعني إلى تمرين القسمة الطويلة الذي قاطعه.
لكنه لم يملك إلا أن يرجع إلى الخريطة، ففي المرة الثالثة التي كلمني فيها، حكى لي عن المكتوب في أحد الأعلام الصغيرة. كان عن سفينة رمت بها عاصفة إلى بحر الظلمات، حسب تسمية العرب للمحيط الأطلنطي. في صباح اليوم الذي أبحرت فيه من المكلا إلى الساحل الأسود، رأوا قمر الضحى شاحبا في السماء. كان على متن السفينة ركاب، نساء ذاهبات إلى أزواجهن الذين سبقوهن إلى هناك ورجال ساعون إلى نصيب من كعكة تلك الأرض الخضراء. قالت امرأة إن القمر الشاحب ذلك نذير شر. وقالت إن الجميع يعلمون بأس النذر، وإن الحكيم من انتبه. فلا تهملوا عملا ما لا بد من عمله. صاح فيها من سمعوا تلك الكلمات يطالبونها بالصمت؛ لكي لا تجلب عليهم النحس. ولكن بعد فوات الأوان وحضور النذير. بعد أيام قليلة في عرض اليم، عصفت بهم الريح فأبعدتهم بعيدا ولم يعد بوسعهم الرجوع إلى البر. كل ما كان بوسعهم هو التوغل إبحارا نحو الجنوب، راجين أن تتبدل الرياح وتتيح لهم الانعطاف إلى الغرب. ولما انعطفوا فعلا، أدركوا أنهم تجاوزوا كل البر، ونأوا إلى ما وراء رأس أفريقيا. ولم يكن أحد يعرف يقينا في تلك الأيام أن لأفريقيا رأسا. تخلى عنهم الحظ فلم يروا لأربعين يوما من شيء عدا الماء والهواء. وفقا لحسابات النهوذا [nahodha أي القبطان في السواحلية كانوا قد قطعوا ألفي ميل جهة الغرب، وباتوا على يقين من الدمار. ولما اعتدل الجو وخفت حدته، أداروا السفينة وبدأوا الرجوع في سبعين يوما. حملتهم التيارات الباردة ودفعتهم بمحاذاة سواحل عاصفة، إلى أن جرفتهم معجزة فإذا بهم وسط أرخبيل هائل في وسط المحيط. امتلأ الأفق كله بتلك الأرض. وفي ذلك الوقت لم يكن باقيا على متن السفينة حيا إلا خمسة، والبقية ماتوا جوعا وعطشا ومرضا. ومن الناجين المرأة التي رأت في قمر الضحى نذير شر. أصابها الجنون خلال الرحلة، أو لعلها اصطنعت الجنون وقد ارتعبت من أن يرموها في الماء بعدما جلبت عليهم النحس. والأربعة الباقون كانوا بحارة، رجالا عركوا مصاعب البحر وألفوها. كانت تتكلم كثيرا عن ولد صغير تركته في عهدة جيران في المكلا، آسفة عليه، باكية مصيره. لم يُعرف شيء مما جرى لأولئك الخمسة بعد وصولهم إلى نجازيدجا -من جزر القمر، فذلك على الأرجح هو الأرخبيل الذي رسوا عليه، إلا أن أحدهم لا بد أن يكون روى قصة محنتهم تلك.
قال معلم حسن: «لم تغب عني قط صورة تلك السفينة وركابها الفزعين وهم يبحرون من المكلا تحت قمر الضحى».
سألت: «وهل كل ذلك مذكور في واحد من تلك الأعلام الصغيرة؟» فعبس معلم حسن. قلت: إنني لم أكن أتوقع أن ينجو منهم أحد. مائة يوم وعشرة في بحار عاصفة أمر يليق بالملاحم، فأي سفينة تلك التي كانت لتحتمل ذلك. قال السمبوق [sambuq]. كم كان على متنها من الركاب؟ ما الذي كانوا يأكلون؟ كيف أمكنهم البقاء طويلا على سفينة كتلك غير مجهزة إلا قليلا؟ لكن إن كان لم ينج منهم أحد، فكيف عرف الراهب فرا ماورو بتلك الأيام الأربعين في بحر الظلمات وأيام العودة السبعين؟ وتخيلوا لو أنهم لم يرجعوا قط وواصلوا الإبحار عابرين بحر الظلمات.
لكنني رأيت أن معلم حسن شرد وبات كأنما يضجر من أسئلتي المتوالدة. لعله كان ينتظر لقصته أثرا عليّ غير الذي رآه، فقدا بدا عليه الضيق بي. وعبس وأشاح بنظره. وقال: أفضل لك أن تكمل هذا التمرين قبل أن ترحل».
لم يطل كدر مزاجه كثيرا، فقبل أن تنتهي حصة عصر ذلك اليوم، كان قد عاود الكلام عن الخرائط: خرائط الصينيين والعرب للمحيط الهندي، خرائط المسيحيين لغرب آسيا التي كانت تجعل القدس دائما مركز العالم. أردت أن أسأله كيف عرف بتلك الأمور، لكنني لم أشأ أن أثير ضيقه من جديد. لا بد أن ذلك كان جزءا من التعليم الذي اشتهر به. وعند مغادرتي، أعطاني رسالة قصيرة طواها إلى مربع صغير ثنيت أطرافه لتحكم إغلاقه وقال لي في رقة، منخفض العينين «أعط هذه لعمتك مسعودة، لكن ليس أمام أحد».
