"يمكن للصورة أن تدوم بعد زوال ما تُمثِّله"
جون برغر، "طُرُقٌ للرؤية"
ثمَّة مقولة شهيرة تلخِّصُ بكثافة كبيرة أحد التجليَّات الوجوديَّة والميتافيزيقيَّة العليا للقدِّيس أوغسطين St. Augustine في كتابه "الاعترافات". يذهب القديس أوغسطين في تلك المقولة التي ذَهَبَت مثلاً تقريباً إلى أنه: "إن لم يسألني أحد، فأنا أعرف ما الزمن. أما إذا ما رغبتُ في أن أوضِح لمن يسألني (عن الزمن) فأنا لا أعرف (ما الزمن)". وفي الحقيقة، فإنه في ما يخص "الجنس السينمائي" أو "النوع السينمائي" (film genre) ها هو الناقد ستانلي جي سولومُن Stanley J. Solomon يبوح بدوره بقلقٍ أوغسطينيٍّ غامر حين يُقِرُّ بصريح العبارة: "أن مشكلة تعريف النوع لا تبدو كبيرة جداً إلى أن يبدأ المرء في قراءة النُّقاد". وحقاً فإن كتاب سولومُن المؤلَّف بعناية كبيرة وشمائل فائقة في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي، حتى وإن كانت النقاشات النظريَّة قد تجاوزته اليوم، والمعنون "ما وراء الوَصْفَةُ الصِّيغيَّة: أجناس السينما الأمريكية"، قد تنبَّأ على نحوٍ عميق بفيض الكتب والأنثولوجيَّات الأكاديمية الصارمة والدقيقة فيما يخص دراسات الجنس/النوع في السينما الأمريكية التي صدرت في نهاية التسعينيات الآفلة ومع بزوغ فجر القرن الحالي، والتي يمكن للمرء اعتبارها رسالة إلى الألفيَّة الجديدة في ما يخص هذا الموضوع؛ وذلك مثل كتاب أستاذي نِك براون Nick Browne "إعادة تصوُّر الأجناس السينمائية الأمريكية: النظرية والتطبيق" (1998)، وكتاب رِكْ ألتمَن Rick Altman "السينما/النوع" (1999)، وكتاب ستيف نيل Steve Neal "النوع وهوليوود" (2000)، وكتاب ويلر وِنستُن دِكْسُن Wheeler Winston Dixon "النوع السينمائي 2000: أبحاث نقدية جديدة" (2000)، هذا ناهيكم عن عدد كبير من الأبحاث، والمقالات، والسِّجالات، والمناظرات الخاصة بالمسألة، والمنشورة في دوريَّات سينمائيَّة وغير سينمائية لكن أكاديميَّة، وكلها يقع في درجة ومقام الاحترام.
ومن المثير للاهتمام حقاً أن كل تلك الكتابات المهمة ـ التي من نافلة القول إن جميعها قد تم تفكُّره، وبحثه، والتنظير له، ونشره بعد أن تأسست دراسات النوع السينمائي بصورة راسخة باعتبارها فرعاً مهماً من فروع النظرية السينمائية ـ معنيَّة (أي تلك الكتابات) بأجندات وهواجس مختلفة، ودرجات متفاوتة من التركيز الثِّيماتي، بتفكيك الأجناس التي ظهرت مؤخراً في السينما الأمريكية: "غياب الوجه" (facelessness) كما يصف دِكْسُن الأمر بصورة دقيقة ورشيقة للغاية. المهم في الأمر ـ كما أعتقد ـ أن شبح القلق الأوغسطيني الفلسفي الذي باح به سولومُن في منتصف السبعينيات الهالكة لا يزال يسكننا بصورة غائرة في الألفية الحالية أيضاً. وسأجتهد في هذه المداخلة بأن محاججات ألتمَن وغيره من الباحثين المهمين، والذاهبة إلى أن نتاج النوع السينمائي الأمريكي كان هجيناً دوماً، إنما هي محاججات ثريَّة ومُلْهِمةٌ للغاية، ولكنها لا تزال بحاجة إلى نوع من المراجعة النقدية تتيح درجة من النسبيَّة التي يمكن عبرها مقاربة "أفلام الغرب الأمريكي" (أو "أفلام الكاوبوي"، أو "أفلام رعاة البقر"، كما نُعِتَ به الأمر في غير واحدة من الثقافات المستهلِكَة لهذا النتاج الثقافي الأمريكي بامتياز: الـ "Western").
