بدر بن عبدالله الهنائي

قد يكون من أكبر التحديات التي تواجه بعض العلوم الإنسانية الناشئة أو الآخذة في التطور هو عدم ثبات تعريفاتها أو حتى مسمياتها. وينطبق ذلك على العلم الذي صار الكلمة المفتاحية التي نميل إلى استخدامها كأداة سحرية عند حديثنا عن تطويع سلوك المجتمعات أو الأفراد أو مدى احتمالية تقبلهم لسياسات أو منتجات أو خدمات أو ممارسات أو أفكار؛ وهو علم السلوك. غير أن من أكثر الأسماء شيوعا لهذا العلم - وربما أبعدها عن المعنى الدقيق له - هو الاقتصاديات السلوكية أو الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics، وهو الاسم الذي ارتبط بالعلم مع نشأته الحديثة على يد الاقتصادي الأمريكي البروفيسور ريتشارد ثيلر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 2017 ومؤلف كتاب (التنبيه Nudge) عام 2008 الذي يعتبر المرجع الرئيسي لعلم السلوك بصورته الحديثة.

ويتلخص مفهوم هذا العلم في القدرة على التأثير على سلوك الأفراد دون تدخل مباشر ودون وجود حافز مادي لهم من أجل اتخاذ قرار معين. ويميل البعض إلى تسمية هذا العلم بـ «هندسة الخيارات»، إذ يتمحور دور هذا العلم في تقديم خيارات بحيث يكون لأي تغيرات طفيفة في البيئة المحيطة بعملية اتخاذ القرار أو السياق المرتبط به تأثير مباشر على القرارات التي يتم اتخاذها. ويحوي هذا العلم العديد من النظريات والتحيزات Biases التي أثبتتها تجارب واقعية على أشخاص حقيقيين، وهي تلخص في مجملها الفكرة التي تقول بأن الأفراد عموما لا يتخذون قراراتهم بناء على المنطق، وإنما بناء على تلك النظريات أو التحيزات التي تكون أدمغتهم قد تبرمجت عليها دون وعي منهم. ومن أبسط تلك التحيزات على سبيل المثال تحيز تجنب الخسارة Loss-Aversion Bias والذي ينص على أن الناس في الغالب يميلون إلى اتخاذ الخيار الذي يضمن تجنيبهم لأي خسارة محتملة؛ كأن تكون رسالة إعلانية بهذه الصيغة: «لا تفوت هذا العرض الترويجي» عوضا عن أن تكون: «استفد من هذا العرض الترويجي»، وتأثير آيكيا Ikea Effect الذي يتمحور حول شعور الأفراد بالانتماء أو العلاقة الوطيدة تجاه الشيء الذي كانوا جزءا من صناعته - وذلك بإسقاط نموذج قيام الشخص بتركيب قطع الأثاث التي اشتراها من متجر آيكيا بنفسه وشعوره بالفخر تجاهه - وهو ما قد يرتبط بممارسات مثل المشاركة المجتمعية أو إشراك الأطراف ذات العلاقة في موضوع ما.

ويمكن النظر إلى علم السلوك على أنه علم متعدد الأوجه المتعلقة بالسلوك البشري؛ فهو يرتبط إلى حد كبير بأساسيات علم النفس وتفرعاته مثل علم الأعصاب والإدراك وعلم النفس الاجتماعي، بالإضافة إلى تقاطعه مع مجالات متعددة مثل السياسات العامة والاقتصاد والتواصل. وبينما تتمحور الغاية من التواصل في إحداث التأثير المرغوب، فقد يكون من المنطقي أن يعزز من دوره ارتباطه بعلم السلوك من أجل ضمان نتائج أفضل فيما يتعلق باستجابة الأفراد تجاه الرسائل الاتصالية واستمالتهم لاتخاذ الخيار المرغوب من قبل الطرف المُرسِل للرسالة الاتصالية.

