كثيرا ما يقال في أثناء قراءة عمل أدبي وخاصة الرواية، في حالة الوقوف أمام وصف متقن بأنه يشبه وصف الكاميرا. لا شك أن الكاميرا وخاصة السينمائية قطعت أشواطا كبيرة في إتقان التصوير وتقريبه- وأحيانا بمشاعر صامتة فياضة - للمتلقي. الكاميرا تطورت إلى درجة أنه يمكننا الاستغناء أحيانا عن الكلام في فيلم كامل، كما يحدث مثلا مع السينما التعبيرية (ظهرت أول مرة في ألمانيا) التي تعتمد على تكثيف مشاعر اللقطة كما تنفتح تقنياتها على الفن التشكيلي والمؤثرات الموسيقية. هذه المدرسة فتحت مسارا مهما استفادت منه حتى سينما الحركة لإضفاء قيمة تعبيرية على بعض لقطاتها، بحيث يكون وقعها أكبر من الكلام والتعبير المباشر، كما أصبحت دلالة تميز.
ولكن يجب الاعتراف هنا بأن الوصف السينمائي - عبر الكاميرا- لا يمكن أن يتفوق على اللغة. فحين نقول أن الوصف الفلاني متقن إلى درجة أنه يشعرك وكأنك تشاهد لقطة سينمائية، فهذا أمر مقبول إلى حدود إمكانيات هذه الكاميرا من تصوير دقيق. ولكن الكاميرا لا يمكنها أن تصور كل شيء، أولا لأنها ما تزال عاجزة عن عكس مجموعة من الأمور سيأتي الحديث عليها، وثانيا لأنها ما زالت في طور التطور. وهذا دليل على احتياجاتها التقنية (ونقصها) الذي يدفعها إلى البحث في كل مرة عن نقلة جديدة.
ولكن اللغة في وصفها تتفوق بمراحل عن عين الكاميرا، وأهم أسباب هذا التفوق هو وإن كانت الكاميرا في بلاغتها تتمكن من نقل ليس الصورة العينية فقط، إنما كذلك حتى المشاعر المصاحبة لها، ولكن الكاميرا تنقل الصور بإمكانياتها الذاتية وتنقل المشاعر بالاستعانة بمؤثرات خارجية كالموسيقى والديكور واللبس مثلا. ستفهم مثلا حين ترى طفلا رث الثياب ملطخ وجهه بأنه يعيش حياة فقيرة بائسة وحين يتم إدخال مؤثر موسيقي حزين مثلا، ستفهم أن حياته ليست بائسة فقط إنما كذلك حزينة. ولكن اللغة تفعل ما هو أكبر. اللغة في الحقيقة لا حدود لإمكاناتها، وما تفعله من الصعوبة أن تنقله الكاميرا بتفاصيله. لذلك نرى أن الأفلام المأخوذة عن الروايات لا تغني عن قراءة الروايات. بل العكس صحيح. يمكنك مثلا مشاهدة مئات الأفلام التي استمدت مادتها الدرامية من كتاب ألف ليلة وليلة، حيث عملت عن هذا الكتاب العربي الخالد أفلام لا حدود لها في الغرب واليابان وبلدان كثيرة، والعرب للأسف لم يستثمروا كتابهم. ولكن هذه الأفلام لا يمكن أن تغنينا عن قراءة الكتاب العربي الخالد، بل يمكنك أن تستغني عنها لصالح الكتاب. وعلى ذكر ألف ليلة وليلة هناك من يصنفه على أنه أدب رخيص، وفي ذلك مغالاة. وأتذكر أن المعجمي عبد الغني أبو العزم قد أورد في قاموسه فصلا كاملا مليء بالشواهد على حضور الجانب الديني في ألف ليلة وليلة. حيث إنها تستعين في محكياتها بالقرآن الكريم والسنة النبوية والشعر (وهذا ليس صلب حديثنا) فما تراه من وصف في ألف ليلة وليلة لا يمكن أن تعكسه الكاميرا بسهولة. بل إنه حتى في الشعر، كيف مثلا يمكنك أن تصور (بالكاميرا) هذا البيت (المصور باللغة) للمتنبي الذي يجعل للجوزاء أذنا تسمع دوي المعارك. في بيت محدود يجمع المتنبي بقدراته العظيمة جيشا كاملا، بل كذلك الأرض شرقها وغربها ويدخل معها حتى الجوزاء: "خميس بشرق الأرض والغرب زحفه- وفي أذن الجوزاء منه زمازم"
أو هذا البيت لأبي تمام في وصف معركة عمورية، الذي يجعل القارئ يشعر بطعم الحليب الذي يخرج ممزوجا بالعسل من ضرع الشياه: "يا يوم وقعة عمّورية انصرفت - منك المنى حُفَّلا معسولة الحَلَب
والحفل هي الشاة أو الناقة الحلوب. وكيف شبه المنى بهذا الوصف الآسر. والأمثلة في الشعر كثيرة. وإذا تحدثنا عن الوصف في الرواية اكتشفنا بأن الصورة رغم أهميتها الكبيرة لا يمكنها أن توفيه حقه، فاللغة لديها القدرات الهائلة وما يسندها من تشبيهات واستعارات على نقل ليس فقط الصورة المتاحة، إنما حتى بث الحركة فيها وإيصالها إلى أقصى حدودها من التعبير، سأورد هنا مثالا واحدا على روايات حولت إلى أفلام، فحين قرأت رواية "بقايا اليوم" لكارو إيشي جيرو، الفائز بجائزة نوبل، في صفحات وصفه الساحر للريف البريطاني، شعرت بقوة الكلمات. ولكنّي حين شاهدت الفيلم رأيت أن الكاميرا استطاعت أن تنقل كل شيء، ولكنها وقفت عاجزة أمام نقل الانفعالات ومساحات التأمل التي احتشدت أثناء قراءتي للوصف البارع للكاتب.