لم تكن عمتي مسعودة عمتي حقا. كانت ابنة أخت أبي، وإذن فهي ابنة عمتي، برغم أن أبوينا كانا يتكلمان معهما كأنها أخت لهما. كانت قد جاءت لتعيش معنا قبل أشهر قليلة لأن زوجها طلقها. وكان أبواها مطلقين أيضا، فأبوها يعيش في غرفة سفلية يستأجرها، وأمها تزوجت بعده وسافرت إلى طنجة. وكان أبي أخا لأمها، وكانت الأم والابنة من زائرات بيتنا منذ أقدم ما في ذاكرتي. فكل بضعة أشهر يأتي شخص ليقيم ولا يبدر عنه ما يشي بالرحيل لأيام أو لأسابيع، فلما جاءت مسعودة كان مجيؤها على ذلك النحو. كان معناه نظاما مختلفا، ونمائم جديدة، ووجبات ضيوف ـ ولو لفترة على الأقل ـ ثم انتظار الزائر أن يرحل لتسترد سريرك وتستعيد روتينك المعهود. لكننا كنا نحب مسعودة لأنها كانت تلعب معنا ونحن صغار، ولأنها كانت تقول دائما كلمات خبيثة وتسخر من الناس من وراء ظهورهم وأحيانا تتفوه بكلمات محظورة. كانت جميلة المنظر إلى درجة أن بشرتها الداكنة كانت تلمع، وحينما كانت تدخل الشارع، كان الرجال أحيانا يتمعَّنون فيها، لأنها لم تكن تغطي وجهها. لا بد أنها كانت في أوائل العشرينيات عند طلاقها، لكننا كنا نعرف بمشكلات في ما قبل الطلاق، فقد كانت تأتي لزيارتنا وتستدر دمع أمي سيولا بقصص عن عدوان زوجها، إلى أن عجز الزوج والزوجة عن التسامح مع أحدهما الآخر فانتقلت مسعودة إلى بيتنا إلى أن ترتب أمورها.
كنت أعرف ما أعطانيه معلم حسن لأعطيه لها. فما لرسالة تعطى لطفل كي يسلمها لقريبة سرا إلا أن تكون رسالة غرامية. حتى طفل في غبائي كان يعرف ذلك. وضعت الرسالة في جيب قميصي وخرجت دون أن أنظر إلى معلم حسن، رجعت إلى البيت لألقي كتبي ومن حسن الحظ أن حاجي لم يكن في البيت، وإلا لحكيت له بلا شك عن الرسالة، ولسارع يجري إلى أمي ليخبرها بكل شيء عنها. كنت بحاجة إلى قليل من الوقت للتفكير في ما يمكن أن أفعله، لو أعطيت الرسالة لمسعودة وكتبت ردا وأعطته لي لتسليمه لبت ألعب دورا كريها. لا أعرف كيف علمت ذلك، لكنني علمت أن أمري لو اكتشف، لنظر إليّ أبي باحتقار ولوبختني أمي طوال ساعات. لم أكن على يقين من سبب لذلك إلا أنه لم يكن يليق بمعلم حسن أن يكتب رسالة إلى عمتي مسعودة ولم يكن يليق بي أن أسلمها إليها. لو كنت أعطيت الرسالة لأمي، وهو ما كنت أميل إليه، لأعفيت نفسي من المسؤولية لها. كان بوسعها أن تقرر إما أن تسلمها إلى مسعودة، أو إلى أبي، أو أن تمزقها. أخفيت الرسالة في كيس المخدة وذهبت لأرى إن كان شيء ما يجري ويمكن أن أشارك فيه.
فكرت أن أسلم طريقة هي أن أدعي البراءة، وأسلم الرسالة إلى مسعودة بأكبر قدر أستطيعه من العفوية، وكأنما لا أعرف مطلقا أن في الأمر أي شيء محظور. لكنني في النهاية خربت الأمر كله. بعد العشاء، جلست أمي ومسعودة في الصالة تثرثران بينما انسحب أبي إلى غرفة نومه ليقرأ أو ليستمع إلى المذياع. في ذلك المساء، رأيت مسعودة جالسة وحدها لوهلة فقررت أن تلك هي فرصتي. ذهبت إلى غرفة النوم وأخذت الرسالة من كيس مخدتي وسارعت إلى الصالة، وكان ذراعي نصف ممدود إلى مسعودة، التي نظرت إلي مندهشة مباغتة، حين سمعت صوتا من ورائي وعلمت أن أمي رجعت. سحبت ذراعي وحاولت أن أغلق يدي على الرسالة.