ليس علينا أن نتجادل كثيراً حول ما أصبح معلومات عامة ومعرفة بدهيَّة؛ فالأجناس السينمائية، كما غيرها من الأجناس الفنيَّة والأدبية، ليست كيانات مغلقة ومحروسة على طريقة السجون، أو جزراً معزولة في محيطات متباعدة لا علاقة لها بما يختلط في مياه الحياة ويمتزج في تطورات المشروعات والمساعي الإبداعيَّة، بل والمشاعر الإنسانيَّة في المقام الأول. ومع ذلك فالراجح أن أفلام الغرب الأمريكي الكلاسيكية هي الجنس السينمائي الأمريكي الوحيد الأقل مُقاومَة للتعريف (طبعاً، مع وافر الاحترام للقلق الجليل الذي أبداه كل من القديس أوغسطين وسولومُن)؛ فعلى الرغم من انحسار موجة أفلام الغرب الأمريكي مع بداية السبعينيَّات الغابرة، إلا أن تاريخ ذلك النوع من الأفلام لم يوازِ تاريخ الأمَّة الأمريكية السائد وتأريخها الرسمي (خيال أفلام الغرب الأمريكي يستجيب للمخيال الوطني والميثولوجي ـ بالمعنى الذي يستخدم به رولان بارت Ronald Barthes المفهوم الأخير ـ ـ الأمريكيين بصورة تكاد تكون متطابقة تماماً)، وكذلك تاريخ السينما الأمريكية فحسب؛ ولكن كذلك أن تاريخ نقد النوع السينمائي نفسه ضارب الجذور في أسئلة أفلام الغرب الأمريكي على نحوٍ لا يمكن اقتلاعه أو فصم عراه؛ بحيث أن أي سؤال يمكن توجيهه إلى أصول السينما الأمريكية إنما هو سؤال يوجَّه، في حقيقة الأمر وبالضرورة، إلى نشوء وارتقاء أفلام الغرب الأمريكي.
والحقيقة هي أن الفيلم الأسطوري "سرقة القطار الكبرى" (الذي أخرجه إدوَرد إس بورتر Edward S. Porter في 1903) لم يدشِّن النوع السينمائي الذي صرنا نعرِفه ونعرِّفه بـ"أفلام الغرب الأمريكي" فقط، ولكن ذلك الفيلم قد أسس أيضاً ـ ـ باتفاق يكاد يكون إجماعيَّاً بين منظِّري ومؤرخي السينما -- ما بتنا نعرِفه ونعرِّفه بـ"السينما السرديَّة" أو "السينما الروائيَّة" (narrative film). وإلى هذا فإن أفلام الغرب الأمريكي هي الأكثر أمريكيَّةً في الأجناس السينمائيَّة الأمريكيَّة: إنها "السينما الأمريكيَّة بامتياز" كما يقول أندريه بازَن Andre Bazin بتوكيدٍ كبير. ومع ذلك فإنه على الرغم من تلك الخصوصيَّة التاريخية والثقافية (الأمريكيَّة) التي تحوز عليها أفلام الغرب الأمريكي لاقت تلك النصوص السينمائية قبولاً استهلاكيَّاً عالميَّاً لدرجة تبرع البعض في أقطار شتى من العالم ـ بما في ذلك بلدان من العالم الثالث ـ باستيراد وقصْر روح ذلك الجنس من الأفلام على الثقافات المحليَّة التي لا يوجد فيها مُقابلٌ لتلك القصص والسَّرديات، وذلك عوضاً عن الاحتفاء بما هو موجود فيها أصلاً. لقد اقترح علينا فرانسوا تروفو Truffaut Francois ذات مرة أنه: "عندما يحرز فيلمٌ ما نجاحاً معيَّناً فإنه يصبح حدثاً سوسيولوجيَّاً". ويجوز لي، بتلك العلامة نفسها، أن أوسِّع مقولة تروفو هذه لأقول بثقة غير مرتعشة إن الجنس السينمائي الذي ندعوه "أفلام الغرب الأمريكي " لَحَدَثٌ سوسيولوجيٌّ أيضاً، وبالمعنى الأعمق للعبارة.
لقد شهد تاريخ هذا الجنس السينمائي، كما شهدت تواريخ غيره من الأجناس السينمائيَّة، العديد من التطورات المنبثقة من نتاجات الصناعة السينمائيَّة نفسها، وكذلك تلك الناجمة من مألوفيَّة جمهور المتفرجين لـ"ألاعيب" الأجناس السينمائية عبر المراس، والتجربة، واكتساب المناعة البصريَّة، والقدرة على هضم وإعادة إنتاج "السَّرد المَحْض" (إذا ما نحن اتفقنا مع محمد القاضي وآخرين في "معجم السرديَّات"، دار محمد علي للنشر، تونس، 2010] في تعريب مفهوم الـdiegesis”، أو "العالم السردي الداخلي في النص" (كما قادني فهمي من خلال قراءات أخرى حول المفهوم ذاته)".