ولكن يجب الاعتراف هنا بأن الوصف السينمائي - عبر الكاميرا- لا يمكن أن يتفوق على اللغة. فحين نقول أن الوصف الفلاني متقن إلى درجة أنه يشعرك وكأنك تشاهد لقطة سينمائية، فهذا أمر مقبول إلى حدود إمكانيات هذه الكاميرا من تصوير دقيق. ولكن الكاميرا لا يمكنها أن تصور كل شيء، أولا لأنها ما تزال عاجزة عن عكس مجموعة من الأمور سيأتي الحديث عليها، وثانيا لأنها ما زالت في طور التطور. وهذا دليل على احتياجاتها التقنية (ونقصها) الذي يدفعها إلى البحث في كل مرة عن نقلة جديدة.
ولكن اللغة في وصفها تتفوق بمراحل عن عين الكاميرا، وأهم أسباب هذا التفوق هو وإن كانت الكاميرا في بلاغتها تتمكن من نقل ليس الصورة العينية فقط، إنما كذلك حتى المشاعر المصاحبة لها، ولكن الكاميرا تنقل الصور بإمكانياتها الذاتية وتنقل المشاعر بالاستعانة بمؤثرات خارجية كالموسيقى والديكور واللبس مثلا. ستفهم مثلا حين ترى طفلا رث الثياب ملطخ وجهه بأنه يعيش حياة فقيرة بائسة وحين يتم إدخال مؤثر موسيقي حزين مثلا، ستفهم أن حياته ليست بائسة فقط إنما كذلك حزينة. ولكن اللغة تفعل ما هو أكبر. اللغة في الحقيقة لا حدود لإمكاناتها، وما تفعله من الصعوبة أن تنقله الكاميرا بتفاصيله. لذلك نرى أن الأفلام المأخوذة عن الروايات لا تغني عن قراءة الروايات. بل العكس صحيح. يمكنك مثلا مشاهدة مئات الأفلام التي استمدت مادتها الدرامية من كتاب ألف ليلة وليلة، حيث عملت عن هذا الكتاب العربي الخالد أفلام لا حدود لها في الغرب واليابان وبلدان كثيرة، والعرب للأسف لم يستثمروا كتابهم. ولكن هذه الأفلام لا يمكن أن تغنينا عن قراءة الكتاب العربي الخالد، بل يمكنك أن تستغني عنها لصالح الكتاب. وعلى ذكر ألف ليلة وليلة هناك من يصنفه على أنه أدب رخيص، وفي ذلك مغالاة. وأتذكر أن المعجمي عبد الغني أبو العزم قد أورد في قاموسه فصلا كاملا مليء بالشواهد على حضور الجانب الديني في ألف ليلة وليلة. حيث إنها تستعين في محكياتها بالقرآن الكريم والسنة النبوية والشعر (وهذا ليس صلب حديثنا) فما تراه من وصف في ألف ليلة وليلة لا يمكن أن تعكسه الكاميرا بسهولة. بل إنه حتى في الشعر، كيف مثلا يمكنك أن تصور (بالكاميرا) هذا البيت (المصور باللغة) للمتنبي الذي يجعل للجوزاء أذنا تسمع دوي المعارك. في بيت محدود يجمع المتنبي بقدراته العظيمة جيشا كاملا، بل كذلك الأرض شرقها وغربها ويدخل معها حتى الجوزاء: "خميس بشرق الأرض والغرب زحفه- وفي أذن الجوزاء منه زمازم"
أو هذا البيت لأبي تمام في وصف معركة عمورية، الذي يجعل القارئ يشعر بطعم الحليب الذي يخرج ممزوجا بالعسل من ضرع الشياه: "يا يوم وقعة عمّورية انصرفت - منك المنى حُفَّلا معسولة الحَلَب
والحفل هي الشاة أو الناقة الحلوب. وكيف شبه المنى بهذا الوصف الآسر. والأمثلة في الشعر كثيرة. وإذا تحدثنا عن الوصف في الرواية اكتشفنا بأن الصورة رغم أهميتها الكبيرة لا يمكنها أن توفيه حقه، فاللغة لديها القدرات الهائلة وما يسندها من تشبيهات واستعارات على نقل ليس فقط الصورة المتاحة، إنما حتى بث الحركة فيها وإيصالها إلى أقصى حدودها من التعبير، سأورد هنا مثالا واحدا على روايات حولت إلى أفلام، فحين قرأت رواية "بقايا اليوم" لكارو إيشي جيرو، الفائز بجائزة نوبل، في صفحات وصفه الساحر للريف البريطاني، شعرت بقوة الكلمات. ولكنّي حين شاهدت الفيلم رأيت أن الكاميرا استطاعت أن تنقل كل شيء، ولكنها وقفت عاجزة أمام نقل الانفعالات ومساحات التأمل التي احتشدت أثناء قراءتي للوصف البارع للكاتب.