إن إحدى أبرز التجارب التي يتم الاستشهاد بها عند محاولة الربط بين التواصل وعلم السلوك هي ما قام به ريتشارد بيرنيز مؤسس علم العلاقات العامة ومؤلف الكتاب الشهير «الدعاية Propaganda» والذي كان قد أسس وكالة تقدم خدمات العلاقات العامة لعدد من الشركات في عشرينيات القرن الماضي. حيث كان ضمن الشركات التي يقدم إدوارد خدماته لها شركة أمريكية تبيع منتجات اللحوم، وقد لجأت الشركة إلى إدوارد من أجل تقديم حلول وأفكار لكيفية زيادة مبيعات الشركة من اللحم المقدد. وعوضا عن لجوء إدوارد إلى زيادة موازنات الإعلان لمنتجات الشركة، قام بتوجيه سؤال بسيط لطبيب يعمل ضمن وكالة العلاقات العامة الخاصة به - وهو أمر مثير للاهتمام بحد ذاته - حول مقدار القيمة الغذائية المتحققة لو استبدل الأمريكان وجبات إفطارهم الخفيفة المكونة من لفافة خبز بحشوة بسيطة مع كوب من القهوة أو عصير البرتقال بوجبة إفطار أكبر تحوي اللحم المقدد، فكان جواب الطبيب بأن وجبة الإفطار الأكبر مع اللحم المقدد تشكل قيمة غذائية أفضل بالنسبة لجسم الإنسان. ثم طلب إدوار من الطبيب توجيه تلك الفرضية إلى شبكة من خمسة آلاف طبيب من مختلف أنحاء أمريكا، حيث بلغ عدد الأطباء الذين أكدوا صحة تلك الفرضية أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة طبيب، ليقوم إدوارد بعد ذلك بصياغة خبر تم نشره عبر مختلف الصحف الأمريكية بعنوان «أربعة آلاف وخمسمائة طبيب يحثون الأمريكان على تناول وجبات إفطار أكبر» مع ربط محتوى ذلك الخبر بأهمية وجود البيض واللحم المقدد ضمن وجبة الإفطار. وكنتيجة لذلك التوجه فإن بعض المؤشرات تفيد بأن ما يصل إلى سبعين بالمائة من استهلاك اللحم المقدد يكون على موائد الإفطار، كما أصبح اللحم المقدد والبيض من أشهر سمات الثقافة الأمريكية.

في المقابل فإن عددا من نظريات علم السلوك تفسر في بعض الأحيان عدم إقبال الأفراد على الحصول على الرسائل الاتصالية أو عدم تقبلهم لها أو حتى إنكارها، حيث تفيد ورقة علمية أعدتها شركة ديلويت لاستشارات الأعمال بأن الأفراد يميلون إلى البحث عن المعلومات طالما أن كلفة الحصول عليها - سواء من ناحية الجهد أو الوقت أو حتى المال - أقل من الفائدة المتحققة من معرفة تلك المعلومات، والذي قد يرتبط - ولو على سبيل الطرافة - بالمثل العربي «خبر اليوم بفلوس وباكر ببلاش». كما أنه ومع تطبيق نموذج «الرسالة والرسول والجمهور» فإن مدى تقبل الأفراد - أي الجمهور - للرسائل الاتصالية السلبية من منظورهم قد يكون مرهونا بطبيعة الرسول (ناقل الرسالة) وهو ما يحدد مدى إعطاء الجمهور «الأذن الصماء» للرسول والرسالة.

إن الإلمام بمدى ارتباط التواصل بعلم السلوك لا يمكن أن يختزل في مساحة مختصرة، ولكن من حيث المبدأ فإن الأمر يدعو إلى استكشاف الآفاق الرحبة التي يمكن أن تنعكس عن العلاقة بين العلمين، وخصوصا في وقت تلعب فيه وسائل التواصل والإعلام دورا محوريا في تشكيل خيارات الأفراد، وتسعى الحكومات والمؤسسات فيه إلى تذليل العقبات من أجل إحداث التغيير المنشود في سلوك الأفراد.