جون برغر، "طُرُقٌ للرؤية"
ثمَّة مقولة شهيرة تلخِّصُ بكثافة كبيرة أحد التجليَّات الوجوديَّة والميتافيزيقيَّة العليا للقدِّيس أوغسطين St. Augustine في كتابه "الاعترافات". يذهب القديس أوغسطين في تلك المقولة التي ذَهَبَت مثلاً تقريباً إلى أنه: "إن لم يسألني أحد، فأنا أعرف ما الزمن. أما إذا ما رغبتُ في أن أوضِح لمن يسألني (عن الزمن) فأنا لا أعرف (ما الزمن)". وفي الحقيقة، فإنه في ما يخص "الجنس السينمائي" أو "النوع السينمائي" (film genre) ها هو الناقد ستانلي جي سولومُن Stanley J. Solomon يبوح بدوره بقلقٍ أوغسطينيٍّ غامر حين يُقِرُّ بصريح العبارة: "أن مشكلة تعريف النوع لا تبدو كبيرة جداً إلى أن يبدأ المرء في قراءة النُّقاد". وحقاً فإن كتاب سولومُن المؤلَّف بعناية كبيرة وشمائل فائقة في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي، حتى وإن كانت النقاشات النظريَّة قد تجاوزته اليوم، والمعنون "ما وراء الوَصْفَةُ الصِّيغيَّة: أجناس السينما الأمريكية"، قد تنبَّأ على نحوٍ عميق بفيض الكتب والأنثولوجيَّات الأكاديمية الصارمة والدقيقة فيما يخص دراسات الجنس/النوع في السينما الأمريكية التي صدرت في نهاية التسعينيات الآفلة ومع بزوغ فجر القرن الحالي، والتي يمكن للمرء اعتبارها رسالة إلى الألفيَّة الجديدة في ما يخص هذا الموضوع؛ وذلك مثل كتاب أستاذي نِك براون Nick Browne "إعادة تصوُّر الأجناس السينمائية الأمريكية: النظرية والتطبيق" (1998)، وكتاب رِكْ ألتمَن Rick Altman "السينما/النوع" (1999)، وكتاب ستيف نيل Steve Neal "النوع وهوليوود" (2000)، وكتاب ويلر وِنستُن دِكْسُن Wheeler Winston Dixon "النوع السينمائي 2000: أبحاث نقدية جديدة" (2000)، هذا ناهيكم عن عدد كبير من الأبحاث، والمقالات، والسِّجالات، والمناظرات الخاصة بالمسألة، والمنشورة في دوريَّات سينمائيَّة وغير سينمائية لكن أكاديميَّة، وكلها يقع في درجة ومقام الاحترام.
ومن المثير للاهتمام حقاً أن كل تلك الكتابات المهمة ـ التي من نافلة القول إن جميعها قد تم تفكُّره، وبحثه، والتنظير له، ونشره بعد أن تأسست دراسات النوع السينمائي بصورة راسخة باعتبارها فرعاً مهماً من فروع النظرية السينمائية ـ معنيَّة (أي تلك الكتابات) بأجندات وهواجس مختلفة، ودرجات متفاوتة من التركيز الثِّيماتي، بتفكيك الأجناس التي ظهرت مؤخراً في السينما الأمريكية: "غياب الوجه" (facelessness) كما يصف دِكْسُن الأمر بصورة دقيقة ورشيقة للغاية. المهم في الأمر ـ كما أعتقد ـ أن شبح القلق الأوغسطيني الفلسفي الذي باح به سولومُن في منتصف السبعينيات الهالكة لا يزال يسكننا بصورة غائرة في الألفية الحالية أيضاً. وسأجتهد في هذه المداخلة بأن محاججات ألتمَن وغيره من الباحثين المهمين، والذاهبة إلى أن نتاج النوع السينمائي الأمريكي كان هجيناً دوماً، إنما هي محاججات ثريَّة ومُلْهِمةٌ للغاية، ولكنها لا تزال بحاجة إلى نوع من المراجعة النقدية تتيح درجة من النسبيَّة التي يمكن عبرها مقاربة "أفلام الغرب الأمريكي" (أو "أفلام الكاوبوي"، أو "أفلام رعاة البقر"، كما نُعِتَ به الأمر في غير واحدة من الثقافات المستهلِكَة لهذا النتاج الثقافي الأمريكي بامتياز: الـ "Western").