قالت أمي وهي تمد يدها فتمسك معصمي «ما هذا؟» ناولت الرسالة إلى مسعودة قبل أن تطالها أمي، فسلمتها بالطريقة الوحيدة التي نهيت عن اتباعها. استلتها مسعودة من يدي، ووضعتها في جيب فستانها. أعتقد أن كلتيهما عرفت أنني سلمت للتو رسالة غرامية من رجل، وكدت أسمع عقليهما يعملان ويخلصان إلى الاستنتاجات. سألتني أمي «من الذي أعطاها لك؟»
بعد لحظة، بدأت مسعودة تبتسم. مدت يدها في جيب فستانها وفتحت الرسالة. اتسعت ابتسامتها وهي تقرأ، ولما انتهت من القراءة ضحكت. ضحكة ساخرة لا تجيدها إلا النساء. لا أعرف كيف أصفها، لكنني سمعتها من بنات وأنا مار بهن في الشارع، فتشعرني أنني أسخف بشري على وجه الأرض. تلك هي الضحكة التي ضحكتها مسعودة على رسالة معلم حسن.
في ذلك الوقت كانت أمي تمسكني من طوقي ولم يكن الهرب ممكنا. «من الذي أعطاها لك؟» وقد خمنت فحواها من ضحكة مسعودة. ولمّا لم أرد، قرصتني أمي بشدة في مؤخرة رقبتي ونطقت اسم معلم حسن دونما تردد. جلست أمي وهي لم تزل تمسك بي، وسألت مسعودة «ماذا يريد؟»
هزت مسعودة كتفيها مبتسمة. «كلام فارغ.. أتتخيلين؟ من التي تريد أن تكون على صلة ببائس مثله، هو وكتبه؟ كيف يجرؤ؟ لقد فقد عقله».
ثم مزقت الرسالة مرة، ومرتين، ورمت الممزق تحت قدميها. نظرة الاحتقار التي ارتسمت على وجهها وهي تفعل ذلك أنزلت عليَّ الغم، وكأنني أنا الذي فعلت هذا عامدا في معلم حسن. أرخت أمي قبضتها على طوقتي وشعرت أنها توترت. كان دأب أمي أنها تحب معرفة القصة كاملة، وكانت مغرمة بالتفاصيل. أرادت أن تعرف إن كان معلم حسن قد قال لي قط أي شيء لا يليق قوله، أو لمسني، وما الذي كان يعلمني إياه، وما الذي حدث بالضبط في عصر ذلك اليوم، وما الذي قاله وهو يعطيني الرسالة. وبين السؤال والسؤال ضربات تشجيع من أمي وإضافات ساخرة من مسعودة التي كانت قد أوصدت الباب لكي لا يقاطعنا أحد. حينما حكيت لأمي عن الخريطة، والسفينة التي أبحرت في قمر الضحى والبلاء الذي حل عليها، خفت قبضتها على طوقي، وكأنني في النهاية أوضحت لها أمرا.
لم يسمح لي بالرجوع ثانية إلى معلم حسن، وحينما كنت أصادفه في الشارع وألقي عليه السلام كان يرد بهيبته المعتادة، لكنه لم يسألني لماذا توقفت عن حضور الحصص. تركت مسعودة بيتنا بعد أيام قليلة من الرسالة لتذهب إلى أمها في طنجة. ويوم رحيلها، أمسكت ذقني بيمناها وقالت: «أتعرف ما الذي كان في تلك الرسالة؟ كلام فارغ. كلمات من أغنية قذرة أو من السحر الذي يقرأه في كتبه. انتبه لنفسك، وانتبه لما تأخذه من الناس».
وبعد أشهر قليلة حكت لي أمي ما كان يعرفه الجميع عداي. قبل سنين كثيرة غرقت أسرة معلم حسن كلها في البحر خلال رحلة من ممباسا إلى نجازيدجا. لم ينج إلا أبوه الذي تركته أمه عند الجيران إلى أن يتعافى من الحمى. ومات ذلك الأب بعد ذلك وهو صغير جدا، وتزوجت أرملته رجلا بعده وانتقلت إلى جنوب الجزيرة. ومعلم حسن يعيش وحيدا منذ أن كان في صباه، وهذا لا يمكن أن يكون خيرا لأحد. قالت والدتي إن فقدانه أهله جميعا عكر عليه صفو حياته كلها.
قلت إن عنده كتبه.
قالت وما نفع الكتب، لقد أمرضته الوحدة.
انتقل معلم حسن من الغرفة المستأجرة بعيد رحيل مسعودة. لا أعرف إن كانت أمي قد قالت شيئا للست فاطمة لكنني ما كنت لأندهش لو علمت أنها فعلت ذلك. أعتقد أنها خشيت من تعريض أبنائها لرجل لا يتورع أن يرسل رسالة لامرأة محترمة. دخلت امتحانات القبول في المدرسة الثانوية بعد شهر من ذلك، وفاجأت نتائجي الجميع. قال أبي: إنني ينبغي أن أعرف إلى أين انتقل معلم حسن وأذهب إليه وأشكره، فخمنت أنه ربما لم يطلع قط على حلقة الرسالة المرصودة كلها.
* عن مجلة وسافيري، عدد 26،
رقم 2، يونيو 2011