محمد جميل أحمد

ثمة إشكال سياسي يتصل بوعي مفهوم الديمقراطية في هذا الجزء من العالم المسمى عربيًا، وهو إشكال يبدو اليوم (في ظل نجاح تجارب ديمقراطية متأخرة عن لحظة احتكاك العالم العربي بأوروبا، كما في كوريا وسنغافورة) أكبر من كونه تعبيرًا عن فكرة الصيرورة (التي عادة ما يوصف بها سياق الديمقراطيات الناشئة).

فحين تحتك منطقة استراتيجية ما، كالمنطقة العربية، مبكرًا، بأوروبا، ثم لا نجد في تلك المنطقة تطورًا سياسيًا في الديمقراطية يوازي التاريخ السياسي للعلاقة بين المنطقتين (أوروبا والعالم العربي) ربما سنجد أصل الإشكال، ليس في المسألة الزمنية ومدتها الطويلة مع بقاء الاستعصاء الديمقراطي قائمًا، بل في البحث عن البنى الفكرية والاجتماعية التي تحكم ظاهر العلاقات البينية في تلك المجتمعات منظورًا إليها من زاوية السبب المؤثر والمانع من أي صيرورة سوية للسياق الديمقراطي.

والحال، إن هوية المشروع الديمقراطي ذاتها ستكون أمام استحقاق لتفسير يفسر ذلك الاستعصاء الذي تبدو معه المنطقة العربية ممتنعة اليوم.

هل للأمر علاقة بمنظور شعوب هذه المنطقة إلى الدين، بالمعنى الذي يجعلنا نتساءل معه: إلى أي مدى يمكن لذلك المنظور المتصل بالدين أن يكون قد عكس وعيًا حقيقيًا بالدين ومحدداته وتأويلاته التي يمكن أن نجد لها مقاربات عقلية قابلة للاستنباط في منهجيات علم المقاصد والمنطق اللغوي؟ أم للأمر علاقة بطبيعة اللحظة الحضارية التي اصطدمت بها المنطقة العربية مع أوروبا وما شابها من عنف حديث ومؤسس (الحملة الفرنسية على مصر و الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين) فحال ذلك، باستمرار، من أي سوية قادرة على الفرز بين غرب حضاري وغرب استعماري، كما كانت تنادي المدرسة الإصلاحية في الفكر العربي الإسلامي التي قادها الأفغاني ومحمد عبده؟ أم أن للأمر علاقة بانتشار أفكار مدرسة الهوية في خطاب الإسلام السياسي الذي وحَّد رؤيةً عدمية مُصمتة للغرب باعتباره عدوًا، وعوَّم، في الوقت ذاته، أيديولوجيا شعار (الإسلام هو الحل) بالطريقة التي حين تختبر في المحك العملي لأي تجربة سياسية إسلاموية لا تنتج إلا انقسامًا داخل مجتمعات المسلمين؟ إن ما يحير المرء بالفعل في تأمل المصير الديمقراطي للمنطقة العربية، هو ذلك الاستعصاء الخادع حيث لا تفضي الحريات في هذه المنطقة إلى الديمقراطية بل تفضي طريقة التعاطي مع الديمقراطية إلى حروب أهلية وانقسامات، كما جرى في لبنان منذ منتصف عقد السبعينات إلى بداية عام 1990 حتى عرفنا سكًا لعبارة مأثورة عن ديمقراطية لبنان النسقية، حين وصفها البعض وصفاً عدميًا بعبارة: (ديمقراطية بلا ديمقراطيين) الأمر الذي يطرح تساؤلًا: هل حقًا هناك في أي مكان من العالم مصداق لعبارة (ديمقراطية بلا ديمقراطيين) التي تصدق على لبنان؟ ربما يكمن الإشكال في التصور الذهني الذي يتصور فكًا للارتباط بين الديمقراطية باعتبارها فكرة سياسية مستوردةـ، ويتم البناء على ذلك التصور بمعزل عن الحقيقة الأساسية لمفهوم الديمقراطية، وهي الحرية الفكرية أولًا والمجتمعية ثانيًا وصولًا إلى الحرية السياسية، ولذلك غالبًا وعلى ضوء هذه الرؤية القاصرة، يفهم الكثيرون مضمون الديمقراطية على أنها: كسب رهان صندوق الاقتراع. فيما الحقيقة أن الديمقراطية ينبغي أن تكون أسلوب حياة منعكسًا في نظام الحكم.

إن التجريب الديمقراطي الذي ظهر في تونس مع بدايات الربيع العربي لا يزال يشهد مخاضًا عسيرًا وأزمات متجددة، بعد مرور عشر سنوات على الحرية الديمقراطية.

أما في السودان الذي بدت ثورته السلمية كموجة ثانية من موجات الربيع العربي، فقد أصبح الوضع فيه مع الانقلاب العسكري الذي حدث يوم 25 أكتوبر الجاري كاشفًا عن إشكالية جديدة، حيث إن الذي انقلب على المرحلة الديمقراطية كان جزءًا من الشراكة السياسية بين العسكر والمدنيين، ولا يزال هناك إصرار من قبل الذين نفذوا الانقلاب في السودان على أن الانقلاب هو تصحيح للمرحلة الديمقراطية التي استمرت لأكثر من سنتين في السودان بعد سقوط نظام الجنرال عمر البشير في يوم 11 أبريل 2019؟! لا شك أن الإيمان بالديمقراطية، رغم عثراتها في المنطقة العربية، هو الذي يمنح الكثيرين أملًا في حياة أحسن في المستقبل، لأن تجربة الديمقراطية الغربية لا تزال ماثلة وملهمة باطراد في نجاحاتها عبر صيرورة سوية، ما يعني أن الأفق الذي تعد به الديمقراطية سيظل أفقًا ملهمًا للمجتمعات البشرية.