ليس علينا أن نتجادل كثيراً حول ما أصبح معلومات عامة ومعرفة بدهيَّة؛ فالأجناس السينمائية، كما غيرها من الأجناس الفنيَّة والأدبية، ليست كيانات مغلقة ومحروسة على طريقة السجون، أو جزراً معزولة في محيطات متباعدة لا علاقة لها بما يختلط في مياه الحياة ويمتزج في تطورات المشروعات والمساعي الإبداعيَّة، بل والمشاعر الإنسانيَّة في المقام الأول. ومع ذلك فالراجح أن أفلام الغرب الأمريكي الكلاسيكية هي الجنس السينمائي الأمريكي الوحيد الأقل مُقاومَة للتعريف (طبعاً، مع وافر الاحترام للقلق الجليل الذي أبداه كل من القديس أوغسطين وسولومُن)؛ فعلى الرغم من انحسار موجة أفلام الغرب الأمريكي مع بداية السبعينيَّات الغابرة، إلا أن تاريخ ذلك النوع من الأفلام لم يوازِ تاريخ الأمَّة الأمريكية السائد وتأريخها الرسمي (خيال أفلام الغرب الأمريكي يستجيب للمخيال الوطني والميثولوجي ـ بالمعنى الذي يستخدم به رولان بارت Ronald Barthes المفهوم الأخير ـ ـ الأمريكيين بصورة تكاد تكون متطابقة تماماً)، وكذلك تاريخ السينما الأمريكية فحسب؛ ولكن كذلك أن تاريخ نقد النوع السينمائي نفسه ضارب الجذور في أسئلة أفلام الغرب الأمريكي على نحوٍ لا يمكن اقتلاعه أو فصم عراه؛ بحيث أن أي سؤال يمكن توجيهه إلى أصول السينما الأمريكية إنما هو سؤال يوجَّه، في حقيقة الأمر وبالضرورة، إلى نشوء وارتقاء أفلام الغرب الأمريكي.
والحقيقة هي أن الفيلم الأسطوري "سرقة القطار الكبرى" (الذي أخرجه إدوَرد إس بورتر Edward S. Porter في 1903) لم يدشِّن النوع السينمائي الذي صرنا نعرِفه ونعرِّفه بـ"أفلام الغرب الأمريكي" فقط، ولكن ذلك الفيلم قد أسس أيضاً ـ ـ باتفاق يكاد يكون إجماعيَّاً بين منظِّري ومؤرخي السينما -- ما بتنا نعرِفه ونعرِّفه بـ"السينما السرديَّة" أو "السينما الروائيَّة" (narrative film). وإلى هذا فإن أفلام الغرب الأمريكي هي الأكثر أمريكيَّةً في الأجناس السينمائيَّة الأمريكيَّة: إنها "السينما الأمريكيَّة بامتياز" كما يقول أندريه بازَن Andre Bazin بتوكيدٍ كبير. ومع ذلك فإنه على الرغم من تلك الخصوصيَّة التاريخية والثقافية (الأمريكيَّة) التي تحوز عليها أفلام الغرب الأمريكي لاقت تلك النصوص السينمائية قبولاً استهلاكيَّاً عالميَّاً لدرجة تبرع البعض في أقطار شتى من العالم ـ بما في ذلك بلدان من العالم الثالث ـ باستيراد وقصْر روح ذلك الجنس من الأفلام على الثقافات المحليَّة التي لا يوجد فيها مُقابلٌ لتلك القصص والسَّرديات، وذلك عوضاً عن الاحتفاء بما هو موجود فيها أصلاً. لقد اقترح علينا فرانسوا تروفو Truffaut Francois ذات مرة أنه: "عندما يحرز فيلمٌ ما نجاحاً معيَّناً فإنه يصبح حدثاً سوسيولوجيَّاً". ويجوز لي، بتلك العلامة نفسها، أن أوسِّع مقولة تروفو هذه لأقول بثقة غير مرتعشة إن الجنس السينمائي الذي ندعوه "أفلام الغرب الأمريكي " لَحَدَثٌ سوسيولوجيٌّ أيضاً، وبالمعنى الأعمق للعبارة.
لقد شهد تاريخ هذا الجنس السينمائي، كما شهدت تواريخ غيره من الأجناس السينمائيَّة، العديد من التطورات المنبثقة من نتاجات الصناعة السينمائيَّة نفسها، وكذلك تلك الناجمة من مألوفيَّة جمهور المتفرجين لـ"ألاعيب" الأجناس السينمائية عبر المراس، والتجربة، واكتساب المناعة البصريَّة، والقدرة على هضم وإعادة إنتاج "السَّرد المَحْض" (إذا ما نحن اتفقنا مع محمد القاضي وآخرين في "معجم السرديَّات"، دار محمد علي للنشر، تونس، 2010] في تعريب مفهوم الـdiegesis”، أو "العالم السردي الداخلي في النص" (كما قادني فهمي من خلال قراءات أخرى حول المفهوم ذاته)".